“المتاحف الحقيقية هي تلك الأمكنة التي يتحول فيها الزمان إلى مكان،” هذا ما كتبه الروائي التركي، الحائز على جائزة نوبل للآداب، أورهان باموق، في روايته متحف البراءة.
على الرغم من أن الإقتباس قابلٌ للتطبيق على مجموعة مختلفة من السياقات، إلا أنه يناسب تماماً تعاطي لبنان الصعب مع تاريخه. هل يمكن أن يكون الدافع وراء الإنتشار الحالي للمتاحف هو نتيجة إرتباك البلاد في تعامله مع ماضيه؟ هل تعد صناعة المتاحف المزدهرة انعكاساً للرغبة في كتابة، ولربما إعادة كتابة، المشهد الثقافي للماضي والحاضر والمستقبل المحتمل للبنان؟
قد تؤكد بعض المتاحف ذات الطابع السياسي الكبير هذا الإفتراض. من بينها، معلم مليتا السياحي عن المقاومة التابع لحزب الله، الذي تم افتتاحه في الجنوب في عام 2010 للاحتفال بالذكرى العاشرة لانسحاب إسرائيل من لبنان؛ أو الإفتتاح الأخير في أبريل 2019 لمتحف الإستقلال في المدينة الساحلية جونية وذلك برعاية حزب الكتائب إحياءً للذكرى الـ44 لإندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.
ومع ذلك، السياسة ليست إلا جانباً واحداً من الجوانب المختلفة التي تُشكل ثقافة المتاحف اللبنانية. إن نظرةً عامة سريعة على المشهد الحالي تبرز أهمية المبادرات الخاصة والاعتماد الكبير في الحفاظ على التراث الثقافي على عطف بعض الأسر والأفراد الأثرياء. يتناقض هذا مع الغياب المزعوم للدولة في مجال الثقافة، على الرغم من أن متحف بيروت الوطني حصل على اعترافٍ دولي، على سبيل المثال، بمشاركته في أبريل 2018 في النسخة الرابعة من الملتقى العالمي لقادة المتاحف، الذي استضافه متحف المتروبوليتان في نيويورك.
متحف سرسق، هو متحفٌ فني في بيروت، يتم تمويله من القطاعين العام والخاص على حد سواء، بموجب قانونٍ يرجع تاريخه إلى عام 1964 بتخصيص 5% من عائدات الضرائب من تصاريح البناء في بلدية بيروت لتمويل عمليات تشغيل المتحف. أعيد افتتاحه في عام 2015 بعد سبع سنوات من التجديد، وهو يوفر نظرةً شاملة على تاريخ الفن الحديث والمعاصر في لبنان.
أما بالنسبة للمتاحف الخاصة، هناك جانب بارز يتمثل في أن العديد منها يبني على أمجاد الصناعات اللبنانية الكبرى السابقة. إحدى المبادرات الرائعة في هذا الصدد هي متحف الصابون في صيدا، جنوب لبنان. فقد بادرت مؤسسة عودة، التي أسستها أسرة عودة الغنية من المصرفيين، في عام 1996 على إعادة تأهيل مصنع الصابون القديم إلى متحفٍ يسترجع تاريخ البلاد في صناعة الصابون وتطويرها مع مرور الوقت.
