وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الدول العربيّة وإعادة رسم خرائط إمدادات الطاقة

الدول العربيّة والطاقة
قطريون يحضرون مؤتمرا صحفيا للإعلان عن تغيير اسم قطر للبترول في الدوحة في 11 أكتوبر 2021. كريم جعفر / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

منذ اندلاع الحرب الأوكرانيا، أيقنت الدول الأوروبيّة أنها باتت أمام امتحان تقليص اعتمادها على النفط والغاز الروسيين، لسحب ورقة ضغط إمدادات الطاقة من يد بوتين، وتحرير نفسها من هذا العبئ. ففي الوقت الراهن، تعتمد أوروبا على الغاز الروسي لتأمين 40% من حاجاتها للغاز، و30% من حاجتها للنفط ومشتقاته، وهو ما يجعل القارة بأسرها رهينة روسيا في لحظة مواجهة سياسيّة كتلك التي فرضتها الحرب الأوكرانيّة. وفي واقع الأمر، لم يتوانى بوتين في لحظة المواجهة هذه عن استخدام ورقة ضغط إمدادات النفط والغاز، في مواجهة سلاح العقوبات الذي استخدمته أوروبا والولايات المتحدة، وتحديدًا حين فرض سداد ثمن الغاز والنفط الروسي بالروبل الروسي، في محاولة لإجبار خصومه على الدخول في عمليّات معقّدة داخل النظام المالي الروسي، وتجاوز العقوبات المفروضة على بعض المصارف الروسية.

هكذا، بات الاتحاد الأوروبي، ومعه الولايات المتحدة الأميركيّة، يبحثان عن الحلول التي من شأنها إعادة رسم خرائط إمدادات الطاقة التي تستفيد منها أوروبا، وصولًا إلى تقليص اعتماد الأوروبيين على الغاز الروسي بمقدار الثلثين هذا العام، وفقًا لمفوضيّة الاتحاد الأوروبي نفسها، فيما تستهدف المفوضيّة إخراج الاتحاد الأوروبي بأسره من دائرة الاعتماد على الغاز الروسي في العام 2030. مع الإشارة إلى أنّ هذا النوع من الخطط الطموحة يمثّل تحدّي كبير للكثير من الدول الأوروبيّة، كألمانيا التي تعتمد على الغاز الروسي لتأمين 49% من حاجتها للغاز، وإيطاليا التي ترتفع لديها هذه النسبة إلى حدود ال46%.

من الناحية العمليّة، لم يقتصر الحديث عن تقليص اعتماد أوروبا على النفط والغاز الروسيين على الحديث النظري والخطط الطويلة الأمد. فكما بات معلومًا اليوم، اتخذت بعض الدول الأوروبيّة، كألمانيا مثلًا، خطوات ملموس على هذا الصعيد، من قبيل تعليق العمل بمشروع نورد ستريم 2. فهذا المشروع، الذي ناهزت كلفته حتّى اللحظة ال10 مليارات يورو، كان من المفترض أن يضاعف من إمدادات الغاز الروسي باتجاه السوق الألمانيّة، من خلال أنبوب يمتد عبر بحر البلطيق، بسعة 55 مليار متر مكعّب من الغاز سنويًّا. وتعليق العمل بهذا المشروع اليوم، بعد تكبّد الشركات الروسيّة والأوروبيّة كلفة باهضة لإنشاء الأنبوب، كان مجرّد دلالة على اتجاه أوروبا نحو تقليص الاعتماد على روسيا في ما يخص مصادر الطاقة، ومحاولتها إعادة رسم خرائط إمدادات الطاقة في المنطقة.

على أي حال، كان من الواضح أيضًا أن الاتحاد الأوروبي امتلك أهداف أخرى من تقليص الاعتماد على النفط والغاز الروسيين. فصناعة النفط والغاز مثّلت خلال الفترة الماضية أبرز مصادر الدخل للميزانيّة الروسيّة، كما مثّلت أكبر مصادر النقد بالعملات الأجنبيّة. فالأرقام تشير إلى أن عائدات تصدير النفط والغاز مثّلت خلال العام 2021 نحو 36% من الميزانيّة العامّة للبلاد، فيما ضخّت هذه الصادرات نحو 79 مليار دولار من السيولة بالعملة الأجنبيّة إلى النظام المالي الروسي. وبذلك، كان خطوة تقليص عائدات روسيا من هذه الصادرات تعني من الناحية العمليّة زيادة الضغط على ميزانيّة روسيا العامّة عبر حرمانها من واردات بالغة الأهميّة، كما عنت في الوقت نفسه زيادة الضغط على ميزان المدفوعات الروسي، وقيمة العملة المحليّة للبلاد.

