لم يطل أثر الحروب الإسرائيلية على قطاع غزّة كرة القدم فحسب، بل أنه امتد ليصل إلى الشركات الراعية للأندية واللعبة بصفة عامة.
أمجد ياغي
يفاقم الحصار الاسرائيلي والحروب الاسرائيلية المتكررة على قطاع غزة أزمات مستقبل كرة القدم هناك. ويلعب 45 نادياً في مختلف درجات الدوري بغزّة. وتواجه جميع هذه الأندية أزمات مادية متكررة، متأثرةً بالحصار، وتدمير المنشآت الرياضية، وقلّة توفر الدعم المالي ومصادر الدخل الدائمة.
ولم يطل أثر الحروب الإسرائيلية على قطاع غزّة كرة القدم فحسب، بل أنه امتد ليصل إلى الشركات الراعية للأندية واللعبة بصفة عامة. وأدت هذه الحروب إلى تدمير عددٍ من مصانع الشركات الإنتاجية التي كانت تقدم دعمًا مستمرًا للبطولات المحلية وفرق الكرة على مدار سنوات. كما أغلق ما يزيد عن خمسة آلاف منشأة اقتصادية أخرى بسبب الحصار.
وكانت شركة اليازجي للمشروبات الغازية، وهي وكيل شركة بيبسي في غزّة، على رأس الرعاة الذين عانوا من ويلات الحروب المتكررة. وكان آخر فصول استهداف الشركة قصف مصنعها في عام 2020. وأدى ذلك إلى تقليص مبيعات الشركة، وصولاً لإعلان إغلاقها بسبب الحصار الإسرائيلي.
وعلى مدار سنوات طويلة، كانت الشركة من الرعاة المميزين والمستمرين لبطولات كرة القدم في القطاع. وبحسب همام اليازجي، الذي كان يشغل إدارة التطوير في الشركة، فإن دعم الشركة للمنتخب الفلسطيني كان كبيراً ووصل إلى حد دعم الملصقات الجداريات الخاصة به. كما دعمت الشركة الكثير من الفرق ورعت جوائز بطولات كثيرة.
ويقول اليازجي لفنك: “دعمت شركة اليازجي كأس قطاع غزة عام 2013. وحملت البطولة حينها اسم كأس بيبسي. بيد أننا تعرضنا مرارًا لأضرار الحروب الإسرائيلية. واشتدت الأزمة وتراجعت المبيعات، وصولاً لمنع الكثير من مواد الخام التي تشغّل المصنع. وأدى هذا إلى إغلاق الشركة وتسريح ما يزيد عن 250 عاملاً. وبهذا الإغلاق، فقد خسرت دوريات كرة القدم في غزّة أحد أهم رعاتها دون أدنى شك”.
يأتي ذلك في الوقت الذي زادت فيه القيود الإسرائيلية على جوانب أخرى من الحياة الاقتصادية الغزّية. ومن هذه الجوانب فرض القيود على تحويل الأموال لقطاع غزة. وبطبيعة الحال، فقد أثّرت هذه القيود على تمويل الأندية ومصادر دخلها. كما أنها أحدثت فجوةً كبيرة بين مداخيل لاعبي قطاع غزّة ونظرائهم في الضفّة الغربية، سيّما وأن المنطقتين تنظّمان دورياتهما الخاصة دون وجود بطولة عامة جامعة للمنطقتين.
ويعيش الدوري الممتاز في الضفة الغربية حالة من الاستقرار. ووصل هذا الاستقرار إلى مرحلةٍ بات بمقدور الأندية فيها استقدام لاعبين محترفين من خارج فلسطين. ويحصل لاعبو الضفة الغربية على رواتب وعقود مرتفعة تتراوح ما بين 150 و300 ألف شيقل إسرائيلي (بين 43 و86 ألف دولار أمريكي). وبحسب تصريح فائق البسوس، أمين سر لجنة شؤون اللاعبين في الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، فإن لاعبي الضفة يحصلون على رواتب تبدأ من 1500 دولار أمريكي. أما لاعبي غزّة فلا تزيد رواتبهم الشهرية عن 1500 شيكل (380 دولار).
لاعبون بمهّن شاقة
تعجز معظم أندية قطاع غزة عن سدّ ما يترتب عليها للّاعبين والمدربين من ديون ومستحقات لضعف ملاءتها المالية. هذا الأمر دفع الكثير من اللاعبين للعمل حتى في مهن شاقة لتأمين حياتهم. ومع ذلك، يواصل الكثير من اللاعبين التدرّب وتحمّل نفقات نظامهم الغذائي حبّاً في الرياضة الأكثر شعبية في قطاع غزة. ومن هؤلاء اللاعبين محمد الريفي الذي يلعب في فريق إتحاد الشجاعية.
