رغم كل الرهانات الإسرائيليّة، مازال الشباب الجولاني يبدي علامات المقاومة في وجه محاولات تطبيع الاحتلال ومشاريع دمج الجولان بالداخل الإسرائيلي.
علي نور الدين
خلال الأعوام الماضية، راهنت إسرائيل على تطبيع احتلالها منطقة الجولان في الجنوب السوري، بالاستناد إلى مجموعة من المؤشّرات والتطوّرات المستجدة، ومنها تزايد عدد طالبي الجنسيّة الإسرائيليّة في صفوف دروز الجولان.
بهذا الشكل، تعتبر إسرائيل أنّ هناك تلاشيًا في الروابط السياسيّة والاجتماعيّة التي تجمع أهل الجولان المحتل بالداخل السوري، وهذا ما يمهّد لدمج الجولان سياسيًا بإسرائيل. أمّا الهدف النهائي، فهو طمس قضيّة احتلال هذا الجزء من سوريا وطوي صفحتها، بشكل هادئ ومتدرّج، بعد الاستفادة من التفكك السياسي الذي تشهده سوريا اليوم.
لكن في المقابل، يعترض أهالي الجولان بشدّة ويرفضون كلّ مشروع يهدف من خلاله الاحتلال إلى تعزيز حضوره الاستيطاني في المنطقة ودمج المنطقة اقتصاديًا واجتماعيًا بالداخل الإسرائيلي. كما تتكرّر المناسبات التي يظهر من خلالها أن الغالبيّة الساحقة من الجولانيين مازالوا يرفضون التسليم والاعتراف بالسيادة الإسرائيليّة على الجولان، ما يمثّل تحديًا كبيرًا للمخططات والنوايا الإسرائيليّة.
بالنتيجة، لم تنجح إسرائيل بعد بابتلاع الجولان وتنفيذ خطّة ضمّه رسميًا إليها، بالرغم من وجود قانون إسرائيليّ ينص على ذلك منذ العام 1981، وبمعزل عن اعتراف الولايات المتحدة الأميركيّة بضم الجولان إلى إسرائيل عام 2019.
وهذا الواقع لا يرتبط فقط برفض الأمم المتحدة الاعتراف بسيادة إسرائيل على المنطقة، واعتبارها أنّ الوجود الإسرائيلي هناك مجرّد احتلال لا يرتّب أي آثار قانونيّة، بل يرتبط أيضًا برفض القوى المجتمعيّة الجولانيّة هذا الواقع حتّى هذه اللحظة.
الرهان التاريخي على دمج الجولان بإسرائيل
في حزيران/يونيو من العام 1967، شنّت إسرائيل حربًا خاطفة على ثلاث دول عربيّة مجاورة لها، هي سوريا والأردن ومصر. وخلال ستّة أيّام من تلك الحرب، تمكنت إسرائيل من الاستيلاء على شبه حزيرة سيناء في مصر، والضفّة الغربيّة والقدس الشرقيّة التي كانت تحت الإدارة الأردنيّة، بالإضافة إلى مناطق واسعة من الجنوب السوري، وصولًا إلى مدينة القنيطرة.
وبعد أقل من خمسة أسابيع من انتهاء الحرب، بدأ أوّل مشروع إستيطانيّ في الجولان في يوليو/تمّوز 1967، تحت ستار مخيّمات العمل الهادفة إلى جمع قطعان الأبقار المشتتة في المنطقة.
وهكذا، أقيمت أوّل مستوطنة إسرائيليّة، وهي “مروم جولان”، لتنضم إليها لاحقًا 33 مستوطنة يقطنها حاليًا 27 ألف إسرائيلي. وبعد عام واحد من السيطرة على الجولان، أعلنت إسرائيل عام 1968 عن أمر عسكري يقضي بالسيطرة الإداريّة على أكثر من 100 نبع ماء في تلك المنطقة، بهدف بناء نحو 40 مجمعًا مائيًا وبركة اصطناعيّة، لري المزروعات في الداخل الإسرائيلي والمستوطنات المُقامة على هضبة الجولان.
