وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تجارة المخدرات في سوريا: قضية دولية الأبعاد

تجارة المخدرات في سوريا
الشرطة السورية تعرض مخدرات وحبوب كابتاغون محتجزة في إدارة مكافحة المخدرات في العاصمة دمشق يوم ٤ يناير ٢٠١٦. المصدر: LOUAI BESHARA / AFP.

حسين الزعبي

تفاقمت مشكلة انتاج المخدرات وتهريبها من سوريا خلال السنوات القليلة الماضية حتى بدأت تتحول إلى قضية دولية. ولعل هذا ما دفع مجلس النواب في الكونغرس الأمريكي للتصويت، في أكتوبر 2021، على تعديل ‎يتطلب استراتيجية مشتركة بين الوكالات الأمريكية، لتعطيل شبكات المخدرات التي يعتقد أنها تعمل في ظل النظام السوري، وكذلك تقديم ‎تقرير عن ثروة بشار الأسد وأفراد أسرته، بمن فيهم أبناء عمومته.

وكانت صحيفة دير شبيغل الألمانية قد سبقت تصويت مجلس النواب الأمريكي في الإشارة إلى الشبكات العائلية، إذ كشفت أن شحنة مخدرات “الإمفيتامين”، والمعروفة بـ “الكابتاغون” التي ضبطتها إيطاليا، منتصف العام 2020 والتي تعد أكبر عملية مصادرة على مستوى العالم لمخدرات “الإمفيتامين” (45 مليون حبة كابتاغون وزنها 14 طنا)، مصدرها سامر كمال الأسد أحد أقارب بشار الأسد. وبحسب الصحيفة، فإن كمال الأسد يملك معملا لتصنيع المخدرات في قرية البصة جنوب مدينة اللاذقية من بين عدة معامل تديرها عائلة الأسد. كما كشفت الصحيفة الألمانية عن نقل المخدرات عن طريق رجل أعمال سوري يدعى عبد اللطيف حميدة، وهو شخصٌ غير مدرج على قائمة العقوبات الأمريكية والأوروبية.

ووصفت دراسة صادرة عن مركز كوار (COAR) للتحليل والأبحاث سوريا بأنها أصبحت مركزا عالميا لإنتاج “الكابتاغون”. وبحسب هذه الدراسة، فإن صادرات سوريا من هذا المنتج بلغت 3.46 مليار دولار. وفي نفس السباق، وصفت صحيفة اللوموند الفرنسية بشار الأسد بـ “زعيم الكابتاغون في الشرق الأوسط”، لا سيما بعد سيطرته على مناطق “تنظيم الدولة”، فالأخير طوّر صناعة الكابتاغون الخاصة به، ليتم تهريبها إما إلى تركيا أو إلى المناطق الموالية للأسد، إلا أن استعادة النظام الأراضي من تنظيم الدولة، جعلته اليوم -حسب اللوموند – زعيم الكابتاغون من غير منازع على النطاق الإقليمي.

ما قبل العالمية..

قبل عام 2011، كانت سوريا ممرا لتجارة المخدرات القادمة من أفغانستان وإيران بهدف الوصول إلى الخليج، فيما كانت الكميات المنتجة محليا محدودة. واشتهر في هذا السياق مخيم “النيرب” بريف حلب كبؤرة لتصنيع وترويج مادتي “الهيروين” و”الحشيش” بغطاء من رئيس فرع أمن الدولة آنذاك عمر حميدة وهو من أبناء المنطقة. ووظفت عائلة حميدة نفوذ وسطوة العميد عمر، الذي كان مقربا من الأسد الأب بحسب مركز جسور للدراسات. ويبدو أن الحال استمر على ذلك حتى الآن، فشحنة إيطاليا الشهيرة نقلها رجل الأعمال عبد اللطيف حميدة وهو من العائلة نفسها.

كما اشتهرت قبل عام 2011، بحسب المصدر نفسه، أسماء شعبان بري وعبد الملك بري بالاتجار وإنتاج المخدرات، وهما شخصيتان عشائريتان تحالفتا مع السلطة واستفادت من هذا الغطاء ونشطت في تصنيع المخدرات في معقلها بـ “تل الزرازير” بريف حلب. وبعد عام 2011، شكلت عائلة بري ميليشيا مسلحة تابعة للنظام السوري، وتتبع تنظيميا لما يسمى بالقوات الرديفة. وفي فترة سابقة على ذلك، في تسعينيات القرن الماضي، اشتهرت بعض العوائل في مناطق شمال حلب، والقلمون بريف دمشق وكانت على صلة بشبكات عالمية في كولومبيا وإيطاليا وغيرها.