بينما يقع متحف الحرير في بلدة بسوس التابعة لجبل لبنان، أيضاً في مصنع حرير سابق تم افتتاحه منذ أوائل القرن العشرين حتى عام 1950 مع تراجع الصناعة التي غلب عليها الإنتاج الضخم من الحرير الصناعي من الصين. وفي عام 1973، قام جورج وألكساندرا عسيلي بشراء العقار وترميمه وتحويله إلى متحف فتح أبوابه للجمهور في عام 2001. يهدف المتحف إلى إعادة سرد تراث صناعة الحرير، وهي صناعة شكلت تاريخ لبنان السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
مكانٌ واحد يبرز كمعبدٍ ثقافي لا يمكن تصنيفه، إذ أن متحف ميم للمعادن فريدٌ من نوعه بالفعل. فقد تمت تسميته بعد الحرف الرابع والعشرين من الأبجدية العربية. يشبه الحرف اللاتيني “M” ويشكل الحرف الأول من الكلمات العربية لكلمة “متحف” و”معادن” و”مناجم.” يقع المتحف في بيروت، بجانب حرم جامعة القديس يوسف (USJ) المبتكر، ويحتوي على أكثر من 2000 من المعادن من حوالي 70 دولة مختلفة. بأشكالها وألوانها وقصصها المختلفة، تثير المجموعة الإعجاب بتنوعها وتشكل ثاني أهم مجموعة من المعادن في العالم. بدأ مؤسس المتحف، سليم إدّه، في بناء هذه المجموعة في عام 1997. وقد أدى شغفه وإرادته لمشاركتها مع الآخرين إلى افتتاح المتحف في عام 2013. وبعد ثلاث سنوات، تم إثراء المتحف بمجموعة من 250 أحفورة من لبنان. “بسبب التكوين الجيولوجي في لبنان، لا توجد معادن محلية جميلة لعرضها. ومع ذلك، بما أن لبنان كان تحت سطح البحر قبل مليون عام، تمتلك البلاد أفضل الأحافير من الفترة الممتدة من 90 مليون إلى 100 مليون سنة قبل الميلاد،” كما قال سليم إدّه لفَنَك. فقد ضم السيد إدّه للمتحف أحفورة أحد الزواحف المجنحة المحفوظة بشكلٍ جيد، والتي تحمل اسم “Mimodactylus libanensis،” والتي تم اكتشافها في قرية حجولا، على بعد حوالي 10 كيلومترات شرق جبيل، في محافظة جبل لبنان. قام سليم إدّه بتمويل مشروعه بالكامل من تلقاء نفسه، مستثمراً جميع الأرباح التي حققها تقريباً خلال 36 عاماً كمؤسسٍ مشارك لشركة برمجيات موريكس. وقال إن الميزة تكمن في أن هذا يمنحه مزيداً من الحرية والاستقلال في توسيع نطاق عمله وفقاً لما يعتبره أفضل، بدلاً من اتباع سياسات أو تفضيلات الممولين.
وكما أوضح لنا السيد أدّه، “ما يهمني هو أن يكتسب الناس من هذا المتحف ثقافة علمية من خلال الجمال.” وأضاف “الناس معتادون على جمال الطبيعة، والحيوانات، والنباتات، ولكن ليس جمال الحجارة والأحافير. لذا الجمال هو باب دخول هذه العوالم.”
في كل عام، يستقبل المتحف حوالي 30 ألف زائر من خلفياتٍ متنوعة، أكثر من نصفهم من الأجانب. يوفر المتحف أسعار دخولٍ جذابة: فهو متاح بالمجان أمام الأطفال حتى عمر 12 عاماً، وأقل قليلاً من أربعة دولارات للأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 13 عاماً وما فوق. لا تغطي التذاكر ومتجر المتحف واستئجار قاعة المناسبات بالكامل سوى 15% من تكاليف عمليات تشغيل المتحف.
في الوقت الراهن، متحف ميم قادر على التعامل مع أسعاره المنخفضة مع ضمان التشغيل المستمر للمتحف. ولكن هذا ليس هو الحال بالنسبة لجميع المتاحف في البلاد، فالأزمة الاقتصادية تشكل خطراً وشيكاً، حيث أصبح تأثيرها مرئياً بشكلٍ متزايد. يمر متحف سرسق حالياً بأوقاتٍ عصيبة مع أزمة ميزانية غير مسبوقة. في الوقت الحالي، لا يملك خياراً آخر سوى إغلاق أبوابه أيام الاثنين، بالإضافة إلى أيام الثلاثاء التي تعتبر يوم إجازة بالفعل، وتقليل عدد المعارض التي تقام هذا العام.
في مقابلةٍ مع الصحيفة اللبنانية اليومية الناطقة بالفرنسية لوريان لوجور في فبراير 2019، قالت مديرة المتحف، السيدة زينة عريضة، إن إحدى الأفكار هي إبقاء المعرض الدائم مجانياً إلى جانب الاعتماد على العوائد من المعارض المؤقتة. ومع ذلك أصرت على أهمية وجود مكان مجاني تماماً وعام وثقافي وبأسعار معقولة، مضيفة أن الحاجز المالي يمكن أن يعيق الوصول إلى الثقافة للفئات الاجتماعية الأقل حظاً.
بالفعل، إن التكاليف الباهظة تنأى بالمتاحف عن دورها في نقل الثقافة والإلهام، خاصة تجاه الأطفال والشباب.
بالنسبة للسيد سليم إدّه هذا أمرٌ غاية في الأهمية أيضاً، وبحسب قوله “إذا ما ساهم متحف ميم بإثارة الجانب الفني أو العلمي لدى أحد الأطفال، فسأعتبر أني أنجزت مهمتي.”