وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

السّيادة الغذائيّة في منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا مهدّدة

تواجه السّيادة الغذائيّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مستقبلًا كئيبًا، بخاصة مع انتهاء عصر الرفاهيّة والوفرة الذي شهدته التسعينات.

السّيادة الغذائيّة
صورة التقطت في 4 أبريل 2023، تظهر سد شيبا الجاف بالقرب من مدينة قربة في شمال شرق تونس. سدود الدولة الواقعة في شمال إفريقيا في أدنى مستوياتها بعد سنوات من الجفاف. فتحي بلعيد / وكالة الصحافة الفرنسية

دانا حوراني

يذكّرنا الاحتفال السّنويّ باليوم العالميّ للأرض الواقع في 22 نيسان بالتّطوّر البيئيّ المُحرَز وأهمّيّة حماية موارد الأرض للأجيال القادمة. أمّا في منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا فيعمل كمنبّه يفتح أعيننا على المشاكل البيئيّة المتعدّدة المُهملة بشدّة من قِبل الحكومات والسّلطات.

لقد أصيبت منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل خاصّ بشحّ شديد للمياه، ما صنّفها من المناطق الّتي تعاني “نقصًا حادًّا في المياه” بحسب الخبراء. ومن المتوقّع أن يعاني سكّان هذه المنطقة من زيادة في التّأثيرات المناخيّة، مثل: ارتفاع درجات الحرارة، والتّصحّر، والتّوسّع السّكّانيّ، وانعدام الأمن الغذائيّ.

ففي الواقع، يعاني الاقتصاد الزّراعيّ في المنطقة من الإجهاد بسبب هذه الظّروف المتغيّرة، وذلك نتيجة اعتماده على محاصيل حسّاسة للمناخ، والعدد المرتفع من ساكني المناطق السّاحليّة الحضريّة المعرّضة للفيضانات.

وعلى الرّغم من تبايُن درجات الحرارة الإقليميّة، الشّرق الأوسط الآن في خطر أكبر من أيّ وقت مضى، بخاصّة في ما يتعلّق بقطاعه الزّراعيّ وذلك بسبب عدم كفاءة المسؤولين الحكوميّين وغياب التّخطيط المستدام الملائم. بشكل عامّ، يتّفق الخبراء على أنّ بلدان المنطقة ستواجه مستقبلًا بائسًا من حيث ازدياد النّقص الغذائيّ والكوارث الطّبيعيّة المحتملة، إلّا في حال إيجاد حلول فوريّة ووضعها قيد التّنفيذ بأسرع ما يمكن.

التّغيّر المناخيّ في منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا

شهدت دول متعدّدة انخفاضًا في الإنتاج الزّراعيّ نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، ما أدّى إلى زيادة أسعار الأغذية وبالتالي إلى اضطرابات اجتماعيّة. يلفت المراقبون النّظر إلى أنّ ما أشعل انتفاضات الرّبيع العربيّ عام 2011 كان اقتران المشقّات الاقتصاديّة بالسّخط تجاه حكّام البلاد الحاليّين.

إضافة إلى ذلك، يزداد المناخ في المنطقة عدائيّة للزّراعة، وذلك بسبب الحرارة المرتفعة وقلّة الأمطار المؤدّيَين إلى المزيد من الجفاف. إذ يمكن لارتفاع الحرارة بنسبة 1.5-2 درجة مئويّة أن يقلّل الحصاد بنسبة 30 في المئة.

ومن المتوقّع، بحلول منتصف هذا القرن، أن يتراوح تلف المحاصيل في المغرب بين 1.5 و24 في المئة، وفي نواحٍ من المشرق بين 4 و30 في المئة. كذلك يُتوقّع تضرّر محاصيل الذّرة والخضار بشدّة، في حين أثبت إنتاج المنتجات الأخرى صعوبته.

بين 50 مم في مصر و661 مم في لبنان، يتمتّع غرب منطقة البحر الأبيض المتوسّط وشرقها بنطاق واسع من نسب تساقط الأمطار. أمّا في ما يتعلّق بالمناطق شبه القاحلة، فالمعدّل السّنويّ لتساقط الأمطار يتراوح عادة عند الحدّ الأدنى، وذلك يُعتبر طبيعيًّا. وفي العديد من هذه المناطق الجافّة، من الصّعب نجاح المزروعات بسبب شحّ المياه وعدم اتّساق الإمداد بها.

