وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الأزمة في مصر تسرق أمل الكثيرين

حتّى ولو لم تفلس مصر، سيعاني الشّعب لفترة طويلة من الزّمن في ظلّ تصاعد المخاوف من الانهيار الاجتماعيّ.

الأزمة في مصر
امرأة تبيع عبوات مناديل ورقية على طول سور الجامع الأزهر التاريخي في حي الأزهر بالعاصمة المصرية القاهرة في 16 يناير 2023. مع أزمة الاقتصاد المصري، وتراجع العملة الحرة وارتفاع التضخم بشكل كبير، تضرر الفقراء بشدة، لكن الطبقة الوسطى تتأرجح أيضًا على حافة الهاوية. خالد دسوقي / وكالة الصحافة الفرنسية

دانا حوراني

ما زالت لما سامي، البالغة من العمر 24 عامًا، تعيش مع والديها في المنزل نفسه. إنّها محترفة وسائل إعلام ماهرة ومتمرّسة في المجال، ومع ذلك، بحسب قولها، هي غير قادرة على الاستقلاليّة بسبب تضاؤل الأجور وتزايد التّوتّر في بيئة العمل. وتضيف أنّه على الرّغم من ادّخارها مبلغًا كبيرًا من المال بسبب عدم دفع الإيجار، تبقى آثار الأزمة الماليّة في مصر الآن أشدّ من أيّ وقت مضى.

أخبرت سامي فناك بأنّ “سابقًا كانت الـ 1000 جنيه تسهم إسهامًا كبيرًا في المعيشة، وكانت كافية لشراء حاجيّات أسبوع بأكمله، لكنّنا الآن ننفق المبلغ نفسه لشراء القليل.”

فقدت العملة المحلّيّة المصريّة ما يقارب نصف قيمتها مقابل الدّولار، وذلك بمعظمه نتيجة صدور 3 مليارات دولار عن صندوق النّقد الدّوليّ (IMF) لإنقاذ الاقتصاد المصريّ.

لكن يفرض قبول هذا القرض شروطًا قاسية يجب استيفاؤها على الرّغم من تداعياتها على المواطنين. ومن الشّروط المتعلّقة بالجنيه المصريّ، تفضيل البنك الدّوليّ الحدّ من تدخّل الدّولة في الشّؤون الاقتصاديّة، أي السّماح بتقلّب سعر الصّرف بحسب سعر السّوق الحاليّ.

في ظلّ نسبة تضخّم تخطّت العشرين في المئة، وإفراغ محلّات البقالة من الحاجيّات، ونفاذ الموادّ المستوردة، يواجه المصريّون من كلّ الأعمار والمستويات الاجتماعيّة -باستثناء الأثرياء- صعوبة في التّأقلم. في مواجهة مستقبل غامض وواقع مرير، يظنّ الخبراء والمراقبون أنّ حتّى ولو لم تفلس الدّولة، سيعاني الشّعب لفترة طويلة من الزّمن في ظلّ تصاعد المخاوف من الانهيار الاجتماعيّ.

قالت سامي: “إنّ الشّعب غاضب ومحبط، وذلك يتجلّى كلّ يوم. إنّنا نأمل بتحسّن الأوضاع، لكنّ ذلك لن يحصل.”

ماذا حدث؟

يبلغ عدد سكّان مصر نحو أكثر من 106 ملايين شخص، يواجه أكثر من نصفهم ظروفًا اقتصاديّة قاهرة. فيما يتصارع البلد مع أحد أسوأ معدّلات التّضخّم في الخمس سنوات الماضية، يستحيل أكثر فأكثر على الفئات الأشدّ فقرًا تأمين الغذاء، نظرًا لارتفاع أسعار الدّواجن من 30 جنيه (1.9$ سابقًا) للكيلوغرام عام 2021 إلى 70 جنيه (2.36$)، بحسب وكالة السّي إن إن (CNN).

عانت مصر، خلال العقد الماضي، من أزمات اقتصاديّة متعدّدة، ما جعلها تسعى إلى الحصول على مبالغ ماليّة إنقاذيّة من الدّائنين، من ضمنهم صندوق النّقد الدّولي وحلفائها من دول مجلس التّعاون الخليجيّ. وكما أفاد صندوق النّقد الدّوليّ، يشكّل دين الدّولة 85.6% من حجم اقتصادها، وقد تركها ذلك في حلقة غير مستدامة من الاقتراض.

يشكّل الدّور الكبير الّذي لعبته القوى العسكريّة في إضعاف القطاع الخاصّ، أحد العوامل الرّئيسة للفشل الاقتصاديّ. وتشمل النّفقات العسكريّة المراكز، والدّفيئات الزّراعيّة، والنّفط، والطّعام، والمصانع، والفنادق، والتّنقّلات، وغيرها. إضافة إلى ذلك، أعاقت استثمارات الدّولة في مشاريع ضخمة، كبناء عاصمة جديدة في الصّحراء تكون مقرًّا لوزارة دفاع “أكبر حجمًا من البنتاغون“، تنافسيّة الشّركات الخاصّة وتمكّنها من إنشاء فرص عمل جديدة.