يعمل الريفي حالياً على إحدى بسطات السوق الشعبي في حي الشجاعية. وسبق له اللعب لعدد من لأندية الدوري الممتاز، لكنه واجه العديد من الأزمات مع الاندية السابقة لعدم قدرتها على تأمين احتياجاته المادية من رواتب ومكافآت. ونظراً لعجز أحد الأندية عن دفع مستحقاته، فقد اضطر للانتظار عامين حتى يقوم هذا النادي بدفع هذه المستحقات وعلى شكل أقساط.
يقول الريفي لفنك: “يعمل معظم اللاعبين في مهن شاقة إلى جانب لعبهم لكرة القدم. ويضطر البعض للعمل كعمال بناء. أما البعض الآخر، فيعمل كسائقين لسيارات الأجرة. المشكلة تظهر عندما نفكر في الاحتراف. اللاعبون لا يحصلوا على برنامج غذائي صحي. والأندية تعجز عن تأمين أقل الاحتياجات. وبسبب أعمالنا، فإننا لا نحصل على الراحة البدنية المطلوبة لتأمين مستقبلنا الكروي. الكثير منّا يصارع لتأمين لقمة العيش ويصارع حبًا بكرة القدم”.
ومن الأمثلة الأخرى على هذه الحالة محمود الحبيبي لاعب نادي اتحاد خانيونس. وعلى الرغم من كونه أحد العناصر الهامة في النادي، فإن الحبيبي مضطرٌ للعمل كسائق لإحدى سيارات الأجرة.
الحبيبي، ذي الأربعة والعشرين عاماً، تعرض لإصابتين سابقتين أبعدتاه عن الملاعب لمدة أربع شهور. وعلى الرغم من تلقيه العلاج الطبيعي في النادي، إلا أن النادي عجز عن تحمل بعض نفقاته العلاجية. في هذا السياق، يؤكد الحبيبي أنه ليس الوحيد الذي تعرض لهذه الإشكالية، خاصّة وأن ناديه الذي يلعب في الدرجة الممتازة يملك ميزانية محدودة للغاية.
يقول الحبيبي: “نلعب كرة القدم في غزة لأننا نحبها، لكنّنا لا نستطيع الاعتماد عليها كمصدر للدخل. كلّ ما نحصل عليه هو مكافأة لا تتجاوز قيمتها 200 دولار أمريكي كل شهرين أو ثلاثة شهور. العديد من اللاعبين المحترفين تركوا الأندية لانشغالهم في العمل أو لأنهم يخططون للسفر بحثاً عن اللجوء. أما البعض الآخر فيحاول الاجتهاد على أمل الاحتراف بالخارج”.
منحة رئاسية محدودة
بعد انتظارٍ طويل، أفرجت السلطة الفلسطينية في 4 يناير 2022 عن 50% من مستحقات المنحة الرئاسية المخصصة لأندية قطاع غزّة عن الموسم الحالي. ومع ذلك، فقد واصلت السلطة تجميد دفع باقي المبلغ المستحق عن الموسمين الماضيين. وتجدر الإشارة إلى عدم تحديد موعد رسمي لتوزيع المنح.
وسيحصل كل نادٍ في أندية الدرجة الممتازة على 12500 دولار من المنحة. أما أندية الدرجة الأولى والثانية والثالثة، فسيحصل كلٌّ منها على 7500 و2500 و1500 دولار على التوالي.
ويعتبر نادي اتحاد بيت حانون، الذي ينافس في الدوري الممتاز، أحد الأندية التي عانت الأمرّين نتيجة وقف المنحة. وفي مقابلةٍ مع فنك، قال شادي شبات، رئيس النادي: “يعيش اتحاد بيت حانون على وقع المشاكل الحاصلة بين اللاعبين ومجالس الإدارة. ويعود السبب في ذلك إلى عدم حصول عدد كبير من اللاعبين والأجهزة الفنية على مستحقاتهم المالية، نتيجة عدم توزيع المنحة الرئاسية”.
ويضيف شبات: “الأندية تحتاج على الأقل إلى 80 ألف دولار أمريكي في السنة حتى تعمل بشكلٍ جيد. ولأننا غير قادرين على توفير هذا المبلغ، فإنّ معظم الأندية تعجز عن تأمين رواتب المدراء الفنيين للفرق”.
وكان القطاع الرياضي قد عانى من الحروب الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزّة. وفي الحرب التي شنّتها إسرائيل على القطاع في نهاية عام 2008، تم تدمير 15 منشأة رياضية. كما قتل 11 لاعباً فلسطينياً. وفي الحرب التي وقعت عام 2012، دمّرت الطائرات الإسرائيلية ملعبي اليرموك وفلسطين، وهما أكبر ملعبين في قطاع غزّة.
