يواصل أهل نابلس، معقل المقاومة في فلسطين، رفض الإذلال الذي يفرضه عليهم الاحتلال الإسرائيلي سالباً إياهم حرياتهم بشكل ممنهج. وبينما تصعّد إسرائيل غاراتها وتسمح بتوسع المستوطنات وعنف المستوطنين، وجد جيل صامد جديد من الفلسطينيين الشباب طرقاً جديدة للمقاومة.
“كيف نصمت وهم يقتلون أطفالنا أمام أعيننا؟”.
تقرير لنينو أورتو من نابلس
كتابة: نينو أورتو
تحرير: إريك برنس
تقع نابلس بين جبلين يطلان على المدينة في صمت بينما تتصاعد أعمدة الدخان في سماء البلدة المقاومة جرّاء حرق الإطارات. واليوم أغلقت كل المتاجر الصغيرة في الأزقة الضيقة بالبلدة القديمة.
إذ أعلنت المدينة الحداد على عبد الحكيم مأمون شاهين، أحد القادة التاريخيين للفصائل الفلسطينية المقاومة للاحتلال الإسرائيلي في نابلس، خلال مداهمة نفذتها قوات إسرائيلية خاصة بعد أكثر من عام تواري فيه مأمون عن الأنظار.
ترددت أصداء تلك المعركة الشرسة في شوارع المدينة في أحد أشد المعارك منذ شهور، وازداد التوتر في نابلس التي دائماً ما وُصفت بـ”المدينة المتمردة” لأسباب وجيهة كما يبدو.
أمست نابلس منذ عام 2022 بؤرة مركزية للغارات العسكرية الإسرائيلية التي تستهدف القضاء على مجموعة “عرين الأسود“، وهي مجموعة فلسطينية مسلحة تتخذ من القلعة القديمة مقراً لها، وسُميت بهذا الاسم تكريماً للمقاوم إبراهيم النابلسي الذي لُقب بـ”أسد نابلس”.
عرين الأسود
سرعان ما حظيت مجموعة “عرين الأسود” بدعم كبير من الفلسطينيين بفضل نشاطها على وسائل التواصل الاجتماعي وموقفها الثابت في الدفاع عن القضية الفلسطينية. واجتذبت المجموعة دعم كثيرين، لا سيما الشباب بسبب استعدادهم للتضحية بأنفسهم في قتال الاحتلال الإسرائيلي.
وبحسب المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله، فإن مجموعات المقاومة في نابلس تتكوّن أساساً من الشباب.
وخلاف الجماعات الفلسطينية المسلحة الأخرى، فإن أعضاء هذه المجموعة ليست لهم انتماءات دينية أو سياسية، ولا تجمعهم أيضاً روابط مباشرة بالأحزاب السياسية الفلسطينية التقليدية.
ويُعد الشباب الذين وُلدوا بعد الانتفاضة الثانية هم الداعم الرئيسي لهذه المجموعة من المقاومين، إذ ينتقد هذا الجيل السلطة الفلسطينية انتقاداً كبيراً ويرى أنها فاشلة وفاسدة.
تحظى “عرين الأسود” بشعبية كبيرة بين الفلسطينيين ولها مكانة خاصة بسبب معارضتها الشرسة للاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين، ما جعلها تمثّل البطولة والحرية لدى كثيرين.
يقول محمد، 18 عاماً، والذي فقد ابن عمه في غارة إسرائيلية على البلدة القديمة “يسعى الإسرائيليون إلى إرهابنا من خلال الاغتيالات والاختطافات والغارات الليلية. ولكننا لن نستسلم، وسنواصل النضال حتى النهاية”.
بينما كنا نتكلم، كانت تحوم طائرات الدرون فوق مدينة نابلس، وانتشرت أنباء عن هجوم نفذته القوات الخاصة الإسرائيلية في وسط المدينة، ما أسفر عن مقتل أربعة من قادة “عرين الأسود”.
