واجه إحياء الأدب اللّيبيّ في العقد الماضي تحديّات عديدة كالتهديد والتّرهيب وضغوطات الرّقابة والأذى الذي يمكن أن تتعرض له هذه المحاولات. ومع ذلك، فقد ازدهر الأدب اللَيبيّ، رغم كلّ العقبات التي واجهته ففازت رواية ليبية عام 2022 "بالجائزة العالمية للرواية العربية".
في ربيع عام 2011، نشرت مجلة بانيبال، الرائدة في مجال الأدب العربيّ المترجم، عددها الأربعين الذي تناولت فيه الأدب اللّيبيّ. وشكّل ذلك بداية بروز الكتابات الأدبية اللّيبيّة على الساحة الدولية، بعدما عانت من التهميش والإهمال عقودًا طويلة، لتشهد ليبيا لاحقًا، في العقد التالي، نهضة أدبية اتسمت بطفرة غير مسبوقة في الكتابات الرّوائية.
وشرع الكتّاب اللّيبيّون، لا سيما النساء منهم، يصلون إلى القوائم القصيرة لجوائز الأدب العربي. وفي عام 2022، فازت رواية محمد النعاس “خبز على طاولة الخال ميلاد” “بالجائزة العالمية للرّواية العربية”. وجدير بالذكر أن ترجمة هذه الرّوايات اللّيبيّة إلى الإنجليزية ساعد في انتشارها فلاقت رواجًا واسعًا في أرجاء العالم. وهذا الانتشار العالمي لم يوطّد مكانة الأدب اللّيبيّ فحسب، بل ساهم أيضًا في تعزيز الحوار بين الثّقافات وإثراء الساحة الأدبية.
من الشعر إلى الرّواية
لطالما احتلّ الشعر المكانة الأبرز في الأدب العربي بما يحمله من تراث غني يمتد لأكثر من ألفيّ عام. لذلك استغرق تطوّر الرّواية العربية عقودًا طويلة، إذ بدأ استخدام النثر والسرد يتنامى في منتصف القرن التاسع عشر حتى توطّد في منتصف القرن العشرين. ومع ذلك، لم تلق الرواية رواجًا حقيقيًّا من الجيل الجديد من الكتّاب والقرّاء إلا في مطلع الألفية الجديدة.
ساهمت مصر بريادتها الثقافية في العالم العربي، وقربها من ليبيا، في تشكيل استهلاك الأدب وإنتاجه في البلاد. ورغم بروز الكتابات الأدبية القصيرة والطويلة في ستينيات القرن الماضي، استمرت هيمنة الشعر على الساحة الأدبية حتى القرن الحادي والعشرين. وشهد عام 1961 تطورًّا في الأدب اللّيبيّ شكّل علامة فارقة ، إذ نشر الكاتب محمد فريد سيالة روايته “اعترافات إنسان” التي يعدّها كثير من الأكاديميين اللّيبيّين أول رواية ليبيّة. ثم تبعتها رواياتٌ أخرى بارزة، مثل “شيء من الدفء” لمرضية النعاس في 1972، والتي تُعد أول محاولة كتابيّة نسائية في الرّواية اللّيبيّة. إلا أن كتابة الرواية لم تتوطّد فعلًا إلا في أواخر الثمانينيات مع نشر أعمال عديدة لكتّاب مثل أحمد إبراهيم الفقيه، وإبراهيم الكوني، وخليفة حسين مصطفى، وصالح السنوسي، والصادق النيهوم.
لاحقًا، شهد مطلع الألفية نقلة نوعية في الكتابة الروائية الطويلة تعكس النظرة المتغيرة إلى الأدب العربي. فقد انتشر الأدب الروائي بين جيل الكتّاب الجديد بصفته وسيلة للتحرر والتعبير عن حياتهم، في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية القمعية التي شهدتها ليبيا، أواخر التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين. وبقي الرّوائيّون اللّيبيّون يحاولون خوض غمار تجربة الكتابة الروائية حتّى شكلت محاولاتهم سمة بارزة في تلك الفترة،وتجسّد ذلك في أساليب وأشكال كتابيّة متنوعة تميزت بها أعمال كتّاب مثل محمد الأصفر ومنصور بوشناف وعبد الله الغزال وآخرين.
