وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

سوريا: الحصيلة البيئية للحرب باتت أكثر وضوحاً

Oil syria
حرق مخلفات النفط في مجموعة من مصافي النفط المؤقتة جنوب منطقة تل بري، شمال شرق سوريا. 29 نوفمبر 2018. Photo: Wim Zwijnenburg

مع دخول الحرب في سوريا عامها التاسع، أصبح التأثير على بيئة البلاد ومواردها الطبيعية والأشخاص الذين يعتمدون عليها أكثر إلحاحاً. بطبيعة الحال، ينبغي أن تكون المعاناة الإنسانية في طليعة التحليل، ولكن في الوقت نفسه، يستحق التأثير البيئي مكاناً أكثر بروزاً على طاولة تحليل الصراع، حيث توجد روابط مباشرة مع جهود بناء السلام وحل النزاعات وإعادة البناء الاجتماعي-الاقتصادي. يتناول هذا المقال التحديات الرئيسية التي تواجهها البيئة السورية والأشخاص الذين يعتمدون عليها.

الحرب القذرة

سلط قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، في أكتوبر 2019، بترك عددٍ صغير من القوات الأمريكية في سوريا من أجل “حماية” حقول النفط، الأضواء على هذا الإرث الأقل وضوحاً للحرب. فقد أسفر الانهيار البطيء لأنشطة النفط الصناعية منذ عام 2012 وما بعده عن مشاكل صحية وبيئية حادة وطويلة الأجل. تسارعت هذه العملية في ظل حملة القصف المكثفة على داعش، التي بدأها التحالف بقيادة الولايات المتحدة، وسرعان ما تبع ذلك القصف الروسي المُدمر لمصافي النفط بأكملها. استمرت هذه الحملة لحرمان داعش من الوصول إلى عائدات النفط على مدار سنوات، تاركة الآلاف من مضخات النفط وفوهات الآبار وصهاريج النفط والمصافي المشتعلة بالنيران والمناظر الطبيعية المتفحمة.

أسفر تدمير المصافي ومرافق التخزين عن استراتيجيات تكيف غير مستدامة من جانب الجماعات المسلحة والمدنيين، الذين أنشأوا مجموعات من المصافي المؤقتة؛ الممارسة المنتشرة كالنار في الهشيم في جميع أنحاء سوريا. كان من المحتمل أن يصل عدد العمال، بما في ذلك العديد من الأطفال، في هذه المواقع إلى عشرات الآلاف في ذروتها في فترة 2015/2016. واجهوا التعرض اليومي للأبخرة السامة والمواد الخطرة وتساورهم مخاوف مستمرة عن تأثير ذلك على صحتهم.

تم إغلاق معظم هذه التجمعات في عام 2017 بعد احتجاجاتٍ من المجتمعات. ومع ذلك، لا يزال هناك عددٌ كبير من التجمعات النشطة في جميع أنحاء المناطق التي لا تسيطر عليها الحكومة، والتي تمتد من إدلب إلى الحسكة. في هذه الأثناء، تعد المصافي المؤقتة المهجورة وبرك النفايات النفطية وبحيرات القطران في شرق سوريا بمثابة تذكير مرئي لهذا الجانب من الحرب، إذ تركت المجتمعات المحلية تتساءل عن مدى تأثر المياه الجوفية والسطحية المحلية بالمخلفات الكيميائية المرتبطة بالنفط. ولا تزال المناقشات الحالية حول استغلال حقول النفط وإيراداتها في شمال شرق سوريا الخاضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطة بقيادة الأكراد غامضة.

التزاحم على موارد سوريا الطبيعية

الأضرار التي لحقت بصناعة النفط والتلوث اللاحق ليست سوى واحدة من العديد من الآثار البيئية الأكثر وضوحاً التي ابتليت بها سوريا. فقد خلّفت الحرب أيضاً دماراً يؤثر على مصادر المياه والزراعة والغابات والحياة البرية والتنوع البيولوجي. كما يمكن أن تكون الموارد الطبيعية مثل البترول، وكذلك الفوسفات والكروم ومختلف الخامات والأسفلت والمعادن الأخرى، مصدراً للنزاعات المستقبلية حيث تتدافع الدول والجماعات المسلحة بحثاً عن المعادن والغاز وحقول النفط بالإضافة إلى الوصول إلى الغابات والأراضي الزراعية.

Oil syria
أطفال يعملون في أحد محارق النفط المستخدم في مصافي النفط المؤقتة في القريّا، شمال شرق سوريا. 30 نوفمبر 2018. Photo: Wim Zwijnenburg

ومع ما يقدر بنحو 250 مليار دولار اللازمة لإعادة الإعمار، تتنافس الدول والشركات الأجنبية للظفر بعقودٍ لاستخراج الموارد، وعلى وجه الخصوص، تتطلع الشركات الروسية والإيرانية إلى استغلال المناجم وحقول النفط والبنية التحتية الحيوية. وقبل الصراع، كانت الصناعات الثقيلة بالفعل واحدةً من الملوثات البيئية الرئيسية. وعلاوةً على ذلك، تُظهر الخبرة المكتسبة من النزاعات السابقة أن الافتقار إلى الإدارة السليمة والتقييم واللوائح في مرحلة ما بعد الصراع يمكن أن يؤدي إلى تدهور النواتج البيئية.

أهمية البيئة للبقاء

خلال الحروب والنزاعات المسلحة، كثيراً ما تُستهدف البنية التحتية البيئية. تعتبر أنظمة الري ومحطات الضخ والترشيح أو محطات الصرف الصحي ضروريةً لمجموعة من الأنشطة المدنية والاقتصادية. فالحصول على المياه النظيفة أمرٌ بالغ الأهمية للصحة العامة والوقاية من الأمراض المعدية، في حين أن الأضرار التي لحقت بالري يمكن أن تؤثر بشكلٍ مباشر على الزراعة والأمن الغذائي، كما شوهد في العراق واليمن.