صحيفة اللوموند الفرنسية تذهب في تقرير للخبير في شؤون الشرق الأوسط جان بيير فيليو، إلى ما أهو أبعد من ذلك زمنيا إذ تقول: “الرئيس الراحل حافظ الأسد عندما أرسل جيشه لاحتلال جزء كبير من لبنان عام 1976، لم يُضِع الوقت وأخذ ضريبته على الحشيش المزدهر في سهل البقاع اللبناني، ثم شجع على تنمية زراعة الخشخاش هناك، قبل أن ينشئ مختبرات لتحويل الأفيون المنتج محليا إلى هيروين تحت سيطرة الجيش السوري، وأنشأ أباطرة نظام الأسد الذين يديرون هذه التجارة المربحة عصابات في سوريا يسمونهم الشبيحة“.

بيير فيليو يضيف في عرضه التاريخي في صحيفة اللوموند: “رئيس المخابرات العسكرية اللواء علي دوبا ترأس هذا التنظيم قبل أن يهمشه بشار الأسد الذي خلف والده حافظ عام 2000، وأصبح زعيما مطلقا لسوريا. غير أن انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، تحت ضغط شعبي، أدى إلى إنهاء دورة المافيا الأولى”.

الدورة الثانية..

يقوم مصنعو حبوب الكابتاغون في سوريا بإدخال تعديلات على المادة الأصلية التي تستخدم أصلا في علاج الاضطرابات النفسية المتعلقة بنقص الانتباه. ولقيت هذه الحبوب رواجا بين صفوف المقاتلين بعد العام 2011 لأنه يمنح متعاطيه شعورا بالقوة والشجاعة والنشوة، ومع مرور الزمن يتحول إلى إدمان، وبزيادة الجرعة لضمان استمرار الشعور الإيجابي، تظهر مضاعفات جانبية مثل الاكتئاب والتسمم في عضلة القلب. لكن ذلك لم يكن السبب الوحيد في زيادة إنتاج هذه المادة، بل لدواع ربحية لاسيما بعد تدهور الاقتصاد السوري. ومن أشهر “معامل إنتاج حبوب الكابتاغون: معمل البصة في قرية “البصة” ويشرف عليه سامر الأسد. وهناك أيضاً معمل الكرتون في منطقة الشيخ نجار شمال شرق حلب ويشرف عليه عبد اللطيف حميدة. كما تضم القائمة معمل دوير الشوا يقع في قرية دوير الشوا جنوب اللاذقية ويشرف عليه وسيم الأسد، ومعامل القاطرجي وتوجد في عدد من أحياء حلب. ولحزب الله معامل تنتشر في حمص ودرعا وريف دمشق. وتشرف شبكات مرتبطة بفصائل المعارضة المسلحة على بعض المعامل شمال غرب سوريا.

ووفق المعلومات التي نشرتها صحيفة “نيويورك تايمز” في تحقيق لها، فإن مصانع الكابتاغون يُعلق عليها يافطات منطقة عسكرية مغلقة، ويحميها الجنود، ويسيطر مسلحون على معابر غير شرعية لمرور المخدرات سواء عبر مينائي طرطوس واللاذقية اللذين تراقبهما عيون أجهزة الاستخبارات الغربية. وكانت نيويورك تايمز قد استندت في معلوماتها على ما ذكره الصحفي بيير فيليو في تقريره لصحيفة لوموند. ولفت التقرير إلى مسارات التهريب عبر الحدود التركية، والعراقية، والأردنية مرورا إلى أوروبا، ودول الخليج.

ومن أبرز خطوط التهريب، الحدود السورية اللبنانية عبر مناطق القلمون الغربي والزبداني ومضايا بريف دمشق، والقصير بريف حمص، وجميعها تحت سيطرة حزب الله اللبناني. أما الحدود الأردنية فتتم عمليات التهريب على امتداد الحدود. إلا أن الشحنات التي تستهدف الخليج فلا بد وأن تمر عبر المعبر الرسمي “معبر نصيب – جابر”، إذ يتم إدخال حبوب الكابتاغون ضمن شحنات مختلفة مثل الشوكولا وغيرها. أما شمالا، فهناك محوران الأول شمال غرب حلب عبر بلدتي نبل والزهراء وصولا إلى تركيا، والثاني شمال شرق حلب من دير حافر إلى منبج الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية وصولا إلى إقليم كردستان العراق.

أما خطوط التهريب بحريا، فتتم عبر ميناء اللاذقية وكذلك ميناء بيروت ويتم استخدام الأول كخط تهريب رئيسي إلى دول أوروبا وأفريقيا، كما يتم استخدام ميناء بيروت كخط ثانوي لمختلف أنواع المواد المخدرة المصنعة في سوريا وذلك قبل التفجير الذي تعرض له الميناء في العام 2020، ومن أمثلة الشحنات التي تمت عبر ميناء بيروت شحنة ضبطتها السلطات الإماراتية في العام 2014 وتتضمن 14 مليون حبة كابتاغون مغلفة ضمن حبوب الذرة.

اقتصاد وأشياء أخرى..