أما في الحرب الإسرائيلية على القطاع عام 2014، فقد أدّت لإصابة ما يزيد عن 30 منشأة رياضية بأضرار متفاوتة، ما بين تدمير كلّي أو جزئي. كما قتل 16 من لاعبي كرة القدم في القطاع.
وبسبب كلّ ما سبق، فقد تأثرت القوى الاقتصادية التي كانت الدعامة الأساسية لدعم الرياضة المحلية في قطاع غزّة عبر ما تقدمه من رعايات. واتجه اعتماد الأندية الرياضية على منحة الرئاسة الفلسطينية للأندية في الدوري الممتاز والدرجتين الأولى والثانية وحتى الثالثة.
في المقابل، تغيب حركة حماس عن رعاية المشهد الكروي على الرغم من سيطرتها على القطاع منذ عام 2007. ويعود السبب في ذلك إلى رغبة الحركة بعدم التدخل في شؤون الكرة خوفاً من فرض عقوبات على حكومتها تحت ذريعة التدخل السياسي في شؤون كرة القدم. وتنص قوانين الاتحاد الدولي لكرة القدم على دون اعتبارها حكومة شرعية على المستوى الدولي.
رعايات محدودة
تقوم شركة أوريدو برعاية دوري الدرجة الممتازة في غزة. ويحصل كلّ فريق على مبلغ 10 آلاف دولار من هذه الرعاية. في المقابل، تعتمد أندية الدرجة الأولى والثانية والثالثة بصفةٍ أساسية على منحة رئيس السلطة الفلسطينية. وتجدر الإشارة إلى تأخر صرفها في الكثير من المناسبات.
ويجري استخدام المنحة بصفة أساسية لتحمّل المصاريف التشغيلية المتعددة لقطاع كرة القدم في الأندية ذات الرياضات المتعددة. وعلى هذا الأساس، فإنّ تلك الأندية لم يكن أمامها إلا أن تخفض من مخصصات الرياضات الأخرى.
وأعلن نادي شباب اتحاد دير البلح عن تجميد معظم أنشطته بسبب الأزمة المالية الخانقة التي يعيشها لعدم حصوله على المنحة الرئاسية. وقرّر النادي تجميد نشاط لعبة كرة اليد التي توّج بعدّة ألقاب فيها الموسم الماضي. والأمر انسحب بطبيعة الحال على نشاط قطاع الناشئين. ولم يتم الإبقاء إلا على نشاط فريق كرة القدم الذي يشارك في دوري الدرجة الثانية.
أما في دوري الدرجة الأولى، فقد أعلن مالك نادي الجلاء الرياضي إيهاب أبو رمضان في يوليو 2022 عن استعداده لبيع ناديه بسبب الأزمة المالية. وفي مقابلةٍ مع فنك، قال أبو رمضان: “قضينا سنوات أنا ومجلس الادارة ونحن نقوم بالصرف على النادي من أموالنا الخاصة. الأموال التي تدخل النادي من عقود الرعاية شحيحة، وهي لا تسدّ المكافآت والرواتب. والآن سيتم تشكيل مجلس إدارة جديد للنادي”.
من جانبه، يرى مصطفى صيام، أمين عام الاتحاد الفلسطيني للإعلام الرياضي، أن أزمات الأندية المالية تعود إلى انهيار مشاريع القطاع الخاص التي كانت تقدّم المساعدة لهذه الأندية. ووفقاً لصيام، فإن انهيار هذه المشاريع يعود السبب فيه إلى الحصار الإسرائيلي والحروب التي شنتها إسرائيل على القطاع.
ويستذكر صيام ما كانت تقوم به الأندية من أنشطة اجتماعية وثقافية وشبابية إلى جانب النشاطات الرياضية قبل الحصار. بيد أن هذه الأندية فقدت دورها الثقافي. وتحوّل عددٌ منها لممارسة الألعاب الرياضية. ومنها من اقتصرت نشاطاته على كرة القدم.
وبحسب صيام، فإنّ الأندية غير قادرة على الخروج باستراتيجية جديدة تركز على صناعة اللاعبين وبيعهم في الخارج. وقال صيام لفنك: “صناعة كرة القدم والاستثمار وبيع اللاعبين تعطي النادي دفعة قوية للاستمرار. لكن ظروف غزة صعبة وتحول دون إمكانية الخروج بمثل هكذا استراتيجيات”.
ويتفق صيام وأبو رمضان في رؤيتهما لمستقبل الرياضة وكرة القدم في غزة. ووفقاً لهما، فإن كرة القدم لن تخرج من مأزقها في غزّة طالما استمر الحصار الإسرائيلي وتواصل التهديد بشنّ حروب جديدة على القطاع.