ولقد سحب المستثمرون 20 مليار دولار من البلد نتيجة جائحة كوفيد-19 في 2020، فيما سبّبت الحرب في أوكرانيا ارتفاع أسعار المحروقات، رافعة بذلك نسبة التّضخّم.

أمّا في 2022، فاضطرّت الدّولة المصريّة إلى اللّجوء إلى بنك النّقد الدّوليّ للمرّة الرّابعة خلال ستّ سنوات، موافقة على سعر صرف مرن خلال الاتّفاقيّة الإنقاذيّة الّتي أُبرِمت في تشرين الأوّل. وقد أدّى ذلك فورًا إلى انخفاض ثلث قيمة العملة مقابل الدّولار في الشّهر نفسه.

الشّعب يدفع الثّمن

كان راتب الكاتب كريم الجمّال، البالغ من العمر 34 عامًا، في ما مضى يؤمّن له حاجاته الأساسيّة ويسمح له بالتّمتّع بالأنشطة التّرفيهيّة والأحداث الثّقافيّة. فقبل الأزمة، كان هذا الباحث المصريّ يستمتع بحضور حفلات الأوبرا، وشراء الكتب بكمّيّات كبيرة، والسّفر أكثر من مرّة في السّنة.

قال الجمّال لفناك “لقد حدث التّغيير بشكل جذريّ وسريع جدًّا. وما يزيد ذلك سوءًا هو أنّ بلدنا لا يتمتّع بالاكتفاء الذّاتي، ما يعني أنّ اعتمادنا على الموادّ المستوردة سيبقينا في مأزق ماليّ.”

وبحسب ما أفادنا، لقد بقيت الأجور كما هي من دون أيّ ارتفاع، تاركة النّاس في حالة خسارة مستمرّة مع تدهور العملة.

وفسّر أنّ الأفراد الّذين كانوا يتقاضون أجرًا قيمته 4000 جنيه، في العام الماضي، كانوا قادرين على الحفاظ على مستوى معيشي لائق للأسر النّوويّة الصّغيرة. أمّا اليوم، فيتطلّب تأمين الحاجيّات الأساسيّة لأسرة من أربعة أفراد جني حوالى 10,000 جنيه.

أضاف الجمّال “إلى جانب النّفقات الغذائيّة، ينفق الأشخاص المال على دروس إضافيّة لأولادهم بسبب رداءة مستوى التّعليم في المدارس الحكوميّة.”

وبذلك، يقدّر البنك الدّوليّ أنّ ما يقارب ثلث الـ 104 مليون من سكّان مصر يعيشون دون خطّ الفقر، وعدد مساوٍ له يُعتبَر “عُرضة للفقر”. أثّرت الأزمة الماليّة الحاليّة أيضًا على الطّبقة الوسطى التّقليديّة، إذ يتقاضى العديد من العمّال ما يقارب الـ 135$ شهريًّا، ما يدفعهم إلى التّواصل مع الجمعيّات الخيريّة للحصول على دعم ماليّ.

قال أحمد هشام من الجمعيّة الخيريّة “أبواب الخير” للمونيتور Al-Monitor ” قال لنا أحد الرّجال أنّ بإمكانه إمّا إطعام أطفاله أو إدخالهم المدرسة، لكن ليس الاثنين معًا.”

النّهاية المدقعة

توزّع سوبرماركات كثيرة الأساسيّات الضّروريّة كالحليب والسّكّر والأرزّ، بكمّيّات محدودة متّبعة سياسة الكيس الواحد لكلّ شخص. ولقد شاعت على منصّات التّواصل الاجتماعيّ فيديوهات لمواطنين قلقين يعربون عن أسفهم ويعبّرون عن مخاوفهم، مظهرين استياءهم وغضبهم وحزنهم وقلقهم حيال الحاضر والمستقبل.

يشرح الجمّال أنّ اللّحوم على أنواعها، من ضمنها لحم البقر والدّجاج والسّمك، أصبحت أطعمة فاخرة يُخضِعها النّاس للتّقنين، إلى جانب الحدّ من شراء الغذاء خلال الشّهر تفاديًا للإفلاس.

لكن حتّى تكلفة تحضير أبخس الأطباق ثمنًا تتصاعد أيضًا. فالكشري مثلًا، وهو أحد أشهر الأطباق المصريّة وأرخصها، إذ يتكوّن من المعكرونة، والأرزّ، والعدس، والحمّص، والبصل المقليّ، وصلصة الطّماطم، بات يستحيل على الكثيرين شراؤه.

إضافة إلى ذلك، يشير سامي والجمّال إلى أنّ الشّركات الّتي أصبحت عاجزة عن تحقيق ما يكفي من الأرباح تسرِّح موظّفيها، مؤدّية إلى أزمة بطالة ستطال خصوصًا الخرّيجين الجدد.