وبالفعل، كان للجفاف وسوء الإدارة قبل النزاع عواقب وخيمة على المجتمعات الريفية والحضرية في سوريا، كما ساهم القتال اللاحق والنزوح وانهيار البنية التحتية الزراعية في تدهور غلة المحاصيل واستخدام المياه والأمن الغذائي. تعمل وكالات الأمم المتحدة المختلفة مع الحكومة لتقييم الموارد الطبيعية في سوريا، ولا سيما الإنتاج الزراعي، باستخدام تكنولوجيا الاستشعار عن بعد للتعرف على حالة الأمن الغذائي. وعليه، ستوجه نتائج التقييم هذه عملية صنع القرار فيما يتعلق بإدارة الري وتقييم المحاصيل وأيضاً تقييم صحة النبات.

إعادة الإعمار من تحت الأنقاض

أدى الحصار والقصف والقتال العنيف إلى خراب المدن والبلدات في جميع أنحاء سوريا، إذ تأثر أكثر من 53% من السكان الذين يعيشون في المناطق الحضرية بالتدمير. وبصرف النظر عن مشاكل النزوح المباشرة، تؤثر الأضرار التي لحقت بالمناطق الحضرية أيضاً على البنية التحتية الحيوية التي يمكن أن تؤدي إلى مخاطر الصحة البيئية. وعلاوةً على ذلك، فإن الكميات الهائلة من الأنقاض يمكن أن تشكل خطراً صحياً خطيراً بحد ذاتها، وغالباً ما يتم خلط الحطام بالنفايات الصناعية أو الطبية ويمكن أن يحتوي على مجموعة من المواد الكيميائية الخطرة أو المعادن الثقيلة التي يمكن أن يتعرض لها المستجيبون الأوائل وعمال التنظيف والمدنيون.

ووفقاً لدراسة أجراها البنك الدولي عام 2017 عن الأضرار التي لحقت بعشر مدن، ” تأثر 27% من المساكن، إذ دُمر 7% منها، وتضررت 20% أخرى جزئیاً.” كما ذكرت الدراسة أيضاً الأضرار الجسيمة التي لحقت بالمرافق الطبية والتعليمية. وحدد البرنامج التشغيلي للتطبيقات الساتلية التابع لمعهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث تعرض 109,39 مبنى للدمار في ملخصٍ نُشر عام 2018، في حين نُشرت معلومات مواضيعية محدثة في عام 2019 من قِبل منظمة REACH بالتعاون مع البرنامج التشغيلي للتطبيقات الساتلية التابع لمعهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث إلى جانب صورٍ أكثر تفصيلاً لـ16 بلدة ومدينة. ومن المحتمل أن تشكل ملايين الأطنان من الأنقاض مخاطر كبيرة على البيئة المحلية، وكذلك الجهود المبذولة لاستخراج الموارد الطبيعية للأسمنت المستخدم في إعادة إعمار المناطق الحضرية، كما أظهرت التجارب السابقة في لبنان والعراق.

الحُكم والطبيعة

أدى انهيار أنظمة الحوكمة في البلدات والمدن إلى مشاكل خطيرة حول جمع النفايات وتخزينها، مما أدى إلى تفشي الأمراض المعدية. وبينما ساهم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في إعادة الإعمار في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، إلا أنه في المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومة، لا تزال هناك قضايا حرجة حول مواقع مكبات النفايات التي أدت إلى مخاوف صحية مستمرة من تلوث الهواء الناجم عن حرق النفايات وتأثر المياه الجوفية بترشح سوائل النفايات الصلبة.

كما ساهم الافتقار إلى الحكم بالإضافة إلى انخفاض إنتاج الوقود وتزايد أعداد النازحين في قطع أشجار الغابات بشكلٍ كبير في غرب سوريا في ظل زيادة جمع الحطب وإنتاج الفحم وقطع الأشجار غير الخاضع للرقابة لأغراض تجارية. وعلى صعيدٍ متصل، لم يتم إجراء بحثٍ بشكلٍ مستقل حول مدى تأثير النزاع على التنوع البيولوجي الغني في البلاد، ولكن وفقاً لما قدمته سوريا إلى اتفاقية الأمم المتحدة بشأن التنوع البيولوجي في عام 2016، تأثرت العديد من المناطق المحمية والنباتات والأنواع الحيوانية المحمية.

الطريق نحو إعادة التأهيل

هناك حاجة إلى تقييم شامل وعميق لفهم النطاق الكامل للأضرار التي لحقت بالبيئة السورية والمخاطر الصحية والبيئية على المدنيين. يواجه الشرق الأوسط ككل تحدياتٍ بالغة الأهمية فيما يتعلق بالتدهور البيئي نتيجةً لتغير المناخ، والسياسات المائية وعدم وجود إدارة سليمة للموارد الطبيعية. يجلب هذا معه مخاطر أمنية مباشرة وخطيرة وطويلة الأمد، ويعيق إعادة الإعمار ويمكن أن يُشعل المزيد من التوترات مع السلطات بشأن الوصول إلى الموارد الطبيعية ومسؤوليات التعامل مع الموروثات البيئية.

ففي سوريا، تبرز الحاجة إلى تنظيف النقاط البيئية الساخنة، وإعادة تأهيل المناطق المتضررة وإعادة الإعمار المستدامة لتخفيف العبء عن الشعب السوري وتزويده بفرصٍ لإعادة بناء حياتهم وسبل عيشهم في بيئة آمنة وصحية.