لاحقًا، تمكنت سوريا من استعادة مدينة القنيطرة، بالإضافة إلى مساحات أخرى محتلّة من قبل إسرائيل، بموجب اتفاقيّة فض الاشتباك بين الطرفين عام 1974، إلا أنّ إسرائيل أصرّت على الاحتفاظ بهضبة الجولان منذ ذلك الوقت. وبدا من الواضح أن الاهتمام الإسرائيلي بهضبة الجولان يرتبط بمسائل استراتيجيّة، مثل ارتفاع المنطقة وقدرتها على كشف مساحات واسعة من الداخل الإسرائيلي، وغنى المنطقة بالموارد المائيّة والمساحات الزراعيّة الخصبة.
ولهذا السبب، ظهرت منذ البداية رهانات إسرائيل على قضم الهضبة ودمجها بالأراضي الإسرائيليّة، من خلال تهجير سكّان الجولان العرب الأصليين وإحلال مستوطنين إسرائيليين مكانهم. فقبل احتلال المنطقة، كان العرب السوريون يشغلون نحو 113 قرية، و112 مزرعة، في منطقة الجولان، وبعدد سكان إجمالي يقارب ال138 ألف نسمة.
لاحقًا، وبعد تهجير السكّان الأصليين على دفعات، لم يتبقَ في تلك المنطقة سوى ست قرى عربيّة فقط، يسكنها اليوم نحو 27 ألف نسمة. ورغم محاولة سكّان الكثير من القرى العودة إلى بيوتهم بعد الحرب، حرصت إسرائيل على إفشال هذه المحاولات، عبر الإبقاء على مساحات واسعة من الجولان كمناطق عسكريّة محظورة.
في المقابل، وقبل أشهر قليلة فقط من توقيع اتفاقيّة فض الاشتباك عام 1974، أنشأت إسرائيل المجلس الإقليمي للاستيطان في الجولان، الذي وضع يده على جميع الأراضي الموجودة في منطقة الجولان، باستثناء المناطق الواقعة ضمن القرى العربيّة الستّ. ومنذ ذلك الوقت، تولّى المجلس وضع خطط توطين السكّان الإسرائيليين الجدد، وربط المستوطنات الجديدة بالبنية التحتيّة الإسرائيليّة، تمهيدًا لدمج الجولان بالداخل الإسرائيلي.
هكذا، ومنذ احتلال الجولان، لم تتعامل إسرائيل مع تلك المنطقة كمنطقة مُحتلّة بشكل مؤقّت، كما كان الحال في جنوب لبنان مثلًا، بل تعاملت معها كمساحة تحاول قضمها واستيطانها واستغلال مواردها على المدى البعيد. وهذا ما يفسّر عدم تفاوض الإسرائيليين جديًا على أي مقترح يمكن أن يفضي إلى إعادة الجولان إلى السيادة السوريّة، مقابل توقيع اتفاق سلام نهائي، كما جرى مع مصر بعد انسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء.
وفي العام 1981، وبعد سبع سنوات فقط من توقيع اتفاق فض الاشتباك، صدّق الكينيست الإسرائيلي على “قانون الجولان”، الذي فرض القانون والقضاء والإدارة الإسرائيليّة على هضبة الجولان، ما عنى وضع المنطقة عمليًا تحت السيادة الإسرائيليّة.
مقاومة دروز الجولان التاريخيّة الاحتلال
ورغم كل ذلك، ظلّت إسرائيل تواجه طوال العقود الماضية رفض سكّان القرى العربيّة الستّ محاولات تجنيسهم واعتبارهم مواطنين إسرائيليين، كما رفض هؤلاء محاولات ربط قراهم سياسيًا واجتماعيًا بالداخل الإسرائيلي.
وبذلك، تميّز دروز الجولان عن الدروز العرب الموجودين في الداخل الإسرائيلي، الذين استحصلوا –بعد الإعلان عن دولة إسرائيل- على الجنسيّة الإسرائيليّة، وخضع معظم شبابهم للتجنيد الإجباري في الجيش الإسرائيلي أُسوة بالشباب اليهود.
ففي العام 1982، اختار دروز الجولان اللجوء إلى “المقاومة اللاعنفيّة”، فأعلنوا إضرابًا استمرّ ستّة أشهر متواصلة، رفضًا لفرض الجنسيّة الإسرائيليّة عليهم، واعتراضًا على محاولة إسرائيل إدارة القرى الجولانيّة من خلال مجالس محليّة مرتبطة بالسلطات الإسرائيليّة. ثم عادت مقاومة الجولانيين لتتجدد عام 1987، مع الانتفاضة التي أعلنها سكّان قرية “مجدل شمس”، أكبر قرى الجولان المحتل، رفضًا لمنح سكان القرية بطاقات هويّة إسرائيليّة.
