دانا حوراني
يُعتقد أن أول حضارة زراعية في العالم قامت في جنوب العراق الحالي، أو ما يُعرف بمنطقة “الهلال الخصيب” التي تقع في السهول بين نهري دجلة والفرات حيث وُلدت أقدم الحضارات على وجه الأرض.
وشهدت بلاد الرافدين أول مستعمرة بشرية في المنطقة حيث تطور المجتمعات الزراعية، واستئناس الحيوانات، وازدهار الزراعة، واختراع وسائل الرّي بفضل وفرة مياه نهري دجلة والفرات.
لكن برنامج الأمم المتحدة للبيئة أعلن هذا العام أن العراق الذي لطالما اعتُبر “مهد الحضارة” أصبح خامس أكثر الدول المهددة بالتغير المناخي.
ولطالما كانت آثار التغير المناخي شديدة في العراق. فقد تجاوزت درجات الحرارة 50 درجة مئوية، ما أدى إلى إهلاك مصادر المياه، وإمدادات الغذاء، وتقلص سبل العيش والاحتياجات الزراعية.
وإن كان العراق أحد أكثر دول المنطقة تضررًا، فإن علماء البيئة والأكاديميين يحذرون من احتمالية هلاك أي دولة إذا استمرت حكومات المنطقة في تهاونها وتقاعسها عن خلق استراتيجيات مستدامة للحدّ من التغير المناخي.
أين الخطأ؟
في العامين الماضيين، انخفض معدل سقوط الأمطار انخفاضًا مطردًا مما تسبب في مزيد من الجفاف وتضرر هيكليًّا القطاع الزراعي.
لكن الحلول شحيحة رغم تعدد الأسباب. إذ منع بناء السدود في تركيا وإيران تدفق المياه في دجلة والفرات. كما أن درجات الحرارة الحارقة قد أثرّت بشكل كبيرٍعلى رطوبة التربة وملوحتها ما زاد من تدهورها.
وقال الباحث المقيم في البصرة، مشتاق عيدان عبيد، لفنك: “حتى المياه المتدفقة إلى المنطقة الجنوبية شديدة التلوث. فالمياه التي تصل إلينا لم تعد المياه النقية المتدفقة من جبال تركيا الشمالية، بل أصبحت تصل إلينا ممزوجة بالصّرف الصّحي، والملوثات الكيميائية، والقمامة”.
وأضاف الباحث: “ضاعفت الأزمة خيبة السياسيين العراقيين الدبلوماسية، وفشلهم في التفاوض مع تركيا وإيران، تاركين إياهم يستفيدون من موارد مياهنا”.
وأصبحت المنطقة التي كانت ذات يوم زاخرة -بالخضرة الفاتنة وبمجتمع ينبض بحياة الفلاحين وملاك الأراضي والصيادين- معرضة لخطر التصّحر، إذ هجر الفلاحون أراضيهم على أمل العثور على فُرصِ عملٍ أفضل بعيدًا عنها.
وقالت مها ياسين، الباحثة البيئية في معهد كلينغندال في لاهاي، لفنك: “ترتبط سبل حياة الناس بمهاراتهم الرئيسة بالمنطقة. لذلك قد لا يتمكنون من الحصول على فرص عمل إذا رحلوا إلى المناطق الحضرية، ما قد يدفعهم إلى ارتكاب جرائم،وتفاقم النزعات والصراعات المحلية، والضغط على البنية التحتية المتهالكة بالفعل”.
وأضافت: “تقع المسؤولية على عاتق الدولة لضمان الحياة الكريمة لهؤلاء الناس حتى تضمن السلم الأهلي في البلاد”.
أزمة تُضاف إلى الأزمات
وسط موجة الصّيف الحارة والنقص الشديد في الطاقة، أظلمت البيوت في العراق وسوريا ولبنان المتخمة بالأزمات، بعد أن أصبح انقطاع الكهرباء فيها أمرًا عاديًا.
ويقول المحللون إن قطاع الكهرباء العراقي شهد سنوات من الإهمال والتدهور على أيدي المسؤولين الفاسدين رغم وفرة إمدادات النفط.