تضرّ هذه التّغيّرات في النّظام البيئيّ بأنظمة الزّراعة المطريّة، وبحسب التّوقّعات الحاليّة، ستتراجع نسب المتساقطات في المنطقة. إضافة إلى ذلك، سنشهد زيادة في تواتر حدوث الظّواهر المناخيّة المتطرّفة، ما سيجعل العديد من المناطق المنتجة زراعيًّا الآن غير صالحة للزّراعة.

وبحسب البنك الدّوليّ، يشهد الكثير من البلدان ارتفاعًا ملحوظًا في عدد السّكّان، ما يشكّل تحدّيًا أمام نسبة الأراضي المحدودة الّتي يمكنها احتواءهم. نتيجة لذلك، تمتدّ المدن إلى مناطق قاحلة أو زراعيّة، وبحسب التّوقّعات ستحتاج الأراضي الحضريّة إلى التّوسّع بنسبة 50 في المئة بحلول العام 2050. ولقد بادرت بعض الدّول إلى تطوير أراضٍ قاحلة، لكنّ لهذه العمليّة سيّئاتها بما في ذلك زيادة الضّغط على الموارد المائيّة، ونتائج لا يمكن ضمانها.

على الرّغم من أنّ دول الخليج العربيّة تحسن إدارة أراضيها بشكل عامّ أكثر من الدّول الأخرى في المنطقة، ما زالت تعاني من ضعف ملحوظ في إدارة الموارد، سواء أكان ذلك بتطوير زراعة صحراويّة تستهلك الكثير من المياه أو بإهمال تطوير مساحات حضريّة ضخمة.

صراعات مختلفة للمشكلة نفسها

شمال إفريقيا

لطالما أشاد الشّعّار والمغنّون بتونس لخضارها، ولقد وُصفت بـ”بلاد الحوت والغلّة والزّيتون” في أغنية “بساط الرّيح” للملحّن والمغنّي السّوريّ-المصريّ الشّهير، الرّاحل فريد الأطرش. شكّلت الزّراعة تقليديًّا عنصرًا مفتاحيًّا في اقتصاد تونس، إذ تضمّ منطقة عُرفت سابقًا بمخزن حبوب روما بسبب إنتاجها الغفير من القمح والشّعير.

إلّا أنّ بعض المخاطر الآن، مثل التّصحّر وانجراف التّربة، تهدّد المناطق السّكنيّة والمساحات الزّراعيّة، كما أنّ خطر التّلوّث البيئيّ على الزّراعة من حيث الهواء والتّربة والماء يزداد، مع كون لهذا الأخير الأثر الأكبر على الصّيد البحريّ.

شمال إفريقيا عامّة، معرَّض بشدّة لتأثيرات الكوارث المناخيّة والبيئيّة، فالمياه غالبًا شحيحة، ونوعيّة الأراضي قد تراجعت، وأعداد المواشي قد انخفض بشكل ملحوظ.

ولهذه القضايا البيئيّة تداعيات على الزّراعة (بما فيها الرّعي) وصيد الأسماك، ما يؤدّي إلى ارتفاع نسبة الفقر واضمحلال السّيادة الغذائيّة. تشكّل المناطق الرّيفيّة ما يفوق نصف سكّان شمال إفريقيا، وهي تتألّف بشكل أساسيّ من مزارعين صغار وعمّالًا في المزارع يعانون من أسوأ تأثيرات هذه الأزمات البيئيّة.

وعلى الرّغم من تقديم القطاع الزّراعيّ فرصة كبيرة لتوظيف النّساء، يفتح أيضًا الباب أمام العمل الاستغلاليّ والتّعسّفيّ.