بالنتيجة، لم تتجاوز نسبة الجولانيين الذين استحصلوا على الجنسيّة الإسرائيليّة أكثر من 19%، بعدما فشلت إسرائيل في فرض إجراءات تلزم الجولانيين بحمل هذه الجنسيّة، فيما تُرك خيار الاستحصال على هذه الجنسيّة طوعيًا لمن يريد من سكان الجولان.
وفي الوقت عينه، فشلت إسرائيل في تأمين مشاركة الجولانيين في انتخابات المجالس المحليّة، كما فشلت في دفعهم للانخراط بالحياة السياسيّة الإسرائيليّة. فعلى سبيل المثال، لم يصوّت في مدينة عين شمس سوى 272 جولاني، من أصل 12 ألف مقيم في القرية، في انتخابات المجلس المحلّي عام 2018، التي نظر إليها الجولانيون كمحاولة لتشريع الاحتلال الإسرائيلي المنطقة.
وبذلك، تحوّلت معارضة الجولانيين هذا الاحتلال إلى العقبة الأساسيّة التي تحول دون تنفيذ المخططات الإسرائيليّة، التي حاولت تطبيع احتلال المنطقة وتجاوز قضيّتها. كما فشلت إسرائيل في تكرار نموذج علاقتها مع الدروز العرب في المناطق المحتلّة عام 1948، بالرغم من مرور أكثر من نصف قرن على احتلال إسرائيل هضبة الجولان.
إسرائيل تراهن على تحوّلات اجتماعيّة وسياسيّة في الجولان
خلال الأعوام الماضية، باتت إسرائيل تراهن على مجموعة من التحولات السياسيّة والاجتماعيّة، بهدف عكس هذا المسار والتمكن من دمج الجولانيين بالداخل الإسرائيلي. أمّا أبرز هذه التحوّلات، فهو الارتفاع التدريجي والبطيء الذي حصل منذ العام 2018، في أعداد الجولانيين المستحصلين طوعًا على الجنسيّة الإسرائيليّة.
فخلال العام 2021 مثلًا، تقدّم نحو 239 جولاني بطلبات للحصول على الجنسيّة الإٍسرائيليّة، مقارنة ب75 طلب فقط قبل أربع سنوات، خلال العام 2017، ما عكس زيادة بنسبة 218% بين الفترتين. وخلال النصف الأوّل فقط من العام 2022، وصل هذا العدد إلى حدود ال206 طلبات، ما يشير إلى أن عدد الطلبات الإجمالي خلال ذلك العام تجاوز بأشواط مثيله في العام السابق.
ورغم تواضع هذه الأعداد، مقارنة بعدد السكّان العرب في الجولان، البالغ 27 ألف نسمة، إلا أنّ هذه التحوّلات تدفع إسرائيل للتفاؤل بإمكانيّة تليين موقف الجولانيين تجاهها، وخصوصًا إذا قدّمت لهم ما يكفي من حوافز اقتصاديّة. كما تراهن إسرائيل على إمكانيّة رفع نسبة الجولانيين الحاصلين على الجنسيّة الإسرائيليّة على المدى البعيد، بفعل تراكم وتزايد عدد هذه الطلبات بشكل تدريجي كل سنة.
تتعدّد التحليلات التي تحاول تفسير ارتفاع عدد الجولانيين المتقدمين بطلبات للحصول على الجنسيّة الإسرائيليّة. لكنّ السبب الأبرز والأوضح يكمن في الأحداث العسكريّة التي تشهدها سوريا منذ العام 2011، والتي أسهمت في قطع علاقات المجتمع الجولاني بالعاصمة دمشق على المستوى الاجتماعي.
مع الإشارة إلى أنّ عددًا كبيرًا من المعارك وقع تحديدًا في مناطق درعا والقنيطرة، الواقعة على الطرق التي تربط ما بين الجولان وسائر المدن السوريّة. كما أدّت هذه الاشتباكات إلى إقفال معبر القنيطرة، الذي كان يسمح للجولانيين بالدخول إلى المناطق السورية للدراسة والعمل، طيلة أربع سنوات متتالية.