تجارة المخدرات في سوريا
صورة تم التقاطها يوم ١٧ فبراير ٢٠٢٢ أثناء جولة نظمها الجيش الأردني ويظهر فيها الجنود وهم يحرسون الحدود مع سوريا لمكافحة تهريب المخدرات. وبات تهريب المخدرات من سوريا إلى الأردن من الأعمال المنظمة، حيث يقوم المهربون بتنظيم العمليات واستخدام تجهيزات معقدة ومنها الطائرات غير المأهولة، بحسب الجيش الأردني الذي حذّر من إمكانية لجوئه إلى سياسة القتل الفوري للضالعين في هذه الأعمال. وكان الجيش الأردني قد قتل منذ بداية العام الجاري ٣٠ مهرّباً وأحبط محاولات لتهريب ١٦ مليون حبة كابتاغون من سوريا إلى الأردن، وهو ما يزيد بحسب الجيش الأردني عمّا تمت مصادرته في عام ٢٠٢١ بأكمله. المصدر: Khalil MAZRAAWI / AFP.

تدر صناعة وتجارة الكابتاغون أموالا طائلة، وهي ما يحتاجه النظام وغيره من القوى المسيطرة على الأرض. لكن ذلك ليس السبب الوحيد في نمو هذه الصناعة. فالكابتاغون بات من أدوات سيطرة القادة على عناصرهم من المقاتلين الذين وصل معظمهم إلى مرحلة الإدمان وبالتالي مرحلة الخضوع الكامل لقادتهم، فضلا عن السعي لإغراق المجتمع بهذه المادة واستهداف شريحة الشباب التي شكلت طوال السنوات العشر الماضية عصب ما يحدث سوريا في كلا الاتجاهين، مع أو ضد، وبالتالي سهولة تجنيدهم سواء بالمعنى القتالي أو بالمعنى الاستخباراتي.

المخدرات من عوامل ضرب المجتمعات، ويؤدي انتشارها إلى ارتفاع مستوى الجريمة والفوضى. وفي هذا السياق، يرى المتابعون أن زيادة ضخ الكابتاغون باتجاه دول الخليج عبر الأردن لا يبتعد عن هذه الغاية بالإضافة إلى الهدف الاقتصادي. وقد لوحظ منذ العام 2018، أي بعد سيطرة النظام على مناطق المعارضة في جنوب سوريا، ارتفاع عدد محاولات تهريب المخدرات عبر الحدود مع الأردن بغية الوصول إلى الخليج. وهذا ما يؤكده الصحفي الأردني نضال منصور، مؤسس مركز حماية وحرية الصحفيين في مقال له: في الأشهر الماضية تزايدت وتيرة عمليات تهريب المخدرات من الحدود السورية. وأحيانا كان يُرافق تهريب المخدرات تهريب للأسلحة أيضا، ويُصاحب كل ذلك تمركز وسيطرة مليشيات مُقربة من إيران على مناطق بالقرب من الحدود الأردنية، بالإضافة إلى اقتراب فلول من تنظيم “داعش” لمناطق مُحاذية”.

منصور يضيف: “السلطات الأردنية تلاحظ أن عمليات تهريب المخدرات كثُرت، وأصحبت أكثر تنظيما، ويُستخدم في تمريرها تكنولوجيا متطورة، وطائرات مُسيرة، والمُقلق عند دوائر صنع القرار المعلومات التي تؤكد أنها تُدار من خلال عصابات مُنظمة، تتشارك مع جماعات مسلحة”.

وكان الجيش الأردني أعلن عن إحباط 361 محاولة تسلل وتهريب مخدرات العام الماضي، أي بمعدل محاولة كل يوم، وبأنه صادر أكثر من 15 مليون حبة “كابتاغون”. هذا الإعلان جاء بعد أيام من اشتباك خاضه الجيش الأردني على الحدود السورية وانتهى بمقتل 27 مُهربا حاولوا التسلل إلى الداخل الأردني أواخر الشهر الماضي، سبقها محاولة أخرى أسفرت عن مقتل ثلاثة عناصر في الجيش الأردني بينهم ضابط برتبة نقيب. وربما هذا ما دفع الأردن إلى تغيير قواعد الاشتباك التي كانت سارية قبل ذلك وأبلغ القيادة السورية “إن لم تتصرفوا؛ سنحمي حدودنا“. يأتي ذلك في الوقت الذي أعلنت فيه الجمارك السعودية عن إحباط خمس محاولات لتهريب أكثر من 1.4 مليون حبة كابتاغون، عثر عليها مخبأة في عدد من الشاحنات والمركبات القادمة إلى المملكة، عبر منفذ الحديثة البري مع الأردن.

أيا تكن الأسباب، وأيا تكن الجهات التي تقف خلف هذه الصناعة، فالحقيقة الثابتة أن سوريا باتت مركزا لهذه الصناعة.