فبحسب ما تظهره الأعداد، تعمل خمسة ملايين امرأة في الأراضي الزّراعيّة في مصر وحدها. وبالإضافة إلى كسبهنّ دخلًا، توفّر 40 في المئة منهنّ الرّعاية المجّانيّة لعائلاتهنّ. كما أنّ هذا القطاع يرتكز أكثر فأكثر على البنات الصّغار بعمر الثّماني سنوات وما فوق، اللّواتي يتعرّضن بكثرة لظروف غير مؤاتية واستغلاليّة للغاية.

العراق

في العراق، يزيد التّوسّع العمراني السّريع وارتفاع عدد السّكّان قساوة واقع التّغيّر المناخيّ، مثل موجات الحرّ والجفاف.

كنتيجة، تواجه الموارد المائيّة إجهادًا مستمرًّا، ويتنافس عليها سكّان المناطق الحضريّة الكبرى والأشخاص الّذين يستخدمونها للزّراعة. إضافة إلى ذلك، تفاقم التّباين الجنسانيّ في المناطق الرّيفيّة والحضريّة بسبب الأعمال الحربيّة المطوّلة، وتأثّر صغار المزارعين سلبًا بسبب نقص استثمار الدّولة في البنى التّحتيّة للإمداد بالمياه.

وعلى الرّغم من وفرة الموارد الطّبيعيّة في العراق، يضعها تراجعها البيئيّ في خطر مواجهة كوارث أكثر، مثل شدّة الجفاف وغياب الأمن الغذائيّ.

لبنان

بحسب منظّمة الأغذية والزّراعة، يعمل 23 في المئة من سكّان لبنان في مجال الزّراعة سواء بدوام كامل أو جزئيّ، ما يجعله أحد أكبر القطاعات في البلد. أمّا حاليًّا، فيشكّل اللّاجئون السّوريّون، الهاربين من الأزمة في بلادهم، الشّريحة الأكبر من العمّال الزّراعيّين.

سبّبت الأزمة الاقتصاديّة في البلد انخفاضًا ملحوظًا في مداخيل المزارعين. وعلى الرّغم من تأمين هذا القطاع نسبة 5 في المئة من النّاتج المحلّي الإجمالي للبنان، لم تعره الحكومات المتعاقبة إلّا اهتمامًا ضئيلًا. ولقد أدّى ذلك إلى إرضاء الإنتاج الزّراعيّ 20 في المئة فقط من الطّلب المحلّي، ما يعني وجوب استيراد معظم المنتجات الغذائيّة.

مستقبل مجهول

بحسب سيرج حرفوش، أحد موظّفي “بذورنا جذورنا”، مدرسة الزّراعة العضويّة في لبنان، سيكون لتغيّرات الطّقس والمناخ تأثيرات واضحة على القطاع الزّراعيّ في الأشهر المقبلة.

وصرّح لفناك: “اختلف شتاء عام 2023 عن أيّ شتاء شهدته منذ سبع سنوات؛ فقد تأخّر بدؤه عن المعتاد وانتهى سريعًا، ما أدّى إلى إطالة الأشهر الدّافئة، وبالتّالي سيُعاق توفّر الموارد المائيّة.”

ويكمل حرفوش مُخبِرًا بأنّه من المحتمل أن يكون نقص هطول الأمطار وتساقط الثّلوج هذا الشّتاء قد أدّى إلى نضوب آبار المياه الجوفيّة، وبالتّالي إلى إضعاف منسوب المياه الجوفيّة في التّربة، وسينتج عن ذلك تربة قاحلة تحتاج إلى ريّ إضافيّ.

ويشير إلى أنّ “المزارعون في خطر تكبُّد خسائر كبيرة بسبب التّربة القاحلة. وهذا مقلق بخاصّة للمزارعين الّذين يعتمدون على محاصيل تحتاج إلى نسب عالية من المياه، ونباتات يمكنها الصّمود خلال أشهر الصّيف الحارّة على ارتفاعات عالية فقط. إضافة إلى ذلك، إنّ زيادة وتيرة حرائق الغابات والأضرار البيئيّة الأخرى، أمر حتميّ.”