وكذلك الحال في لبنان المأزوم ماليًا بعد أن أعطب الإهمال المستمر والفساد الممنهج اقتصاده ودمّر بنيته التحتية وبات معتمدًاعلى صادرات النفط العراقية ليتفادى انقطاع التيار الكهربائي المستمر لعجزه عن توفير احتياجاته.
كما عانت البنية التحتية للطاقة في سوريا عدة ضربات خلال الأزمة المستمرة منذ 11 عامًا، ما أدى إلى انقطاع التيار بشكل متكرر. ومن ثمّ يلجأ كثير من الناس في البلدان الثلاثة إلى الطاقة الشّمسية لمعالجة الوضع.
جدير بالذكر أن شركة الكهرباء السورية أكملت للتو بناء محطة للطاقة الشّمسية بين مدينة حمص وساحل سوريا على البحر المتوسط بقدرة 1 ميجاوات متصلة بشبكة الكهرباء. وسوف يستفيد منها بين 50 و250 منزل فقط.
أما اللّبنانيون فيدبرون أمورهم بأنفسهم، إذ يتوافد كثير منهم على الشركات الخاصة لشراء ألواح الطاقة الشمسية لاستعمالها في بيوتهم ومقرات عملهم. كما طمح العراقيون إلى إنتاج 12 جيجاوات من الكهرباء من الطاقة الشمسية بحلول عام 2030 وفقًا لتقرير موقع عراق أويل ريبورت. لكن الجمود السياسي، والخلافات حول شروط الدفع، والعجز السياسي بصورة عامة عطّل هذه الخطط.
وقالت ياسين: “هذا ما يفصل العراق عن غيره من دول الخليج النفطية، فالاضطراب السياسي والاحتجاجات المستمرة تدفع المشرعين إلى تأجيل المشروعات البيئية المهمة”.
عائق كبير أمام مستويات المعيشة الكريمة
بينما يتصبب سكان دول المنطقة المأزومة عرق الصّيف الخانق، فتزيد العواصف الرملية معاناتهم شدّة.
إذ قال عبيد: “لم تعد العائلات تخرج إلا قليلًا. فهم مجبرون على البقاء داخل بيوتهم كأنهم محبوسون. وهو مؤذٍ نفسيًّا، إذ تصبح سريع الانفعال وفاتر الهمة”.
وكذلك تتعرض الصّحة الجسدية للخطر كما قالت مها ياسين: ” فالعواصف الرملية تسبب الأمراض الرئوية كالتهاب الشعب الهوائية والربو، فضلًا عن تلوث المياه الذي يؤدي إلى تفشي الكوليرا والأمراض الجلدية”.
وما من دولة في المنطقة بمنأى عن التغير المناخي. لكن آثاره غير متساوية، وحلول مشكلاته فريدة من نوعها.
وقال خبير التغير المناخي في المنطقة، أشرف الشيباني، لفنك: “لم يكن التغير المناخي أولوية حكومات المنطقة البتة. وجل السياسات البيئية التي طورتها جاءت حلولًا سريعة. وهو ما أثبت فشله في منطقة معرّضة لأزمات المناخ وقدراتها ليست متكافئة في مواجهتها”.
وقال الشيباني في دراسته التي نشرها هذا العام :”إنَّ العواصف الرملية والترابية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: مشكلة تتطلب حلولًا جذرية للحد منها” ، إن تقدم دول الخليج الاقتصادي والتكنولوجي يسهل إطلاق مشاريع كبيرة وسريعة تحد من الآثار المناخية، لا سيما العواصف الرملية التي يرى أنها ستزداد سوءًا.
فالسعودية مثلًا تعمل على تنفيذ “مبادرة السعودية الخضراء” وتستثمر مليارات الدولارات في تطوير الأحزمة الخضراء. بينما استثمرت الإمارات في تقنيات جديدة تتيح مراقبة العواصف الترابية من خلال نظام تنبؤ حتى تتهيأ لأي خطر قادم.
أما الكويت فقد أعلنت عن مستويات خطيرة من تلوث الهواء في بعض المناطق، دون أن تعلن عن إجراءات مناسبة للحد منها.