يرى كثير من سكان نابلس أنّ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي لا يقتصر على الجانب العسكري، بل يتعلق أيضاً بمشاعر شخصية متجذرة. إذ يمزج سكان نابلس بين دوافعهم الدينية لتحرير فلسطين وبحثهم عن الحرية الشخصية والشرف.
يصرخ أحد المارة بين الحشد الغاضب وفي الخلفية صفارات إنذار الشرطة، فيقول: “كيف يمكننا العيش هكذا حيث لا يمكننا دخول المدينة أو مغادرتها دون تفتيش أو مضايقة من الجنود؟ كيف نصمت وأطفالنا يُقتلون أمام أعيننا؟”
مدينة الشهداء
أصبحت مدينة نابلس رمزاً للمقاومة الفلسطينية، ليس فقط لمواجهتها العسكرية الشرسة مع الجيش الإسرائيلي، ولكن أيضاً لشعور اليأس العميق الذي يعيشه شبابها.
وقد أدى هذا اليأس الناتج عن تقييد الحرية والحصار إلى ظهور أشكال جديدة من المقاومة تحت وطأة الاحتلال القمعي.
تتجاوز هذه الأشكال الجديدة الاستجابات المسلحة التقليدية وتخرج عن سيطرة الأحزاب السياسية الفلسطينية التقليدية مثل فتح وحماس وحركة الجهاد الإسلامي، ما يجعل من الصعب التنبؤ بأفعالهم أو ترويض سلوكهم.
ومنذ السابع من أكتوبر عام 2023، صعّدت إسرائيل هجماتها على نابلس، وردت على أي هجمات من “عرين الأسود” بعمليات عسكرية مدمرة، ما أدى إلى تفاقم التوترات والاحتقان.
وحتى وقت كتابة هذا المقال، قُتل أكثر من 716 فلسطينياً من الضفة الغربية على يد القوات الإسرائيلية منذ تصعيد إسرائيل هجماتها بعد السابع من أكتوبر 2023، وفقاً للسلطة الفلسطينية.
وتشير تقارير من مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) إلى أنّ القوات الإسرائيلية كثفت أيضاً عمليات هدم منازل الفلسطينيين، إذ دمرت 1768 مبنى وشردت أكثر من 4555 فلسطينياً من بينهم 1910 أطفال.
أدى هذا الارتفاع الكبير في كثافة العمليات، إلى جانب تزايد إنشاء البؤر الاستيطانية غير القانونية (التي تمثل المرحلة الأولى في توسع المستوطنات)، فضلاً عن تفاقم العنف الذي يرتكبه المستوطنون، إلى جعل الحياة غير قابلة للاحتمال بالنسبة لكثير من الفلسطينيين.
وفي حين يظل الاهتمام العالمي منصبّاً على الحرب الدائرة في غزة، كثفت إسرائيل وبهدوء من توسع المستوطنات في الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر. فقد سرّعت حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هذه الجهود وسط هجماتها المستمرة على غزة والتهجير الجماعي للفلسطينيين، بحسب منظمة السلام الآن الإسرائيلية.
ففي العام الماضي وحده، أنشأت إسرائيل ما لا يقل عن 25 بؤرة استيطانية جديدة، ووافقت على إنشاء 8721 وحدة سكنية وحازت المستوطنات غير القانونية اعترافاً رسمياً من الدولة.
كما زادت إسرائيل بشكل كبير استثماراتها في البنية التحتية للمستوطنات، إذ خصصت سبع مليارات شيكل لبناء طرق ومرافق جديدة أخرى، ما أدى إلى توسع السيطرة الإسرائيلية التي يعدها كثيرون خطوة نحو ضم تلك المناطق بحكم الأمر الواقع. وقد استولت إسرائيل في هذه العملية بالقوة على سلطات إنفاذ القانون في المناطق التي يُفترض أنّها خاضعة للسلطة الفلسطينية.