قطر تدخل على الخط

هكذا، مثّلت كل هذه التطورات فرصة بالغة الأهميّة لدول الخليج الباحثة عن زيادة إيراداتها من تصدير النفط والغاز، وزيادة حضورها في أسواق الطاقة العالميّة. فمنذ بدايات العام الحالي، دخلت قطر مع الولايات المتحدة على خط المحادثات حول إمكانيّة زيادة شحنات الغاز المُسال إلى السوق الأوروبيّة، في حال قطع الكرملين إمدادات الغاز عن أوروبا. ومنذ ذلك الوقت، كان الواضح أن قطر باتت تتحيّن الفرصة لزيادة حصّتها في السوق الأوروبي، بما يزيد من حضورها السياسي الدولي وأوراق قوّتها، وبما يرفع من مكانتها كحليف أساسي للغرب في الشرق الأوسط. مع الإشارة إلى أن الأميركيين أبدوا منذ بداية الأزمة الأوكرانيّة اهتمام كبير بهذا الملف بالتحديد، لمحاولة تخفيف الضغط الروسي على الأوروبيين، وضمان اندفاع الدول الأوروبيّة في المواجهة حتّى النهاية.

على أي حال، سرعان ما تبيّن خلال الشهر الماضي، وبحسب وكالة S&P Global للتصنيفات الإئتمانيّة، أن الغاز المُسال القطري، والذي يتم شحنه عبر البواخر، قادر على تعويض نحو 13% من واردات الغاز الروسي إلى دول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. وبذلك، أشارت الوكالة إلى أنّ قطر قادرة بالفعل على لعب دور أساسي في خطط الحكومات الأوروبيّة للاستغناء عن الغاز الروسي بحلول العام 2030، من خلال صادرتها من الغاز المُسال. مع العلم أن قطر تمثّل حاليًّا أكبر مصدر للغاز المُسال في العالم، من خلال شركة “قطر للطاقة” التي تستحوذ وحدها على نحو 20% من سوق الغاز المُسال الدوليّة. وبحسب الوكالة أيضًا، من المتوقّع أن تتمكّن قطر من تعويض واردات الغاز الروسي باتجاه أوروبا، من خلال برنامج استثماري بدأته الدوحة مؤخّرًا، لرفع قدرتها الإنتاجيّة للغاز المسال من 77 مليون طن سنويًّا، إلى 126 مليون طن سنويًّا بحلول العام 2027، وهو ما سيسمح لقطر بمضاعفة شحنات الغاز التي ترسلها باتجاه أوروبا.

لكل هذه الأسباب، بدأت الدول الأوروبيّة بالفعل الخطوات الكفيلة بزيادة الاعتماد على الغاز المسال القطري، على حساب الغاز الروسي الوارد عبر الأنابيب. وهكذا، بدأت ألمانيا مباحثاتها مع قطر منذ أواسط الشهر الماضي، للبحث في السبل الكفيلة بزيادة واردات ألمانيا من الغاز المُسال القطري، فيما بدأت ألمانيا بالعمل على تدشين محطات جديدة لاستقبال الغاز القطري المُسال المستورد، القادر على الحلول مكان الغاز الروسي المستورد عبر الأنابيب. وليتكامل الجهد القطري مع الخطط الألمانيّة، أعلن وزير الطاقة القطري أن بلاده تخطط لزيادة قدرتها الإنتاجيّة من الغاز المُسال بنحو 50%، وهو ما سيمكّنها من تلبية الطلب الإضافي المتوقّع من الجانب الأوروبي.

على هامش كل هذه الأحداث، كانت قطر ترسل في الوقت نفسه الرسائل الإيجابيّة للأوروبيين، من خلال تقديم ضمانات بعدم قطع إمدادات الغاز الطبيعي المسال، حتى لو دفع مشترون آخرون أسعار أعلى. وهذه الضمانات، التي بررتها قطر على أنها “تضامن مع ما يحدث مع أوروبا”، جاءت لتزيد من إطمئنان الأوروبيين اتجاه قطر، كشريك استراتيجي في قطاع الطاقة يمكن أن يخفف من اعتماد الأوروبيين على الغاز الروسي في المستقبل.

الجزائر تبحث عن زيادة صادرتها

ترتبط الجزائر بسوق الغاز الأوروبيّة من خلال أنبوب “ترانزميد”، الذي يصلها بإيطاليا عبر البحر الأبيض المتوسّط. وبالنسبة للجزائر، مثّلت الأحداث في أوكرانيا، وبحث الأوروبيين عن مصادر بديلة للغاز الطبيعي، فرصة لزيادة صادرات البلاد من الغاز باتجاه أوروبا. ولهذا السبب بالتحديد، وفور حدوث النزاع المسلّح في أوكرانيا، عبّرت شركة “سوناطرك” الجزائريّة عن استعدادها لزيادة صادرتها من الغاز باتجاه السوق الأوروبيّة، من الفائض المتوفّر لديها، وعبر أنبوب “ترانزميد” نفسه. ولتحقيق ذلك، استقبلت الجزائر وزير الخارجيّة الإيطالي الباحث عن زيادة واردات بلاده من الغاز الجزائري، بعد أن أعلن رئيس الوزراء الإيطالي في وقت سابق أن بلاده تستهدف تنويع مصادرها من الطاقلة، لتقليص اعتمادها على الغاز الروسي.