ويرى الكاتب اللّيبيّ البارز منصور بوشناف أن الخيال يعكس التحضر والكوزوموبوليتانية، وهما الظاهرتان اللّتان بدأتا في ليبيا بُعيْد استقلالها عام 1951. وقد تجلى هذا الاتجاه أول الأمر في القصص القصيرة التي فضلتها أجيال متعاقبة من الكتاب اللّيبيين قبل أن تتطور تدريجيًّا إلى الرّواية أواخر القرن العشرين لتعود وتلقى رواجًا قبل وبعد ثورة 2011.
نهضة ما بعد 2011: التحرر والتّحديات
ولّدت ثورة 2011 شعورًا جديدًا بالحرية والحاجة الملحّة إلى التعبير عن المجتمع اللّيبيّ بتعقيداته. فصارت الرّواية، بقدرتها على خوض غمار سرديات معقدة، وسيلةً يفحص بها الكتّاب تاريخ بلادهم وهويتها وتطلعاتها فحصًا دقيقًا.
كان للجوائز الأدبية، لا سيما “الجائزة العالمية للرّواية العربية”، أثر بالغٌ في الأدب الرّوائي اللّيبيّ. فهذه الجوائز لم تمنح الرّوائيين اللّيبيّين التقدير المستحق فحسب، بل حفّزت الجمهور العالمي على التّعرف إلى الأدب اللّيبيّ. وساهمت الترجمة، بخاصةٍ إلى الإنجليزية، في انتشار هذه الرّواية حتى صارت في متناول نطاق أوسع من القراء في أرجاء العالم ما عزّز الحوار بين الثقافات وأدى بالتّالي إلى إثراء السّاحة الأدبيّة.
ومن أوجه هذه النهضة الأدبية مساهمة الرّوائيّات اللّيبيّات البارزة في الكتابة. فقد أصبحت لهُنّ، وبخاصّة من يتناولن عادةً قضايا إجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة أصوات مؤثرة في تحوّل الرّواية اللّيبيّة المستمرّ. ولم تكسر أعمالهنّ الحواجز فحسب، بل قدّمت أيضًا سرديات تتحدى الأعراف المجتمعية وتسلط الضوء على المعاناة التي تواجهها المرأة في ليبيا. ومن هؤلاء الرّوائيات رزان المغربي، ووفاء البوعيسى، وعائشة إبراهيم، وكوثر الجهمي، ونجوى بن شتوان.
وتناولت هؤلاء الرّوائيات موضوعات متنوعة تعكس تعقيدات المجتمع اللّيبيّ. إذ نجد في أعمالهنّ صدى لقضايا مثل حقوق المرأة، والعدالة الاجتماعية، وآثار الاضطرابات السياسية. وتُعدّ رواياتهنّ شهادة بارزة على صمود المرأة اللّيبيّة وإبداعها، إذ تروي سرديّاتهن مواقف اجتماعية وسياسيّة معقدة. وبذلك لم تساهم هؤلاء المؤلفات في تطوير الأدب اللّيبي فحسب، بل ساهمت أيضًا في تعزيز نقاش واسع حول رفع صوت المرأة العربية في الساحة الأدبية.
لا شك أن طفرة الإنتاج الروائي قد لفتت الإنتباه إلى الأدب اللّيبيّ، إلا أن ذلك لم يأت دون تحديات. إذ يواجه الكتّاب تحديًا صعبًا في الموازنة بين حرية التعبير وتلقّف المجتمع، لا سيما في ليبيا بعد الثورة. فالتعامل مع الحساسيات الثقافية إلى جانب الرغبة في دفع الحدود الأدبية يتطلب دقة بالغة. لذلك يواصل الروائيون اللّيبيّون خوض هذه القضايا بمرونة وإبداع.