أخيرًا يقول الخبير إنّه فيما من المستحيل توقُّع الأبعاد الكاملة لأضرار التّغيّر المناخيّ على الدّول والمجتمعات المتنوّعة، يزداد القلق بشأن الزّراعة، بخاصّة في الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث لا يُعطى للقضايا البيئيّة اهتمامًا كافيًا. ويحتجّ بأنّ الأنظمة الاقتصاديّة النّيوليبراليّة الحاليّة تمنح الأولويّة للأرباح على حساب حالة البيئة والقوى العاملة. كلّ ذلك يؤدّي إلى حلقة مفرغة من إنتاج الأغذية غير الصّحّيّة والنّاتج دون المستوى.

ماذا بعد؟

يلفت أشرف شيباني، الزّميل غير المقيم من معهد التّحرير لسياسة الشّرق الأوسط، النّظر إلى أنّ القطاع الزّراعيّ في منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا يعاني أيضًا من نقص برامج حماية المزارعين.

ويخبر فناك بأنّ ما من بدائل أو حلول تُعرض على المزارعين عند فشل محاصيلهم واحتياجهم إلى المزيد من المياه للتّعويض عن موجات الحرّ المتطرّفة. وهذا ينطبق بخاصّة على المزارعين الّذين يعتمدون على البذور الكثيفة الاستهلاك للمياه.

يقول شيباني: “ستواجه بلدان شمال إفريقيا، مثل مصر وليبيا والجزائر والمغرب وتونس، أصعب التّحدّيات نتيجة التّغيّرات المناخيّة الجذريّة والقلق حيال الأمن الغذائيّ الّذي بدأ بالظّهور.”

ففي تونس، ارتفاع أسعار الموادّ الغذائيّة النّاتج عن شحّ الأمطار ترك مزارعي الألبان في وضع متردٍّ. ومع تفاقم صعوبة تأمين الغذاء لقطعانهم، يختفي الحليب والزّبدة شيئًا فشيئًا عن رفوف المحلّات، كما أنّ الكثير من المزارعين يُرغَمون على بيع مواشيهم للعيش.

ينبّه الأخصّائيّ البيئيّ إلى أنّه سيكون لهدر الموارد بزراعة محاصيل في مواقع لا تلائمها، مثل الفراولة في حال تونس، تداعيات كارثيّة في وقت قصير جدًّا.

ويكمل شيباني بقوله: “لا يمكن تجنّب ارتفاع نسبة غياب الأمن الغذائيّ في السّنين القادمة من دون وضع استراتيجيّات طويلة الأمد تتضمّن برامج مدفوعة وأجور عادلة للمزارعين.”، مشيرًا إلى أنّ إحدى أكبر المشكلات الّتي يواجهها المزارعون هي انقطاع تواصلهم مع الهيئات الرّئاسيّة، ما يترك الكثير منهم في حال حرمان من حقوقه.

للتغيُّر المناخي تأثيرات متعدّدة على المجتمع، بحسب الخبير، لكنّ أسوأها قد يكون الهجرة الجماعيّة للشّباب القانعين بأنّ مستقبلهم في المنطقة بائس. ويُضاف إلى ذلك، تراجُع العائدات وانخفاض الفوائد الّتي قد تصرف المزارعين عن العمل في الأرض.

ويضيف إلى الحاجة إلى الدّعم أنّ “المزارعون يحتاجون إلى تقنيّات حديثة لزيادة فعّاليّة عملهم، وإلى توجيه لتحديد نوع المحاصيل الّتي تستهلك كمّيّة أقلّ من المياه مثلًا.”

بالنّسبة إلى شيباني، تواجه منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا مستقبلًا كئيبًا في ما يتعلّق بالسّيادة الغذائيّة، بخاصّة مع “انتهاء عصر الرّفاهيّة والوفرة الّذي شهدته التّسعينات من القرن الماضي. كما أنّنا سنعاني قريبًا من تداعيات سياسات العقود الماضية الفاشلة.”

أمّا بالنّسبة إلى حرفوش، فهو يؤمن بأنّ فهم الجيل الجديد للبيئة وحصوله على المعلومات سيمكّناه من تصحيح أخطاء أسلافه تدريجيًّا.

غير أنّه يصرّح بـ”ضرورة انكباب الجهود على التّنفيذ بدلًا من التّنظير”.