وبخلاف العراقيين الذين يعانون المشكلات نفسها في التنفس ودرجات الحرارة، يستمتع الكويتيون بأنظمة التكييف في بيوتهم طوال اليوم. لكنهم يشبهون العراقيين في تأجيل الساسة الكويتيين البحث عن حلول، إذ يسود التقاعس عن اتباع نهج متكامل للحد من التغير المناخي.
بلاد شمال إفريقيا في خطر
وفقًا لما رصده الشيباني، تأتي بلدان حزام شمال إفريقيا أولًا في خطورة التعرض للأزمات المناخية، ويأتي بعدها لبنان والعراق والأردن. ويرجع هذا إلى اختفاء المحاصيل من حقول شمال إفريقيا، فضلًا عن تهديدات العواصف الرملية العاتية، وزيادة نسبة الإجهاد المائي، وارتفاع تكلفة الكهرباء.
كما تعتمد الجزائر وليبيا ومصر على الصّناعات الهيدروكربونية، وتعتمد أغلب عائداتها على تصدير الوقود الأحفوري إلى أوروبا. لذلك قد يضرّ أي خلاف دبلوماسي مع أوروبا بالأمن الاقتصادي.
وفي الوقت عينيه، تعاني تونس من شحٍ في مصادر المياه العذبة الطبيعية، وإزالة الغابات، وتجريف التربة، وارتفاع منسوب مياه البحر. بالإضافة إلى حرائق الغابات المدمرة التي انتشرت في شمال إفريقيا وطالت لبنان كذلك.
وقال الشيباني: “رفع الحكومات لأسعار الكهرباء والمياه قد يزيد من وعي الناس بأهمية ترشيد الاستهلاك. لكن الفلاحين بحاجة ماسة للتوجه نحو زراعة محاصيل تستهلك كميات أقل من المياه في الرّي للحفاظ على مواردنا”.
متفرقين نسقط
ستستضيف مصر مؤتمر الأمم المتحدة السابع والعشرين لتغير المناخ في نوفمبر القادم. وسيضم المؤتمر أكثر من 40 دولة، على أمل الدفع بأجندة مناخية تتناسب مع التحديات التي تواجهها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا واحتياجاتها.
لكن الشيباني يشير إلى افتقاد المنطقة إلى الأبحاث البيئية التي قد تساعد في المشاريع المستقبلية.
وحتى ذلك الحين، يبدو أن المجتمع المدني والطاقة المتجددة هي العلاجات الأكثر إنتاجية. فنحو 312 منظمة غير حكومية تدعم القضايا البيئية في المنطقة بما في ذلك الحفاظ على التنوع البيولوجي وحمايته. لكن ياسين تقول إن فساد الحكومات وضغوطاتها وشُحّ التمويل يهددون وجود هذه المنظمات.
ولفت الشيباني الانتباه إلى أن “مؤسسات المجتمع المدني معرّضة لخطر اعتبار خطابها شبيهًا بالسياسيين عندما تستخدم خطابًا تعتبره الشعوب نخبويًا ومتعاليًا. إذ ثمة حاجة شديدة إلى بذل المزيد من الجهد في مخاطبة الجمهور غير الغربي بشأن التغير المناخي”.
كما أشار عبيد إلى أهمية إشراك المواطنين في التفاصيل الدقيقة كترشيد استهلاك المياه، والحفاظ على نظافة الأماكن العامة، مع الأخذ بالاعتبار أن المسؤولية تقع في المقام الأول على عاتق الحكومات التي لا تشق الطريق الذي يجب على الناس اتباعه.
وقال الشيباني: “أتوقع أن تقل نسبة المياه في المنطقة في الثلاثين عامًا القادمة وأن تهدد الرمال بيئتها. لذلك لا بد من أن تتعاون دول المنطقة، وإلا فستكون معرضة للخطر، لا سيما أفقر المجتمعات فيها. وعلى الدول الغنية أن تساعد الفقيرة حتى ننقذ ما تبقى من ثراء بيئي في المنطقة”.