وتصرّح سامي بأنّ العديد من الشّباب الّذين انتقلوا من قرى بعيدة إلى مدن كبرى كالقاهرة والإسكندريّة لمتابعة دراساتهم، يعودون الآن إلى منازلهم متخلّين عن مساراتهم التّعلّميّة والمهنيّة، بسبب عجزهم عن دفع الإيجار وتحمّل نفقات المعيشة.

في المقابل، يخبرنا الجمّال بأنّ العديد من الشّباب المصريّين بدأوا يفكّرون في الهجرة أو بدأوا باتّخاذ الإجراءات اللّازمة لذلك، باحثين عن فرص عمل أفضل في الخارج.

ويضيف “حتّى الأثرياء يشتكون، ولا أحد مرتاح. فالسّنوات القليلة القادمة والتّحدّيات الّتي تحملها محاطة بالكثير من الحيرة والقلق.”

بلد مختلف والأزمة نفسها؟

في لبنان كما في مصر، فقدت العملة اللّبنانيّة 90% من قيمتها مسجّلة رقمًا خياليًّا، 60,000 ليرة مقابل الدّولار في السّوق السّوداء، في وقت كتابة المقال، بعد أن كانت 1,500 ليرة 2019.

وفي الأوّل من شباط، أعلن البنك المركزيّ عن السّعر الرّسميّ الجديد وهو 15,000 ليرة مقابل الدّولار الواحد، بدلًا من السّعر السّابق الّذي كان يتعدّى الـ 1,500 ليرة بقليل، والّذي رُبط بالعملة مدّة عقود قبل الانهيار.

وصف المسؤولون اللّبنانيّون موافقتهم على سعر الصّرف الجديد كخطوة نحو توحيد المعدّلات المتنوّعة الّتي ظهرت خلال الأزمة، لكنّ الكثيرين يعتبرون ذلك شكليّات لن تسيطر على السّوق السّوداء المحاذية.

ونتيجة للقيود الّتي وضعتها البنوك على إمكانيّة الحصول على الدّولار، ظهرت أسواق سوداء بارزة لتبادل الدّولار في البلدين. يمكن حاليًّا شراء الدّولار الواحد مقابل 33 جنيه بحسب سعر صرف السّوق السّوداء في مصر.

من الصّعب، بحسب عالمة الاقتصاد المصريّة منى شمّاخ، مقارنة الدّولتين بسبب عدم توافق وضعيهما وآليّات تأقلمهما. إذ لا يبدو لبنان على استعداد لتوقيع خطّة إنقاذ مع صندوق النّقد الدّوليّ في أيّ وقت قريب، على الرّغم من معاناة البلدين من النّقص، وانهيار العملة، وتصاعد معدّلات التّضخّم.

صرّحت شمّاخ لفناك بأنّها تعتقد أنّ “على النّاس التّأقلم تدريجيًّا مع الظّروف الّتي تشتدّ قساوة، كما فعلوا في لبنان. أتوقّع أن يميل المستهلكون إلى شراء السّلع الأقلّ كلفة، ويبدأون بالزّراعة في المنزل، وتربية الدّجاج، والخَبْز.”

مفارقة أخرى بين الدّولتين، هي أنّه فيما تُدفع الأجور في مصر بالجنيه للجميع، ما يخفّض القدرة الشّرائيّة للنّاس بالتّساوي، يتقاضى 13.6% من العمّال في لبنان أجورهم بالدّولار.

يقلق الجمّال من تردّي الاقتصاد أكثر فأكثر في حال عدم تحسّن وضع السّياحة، نتيجة لتفاقم انتهاكات حقوق الإنسان الّتي تؤثّر سلبًا على سمعة البلد دوليًّا.

إذ كانت مصر عام 2021 ما زالت تصعِّد استخدامها حكم الإعدام بعد محاكمات غير عادلة وملاحقات قضائيّة جماعيّة، كما أفادت منظّمة هيومن رايتس ووتش Human Rights Watch. وبحسب الجبهة المصريّة لحقوق الإنسان، أُعدِم 80 شخصًا في السّتّة أشهر الأولى من عام 2021، يُزعَم أنّ نصفهم لأسباب سياسيّة.

سامي والجمّال متشائمَين حيال المستقبل بخاصّة بعد اقتراح صندوق النّقد الدّوليّ بيع أصول الدّولة كأحد الحلول للأزمة. ويؤكّد الجمّال أنّ هذا النّوع من السّياسات غير كافٍ على الأمد الطّويل، وأنّ على البلد الاعتماد على إنتاجه الخاصّ لتحقيق التّقدّم الاقتصاديّ.

في المقابل، تشير سامي إلى أنّ النّاس يعبّرون عبر الإنترنت، عن مشاعر متطابقة من السّخط والازدراء تجاه الدّولة.

وتقول: “أكثر ما نخافه هو ثورة الجياع الّتي تستتبعها الفوضى وغياب الأمن.”