رغم النهضة الأدبية التي شهدتها ليبيا بعد العام 2011، ما يزال الكتاب يواجهون الكثير من التّحديات المتعلّقة بحريّة التعبير، ما يعوق قدرة الرّوائيين على التعامل مع القضايا الحساسة في البلاد.
بين الرقابة والتهديدات
يواجه الكتاب اللّيبيّون، طوال الوقت، شبح التهديدات والترهيب الذي يعوق حريتهم في التعبير. فقد خلّفت تداعيات ثورة 2011 فراغًا في السلطة دفع الفصائل المختلفة إلى السيطرة عليها، وعادةً ما تقمع تلك الفصائل الأصوات المعارضة. وأصبح الكتّاب الجريئون الذين يتناولون مواضيع خلافية، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم ثقافية، في مرمى التهديدات، ضمنية كانت أو صريحة. ومثل هذا الجو الخانق يخيف الكتّاب ويؤثر سلبًا على إبداعهم حتى إنهم يُضطرون إلى ممارسة الرقابة الذاتية أو اختيار موضوعات أقل إثارةً للجدل.
ما يزال حظر الكتب والاعتداء على الكتّاب من القضايا المؤسفة الشائعة اليوم في ليبيا. وقانون حظر الكتب لا يكبت التنوع الأدبي فحسب، بل يحدّ أيضًا من نشر وجهات النظر البديلة، ورواية “خبز على طاولة الخال ميلاد” مثال سافر على ذلك. فحظر هذا العمل يمنع الناس من قراءة إنجاز أدبي مهم، كما أنه يحذّر الكتّاب الآخرين الذين يفكّرون في الخوض في مواضيع خلافية. أما الاعتداء الجسدي فجانب آخر مقلق، إذ يواجه الكتّاب تهديدًا حقيقيًا بالعنف لتعبيرهم عن أفكارهم، ما يضطر بعض الكتّاب إلى اختيار طريق المنفى المؤلم للحفاظ على سلامتهم وحريتهم الإبداعية.
يعاني العديد من الكتّاب اللّيبيّين معضلة الإختيار بين حرية المنفى وقيود الوطن. فالمنفى ملاذ من يبحثون عن بيئة يعبّرون فيها بحرية عن أنفسهم دون الخوف من الانتقام، لكنه أيضًا يستأصلهم من جذورهم. وهذا يكشف لنا الواقع المأساوي الذي يضطر بعض الكتّاب إلى الهجرة من أجل حرية التعبير.
تزيد تحديات النشر والتوزيع معاناة حرية التعبير في ليبيا. فغالبًا ما يواجه الكتّاب الذين ينشرون أعمالهم خارج البلاد عقبات في توزيع كتبهم في ليبيا. كما أن العقبات البيروقراطية والرقابة تحول دون وصول هذه الأعمال إلى القراء اللّيبيّين، ما يؤدي في النهاية إلى حرمان اللّيبيّين من التعرّف إلى سرديات متنوعة، فضلًا عن الحد من انتشار الأدب اللّيبيّ عالميًّا.
يعاني الكتّاب في ليبيا من البيئة الخانقة الناتجة عن التهديد والترهيب وحظر الكتب والاعتداء الجسدي وصعوبات النشر. فرحلة الأدب اللّيبيّ ما تزال محفوفة بالمخاطر رغم النهضة الأدبية التي جاءت محمّلة بثروة من التعبير الإبداعي. لذلك يجد الكتّاب أنفسهم في مفترق طرق، فرغبتهم في تسليط الضوء على تعقيدات المجتمع يواجهها تكلفة شخصية باهظة سوف يتكبدونها. ومع استمرار ليبيا في مواجهة تعقيدات الواقع المفروض بعد العام 2011، تصبح معالجة هذه التحديات أمرًا بالغ الأهمية للحفاظ على ساحة أدبية حيوية ومتنوعة.
ملاحظة
تم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع https://untoldmag.org/ في 5 مارس 2024