وعلى المستوى السياسي، ساهمت النزاعات المسلّحة في إضعاف رهان الجولانيين على النظام السوري وتأييدهم له، بعدما كانوا ينظرون سابقًا بإيجابيّة إلى مواقفه الرافضة الصلح مع إسرائيل قبل تسوية ملف الجولان المحتل. أمّا الأهم، فهو أن الجولانيين باتوا على ثقة بأنّ الدولة السوريّة المفككة والمنهكة، جرّاء الحرب القائمة، لم تعد تملك أي أوراق قوّة تسمح لها بالتفاوض لاستعادة الجولان، بعد مرور أكثر من 56 سنة على احتلال إسرائيل المنطقة.
أمّا على المستوى الديموغرافي، فثمّة جيل كامل من الجولانيين الذين بلغوا سن الشباب، منذ العام 2012، من دون أن تربطهم بدمشق أو سائر المدن السوريّة سوى حكايات الأهل والأقارب، بفعل الحرب السوريّة. وهذا ما تسعى إسرائيل إلى استغلاله اليوم، من خلال ربط هذا الجيل بسوق العمل الإسرائيلي، كبديل عن الروابط الاقتصاديّة التي لطالما جمعت الجولانيين بالشام ودرعا والقنيطرة.
بوادر المقاومة مستمرّة
رغم كل هذه الرهانات الإسرائيليّة، مازال الشباب الجولاني يبدي علامات المقاومة، في وجه مشاريع دمج الجولان بالداخل الإسرائيلي.
ففي يونيو/حزيران 2023، استقدم الجيش الإسرائيلي تعزيزات ضخمة إلى الجولان المحتل، لمحاولة فرض مشروع “توربينات هوائيّة” في مناطق تابعة لقريتي مجدل شمس ومسعدة. وجاء هذا المشروع كجزء من رؤية الحكومة الإسرائيليّة الهادفة إلى تحويل الجولان إلى “عاصمة تكنولوجيّة للطاقة المتجددة” بحلول العام 2030، بما يحوّل المنطقة إلى مصدر أساسي للكهرباء بالنسبة إلى إسرائيل من جهة، وبما يساعد في ربط الجولان اقتصاديًا وتنمويًا بالبنية التحتيّة الإسرائيليّة من جهة أخرى.
وبالتوازي مع هذا التوجّه، تسعى إسرائيل من خلال هذا النوع من المشاريع إلى زيادة فرص العمل، التي تساعد في توطين المزيد من الإسرائيليين في المنطقة.
سرعان ما تنبّه الجولانيون إلى مخاطر هذا المشروع على المدى البعيد، من جهة مساهمته في تطبيع الاحتلال الإسرائيلي ومشاريعه في أراضيهم. وهكذا، اندلعت احتجاجات صاخبة بهدف عرقلة العمل في هذا المشروع، كما تراجع المزارعون الجولانيون عن العقود التي أجّروا بموجبها أراضيهم لإقامة التوربينات، بعدما كانوا قد وقّعوا هذه العقود قبل أن يتبيّن لهم حجم وأهداف هذا المشروع.
بالنتيجة، وبحلول شهر يوليو/تمّوز 2023، اضطر رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو إلى تأجيل العمل في هذا المشروع، بعدما تيقّن من استحالة فرضه على أهالي القرى العربيّة.
وأظهرت الأحداث المرتبطة بمشروع التوربينات أن الجولانيين لم يفقدوا بعد روحيّة الاعتراض على الاحتلال القائم في منطقتهم، إذ اندفع المزارعون الجولانيون إلى عرقلة المشروع لأهداف سياسيّة صرف، بالرغم من الأرباح الماليّة التي كان يمكن أن تتأتّى من تأجير أراضيهم لإقامتها.
ورغم تفاؤل إسرائيل بزيادة أعداد طالبي الجنسيّة الإسرائيليّة، بات من الواضح أن أعداد المجنّسين مازالت تقل عن خُمس عدد الجولانيين الإجمالي. وهذا ما يشير بوضوح إلى أنّ الغالبيّة الساحقة من الجولانيين مازالت ترفض فكرة تجنيسهم في إسرائيل، على الرغم من التسهيلات التي يمكن أن تأتي مع الجنسيّة الإسرائيليّة.
ولذلك، يمكن القول إنّ إسرائيل مازالت تواجه الفشل في مسعاها لإنهاء قضيّة الجولان، رغم كل الظروف السياسيّة التي أضعفت هذه القضيّة مؤخّرًا.