في كل الحالات، كان من الأكيد أن الجزائر بالتحديد تبحث عن هذه الفرصة لتعزيز علاقتها مع شركائها الأوروبيين، خصوصًا أن تصريحات رئيس “سوناطرك” التنفيذي توفيق هكار ركّزت في أكثر من محطة على أن أوروبا “هي السوق الطبيعي المفضّل” للغاز الجزائري، في حين أن الجزائر مستعدة لدعم شركائها الأوروبيين “على المدى الطويل في حالة الأوضاع الصعبة”. وللقيام بذلك، ذكّر هكار بأن خط “ترانزميد” يمتلك قدرات إضافيّة غير مستغلّة بعد، في حين أن الجزائر تملك كميات فائضة من الغاز الطبيعي التي يمكن استخدامها لعمليات التصدير باتجاه السوق الأوروبيّة.

عمليًّا، وبحسب وزارة الطاقة الجزائري السابق عبد المجيد عطار، تصدر الجزائر في الوقت الراهن ما يقارب ال22 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عبر خط “ترانزميد” نحو أوروبا، في حين أن قدرة الخط الاستيعابيّة تسمح بزيادة كمية الصادرات بنحو 10 مليارات متر مكعّب كحد أقصى. مع العلم أن كميّات الغاز المصدّرة الإضافيّة، يمكن ضخها لاحقًا باتجاه أسبانيا وسائر الدول الأوروبيّة، بعد وصولها إلى إيطاليا، وهو ما سيسمح بتعويض جزء من واردات الغاز الروسي، الذي تسعى أوروبا للاستغناء عنه على المدى الطويل.

وعلى المدى الأطول، سيكون بإمكان الجزائر زيادة سعة خط غاز “ترانزميد” نفسه، بما يسمح بزيادة الكميّة القصوى التي يمكن تصديرها من الجزائر باتجاه أوروبا، بل وتصدير الغاز الطبيعي من الدول الأفريقية الأخرى إلى أوروبا باتجاه هذا الخط. مع الإشارة إلى أن هناك مخططات قديمة لربط الجزائر بخطوط غاز مع دول أفريقيّة أخرى مصدّرة للغاز كنيجيريا، وهو ما سيسمح بنقل الغاز النيجيري إلى الجزائر أولًا، ومنها إلى أوروبا عبر خط “ترانزميد” بعد زيادة سعته. وفي الوقت نفسه، ذهبت الأنظار أيضًا باتجاه ليبيا، التي يربطها خط غاز آخر بالجزائر، وهو ما يفتح المجال أمام تصدير الغاز الليبي إلى الجزائر، ومن ثم أوروبا عبر خط “ترانزميد”.

إحياء مشاريع خطوط الغاز القديمة

كل هذه التطورات أحيت مشاريع خطوط الغاز القديمة، كمشروع خط الغاز الذي عمل عليه منتدى “غاز شرق المتوسّط”. فهذا المنتدى، الذي أُعلن عن تأسيسه عام 2019، هدف في ذلك الوقت إلى ربط حقول الغاز المصريّة والقبرصيّة والإسرائيليّة بالسوق الأوروبي، عبر أنبوب يمر باليونان وإيطاليا، ويرتبط بشبكة الغاز الموجودة في الأردن. مع العلم أن كل اليونان وقبرص وإسرائيل وقّعت بالفعل اتفاق أولي لمد الأنابيب، وتم إطلاق تسمية “إيست-ميد” على هذا المشروع، على أن يكون أطول أنبوب في العالم تحت الماء، إلا أن تنفيذ المشروع ظل معلّقًا لتعذّر تأمين التمويل اللازم له. أما اليوم، وبعد كل التطورات التي حصلت في أوروبا، بات الباب مشرّعًا لإعادة إطلاق المشروع، بعد أن بات تنفيذه حاجة أوروبيّة وأميركية للاستغناء عن الغاز الروسي.

هكذا، أدى انقلاب الأولويات الأوروبيّة إلى إعادة رسم خرائط الطاقة في الشرق الأوسط والدول العربيّة، إما عبر إحياء مشاريع أنابيب الغاز القديمة، أو زيادة الصادرات عبر الأنابيب القائمة، أو حتّى زيادة الاعتماد على الغاز المسال. كما أدّت هذه التطورات إلى تفعيل البحث في توسيع أنابيب الغاز القائمة الحاليًّا من دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط باتجاه أوروبا، كما في حالة أنبوب “ترانزميد” الذي يصل الجزائر بإيطاليا. مع العلم أن تركيا نفسها بدأت البحث في توسيع القدرة الاستيعابيّة لأنبوب “تاناب”، الذي يسمح بنقل غاز أذربيجان إلى أوروبا عبر تركيا، مستفيدةً من سعي أوروبا للبحث عن مصادر بديلة للغاز الطبيعي.

باختصار، كانت الأزمة الأوكرانيّة وما تلاها من تطورات في سوق الطاقة العالميّة فرصة بالغة الأهميّة لجميع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المصدّرة للغاز، الباحثة عن زيادة صادرتها من الغاز الطبيعي لزيادة إيراداتها، وتعزيز حضورها السياسي الدولي من خلال شراكات استراتيجيّة جديدة مع الدول الأوروبيّة.