تقع نابلس في المنطقة (أ) في بقعة استراتيجية شمال الضفة الغربية، وهي من أكثر من المناطق تضرراً. وقد تعرضت المدينة لضغط كبير من المستوطنين الذين يهدفون إلى السيطرة على الضفة وصاروا يطوقون المدينة بالفعل. وتُعد هجمات المستوطنين المتكررة دليلاً على تصاعد التوتر في المنطقة.
يرى الصحفي النابلسي الشاب مجاهد نواهضة أنّ “الوضع في نابلس لا يختلف عن سائر مدن الضفة الغربية حيث تشن القوات الإسرائيلية هجمات شديدة. ومنذ السابع من أكتوبر كثّف الجيش الإسرائيلي هجماته على كل البلدات، وتتحمل نابلس وجنين وطولكرم أعنف ممارسات هذه الحملة الشرسة. والهدف من ذلك واضح: فرض السيطرة من خلال القوة الغاشمة. ولكنها ليست بالمهمة السهلة”.
يلاحظ مجاهد من خلال عمله الصحفي أنّ أهل نابلس وجنين وطولكرم وطوباس يرفضون الإذلال المتمثل في العيش تحت سلطة الاحتلال الذي يعمل بشكل منهجي على تجريدهم من حرياتهم.
وبعيداً عن الأرقام، فإنّ التوترات المتصاعدة تُعد دعوة لمقاومة تتجه نحو اتخاذ أشكال متنوعة.
اليأس من السلطة الفلسطينية
ساهم اليأس الفلسطيني من علاقة السلطة الفلسطينية بإسرائيل وقوات الاحتلال في تغيير توازن القوى بين الفصائل الفلسطينية المتنوعة. وتعد “عرين الأسود” رمزاً للغضب المتنامي من السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس. وكثير من المقاومين هم أقارب أعضاء في حركة فتح المنتمين إلى حزب الرئيس عباس، ما يزيد من صعوبة إدارة السلطة الفلسطينية لحالة السخط الداخلي.
ومنذ الصعود المفاجئ لـ”عرين الأسود”، أصبح أعضاؤها هدفاً للسلطة الفلسطينية التي تراهم تهديداً، ما أدى إلى تعقيد الانقسامات بين فصائل المقاومة، وأثار الخلافات بين السكان أنفسهم كذلك.
أوضح إسماعيل، وهو باحث فضل عدم الكشف عن هويته بسبب الطبيعة الخطيرة للموضوع أنّ “الموقف الرسمي لحركة فتح يرفض ممارسة العنف ضد إسرائيل. ولذلك، فإنّ عرين الأسود تشكّل تحدياً كبيراً للسلطة الفلسطينية، فهي لا تستطيع إدانتهم علناً من دون أن يبدو ذلك تواطئاً مع الاحتلال الإسرائيلي”.
وأضاف إسماعيل لفنك: “عرين الأسود ليست لديها رؤية واضحة أو خطة متماسكة بخلاف مقاومة الاحتلال واعتناق فكرة الاستشهاد. وهذه العوامل تجعل منهم خطراً حقيقياً على الوضع الراهن، ما قد يساهم في زعزعة الاستقرار على المدى الطويل”.
كما يعد التفاوض مع “عرين الأسود” بشأن موقفها من المقاومة ضد إسرائيل أمراً صعباً بسبب افتقادها لقيادة واضحة وتنظيم مؤسسي.
ورغم أنّ كثيراً من المسلحين قد سلّموا السلاح مقابل الأمان، فقد اشتدت حملة السلطة الفلسطينية على قادة المجموعة مما أحدث شرخاً كبيراً داخل حركة فتح وأجج استياء الفلسطينيين من السلطة.
حين يحل الليل على مدينة نابلس القديمة، وتمتد ظلال المساء الطويلة على الشوارع المرصوفة بالحصى، يُرفع الآذان في المساجد ويستعد الشباب لليل. ربما لن تمر هذه الليلة كغيرها من الليالي الأخرى بهدوء وما أكثرها، فقد تشهد نابلس ليلة أخرى مليئة بالمواجهات العنيفة في مدينة الشهداء.