وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

أزمة العراق النقدية والقيود الأميركيّة

لم يكن من المفترض أن تشهد العراق أي أزمة نقديّة كما حصل، بعكس دول المنطقة العربيّة الأخرى التي عانت من تراجعات في قيمة عملاتها المحليّة.

أزمة العراق النقدية
صراف في الشارع يحصي الأوراق النقدية في بورصة الكفاح ببغداد، حيث تستمر قيمة الدينار العراقي في التراجع مقابل الدولار الأمريكي. أحمد الربيعي / وكالة فرانس برس

علي نور الدين

منذ اواخر عام 2022، يعاني العراق من أزمة نقديّة مستجدة، أدّت إلى الضغط على قيمة الدينار العراقي.

وخلال الأسبوع الأوّل من 2023، اشتدّت هذه الضغوط بشكل أقسى، لتصل قيمة الدولار الواحد إلى حدود ال1580 دينارًا عراقيًا في السوق الموازية. وبذلك، تكون قيمة الدولار في السوق العراقيّة الموازية قد ارتفعت بنسبة 7%، مقارنة بقيمته في بداية شهر أيلول/سبتمبر 2022، التي لم تتجاوز يومها حدود ال1475 دينارًا عراقيًا.

في نتيجة كل هذه التطوّرات، باتت قيمة العملة المحليّة العراقيّة في أدنى مستوى تاريخي لها منذ أكثر من 18 عامًا، أي منذ أولى الأشهر التي تلت إسقاط نظام صدّام حسين. أمّا الإشكاليّة الأهم اليوم، فهي توسّع الفارق ما بين سعر صرف الدولار الواقعي المعتمد في السوق الموازية، وسعر الصرف الرسمي المعتمد من قبل المصرف المركزي، البالغ 1460 دينارًا فقط مقابل الدولار.

فهذا الفارق يدل على فشل المصرف المركزي في ضبط سعر صرف السوق الموازية، وعدم قدرته على تلبية الطلب على الدولار في هذه السوق وفقًا لسعر الصرف الرسمي. وفي النتيجة، بات سعر السوق الموازية يعكس موازين العرض والطلب الفعليّة، فيما تقتصر مفاعيل سعر الصرف الرسمي على بعض تداولات المصرف المركزي مع المصارف التجاريّة.

وهذا النوع من التعدد في أسعار الصرف، غالبًا ما يظهر في حالات الأزمات النقديّة، تمامًا كما يجري اليوم في بلدان أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كلبنان وسوريا ومصر وإيران. مع الإشارة إلى أنّ جميع هذه الدول تعاني في الوقت الراهن من تراجعات متزامنة في سعر صرف عملاتها المحليّة، نتيجة مجموعة من الضغوط الاقتصاديّة الخارجيّة وعوامل الهشاشة الداخليّة.

أزمة العراق معاكسة للتوقعات

من المهم الإشارة هنا إلى أنّ ما يجري في العراق بالتحديد، كان معاكسًا لجميع التوقّعات الاقتصاديّة. وبخلاف الدول الأخرى التي تشهد اليوم أزمات نقديّة، كانت جميع المؤشّرات الاقتصاديّة تدل على قدرة المصرف المركزي العراقي على تحقيق استقرار نقدي خلال هذه المرحلة، رغم جميع التوتّرات السياسيّة الداخليّة التي تشهدها البلاد.

فخلال العام 2022، تجاوزت عائدات العراق النفطيّة حدود ال115 مليار دولار، وفق أرقام وزارة النفط العراقيّة، ما مثّل أعلى مستوى لهذه العائدات منذ انتشار وباء كورونا قبل نحو ثلاث سنوات. وجاء هذا الارتفاع الكبير في عوائد بيع النفط نتيجة ارتفاع أسعار برميل النفط عالميًّا، متأثّرًا بتداعيات الحرب الروسيّة على أوكرانيا، وإعادة فتح الأسواق العالميّة بعد التعافي من جائحة كورونا.

ولهذا السبب بالتحديد، قدّر صندوق النقد الدولي أن يشهد العراق عام 2022 نسبة نمو مرتفعة جدًا، تصل إلى حدود ال9.3%، وهو ما يفترض أن يمثّل أعلى نسبة نمو اقتصادي يحققها العراق في تاريخه. مع الإشارة إلى أنّ العراق هو ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة أوبيك، بمتوسّط إنتاج يومي يبلغ 4.6 ملايين برميل، ما يجعل البلاد في طليعة الدول المستفيدة من أي ارتفاع في أسعار النفط العالميّة.

وفي ظل هذه التطورات الإيجابيّة، تمكّن المصرف المركزي العراقي من زيادة احتياطاته من العملات الأجنبيّة، لتلامس حدود ال100 مليار دولار. وهذه الاحتياطات، يفترض أن تسمح للمصرف المركزي بالتدخّل في سوق القطع، وتلبية الطلب على الدولار الأميركي، بهدف تفادي الانخفاض في قيمة العملة المحليّة. كما كان من المفترض أن يمتلك المصرف المركزي، بفضل هذه الاحتياطات بالتحديد، القدرة على تغطية الطلب على الدولار الأميركي لتمويل الاستيراد لأكثر من 20 شهرًا.

وهكذا، لم يعانِ المصرف المركزي العراقي من أي أزمة أو شح في تدفقات السيولة بالعملات الأجنبيّة، كحالة سوريا أو مصر أو لبنان اليوم. بل وعلى العكس تمامًا، تشير أرقام الحكومة العراقيّة إلى أنّ ميزان المدفوعات العراقي، الذي يختصر صافي التحويلات الماليّة بين العراق والخارج، سجّل فائضًا توازي نسبته ال15% من قيمة الناتج المحلّي الإجمالي في البلاد خلال العام 2022.

ولذلك، لم يكن من المفترض أن تشهد العراق في مطلع 2023 أي أزمة نقديّة كما حصل، بعكس دول المنطقة العربيّة الأخرى التي عانت من أزمات حادّة في ميزان مدفوعات، ما يفسّر التراجعات في قيمة عملاتها المحليّة.

أسباب الأزمة النقديّة العراقيّة

في واقع الأمر، ولفهم أسباب حدوث الأزمة النقديّة العراقيّة، رغم المؤشّرات الاقتصاديّة الإيجابيّة، ورغم توفّر احتياطات وازنة من العملات الأجنبيّة، يفترض العودة إلى بعض التدابير التي فرضها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على المصرف المركزي العراقي.

فالاحتياطي الفيدرالي وضع شروطًا جديدة مشددة، تلزم المصرف المركزي العراقي بجمع معلومات مفصّلة عن أي طرف يطلب شراء الدولار النقدي من المصرف، بهدف التأكّد من عدم خضوعه لأي عقوبات أميركيّة أو دوليّة. كما فرض الاحتياطي الفيدرالي آليّة معقدة لتلقي ودراسة طلبات شراء الدولار، ووضع معايير صارمة للموافقة على هذه الطلبات، ما قلّص حجم عمليّات بيع الدولار اليوميّة التي تجري من خلال المصرف المركزي العراقي.

لذلك، ورغم تدفّق كميات كبيرة من السيولة بالعملات الأجنبيّة إلى حسابات المصرف المركزي العراقي، بات المصرف مقيّدًا في حجم عمليّات بيع الدولار التي يجريها لمصلحة سوق القطع الداخلي.

ويشير الخبراء الماليون إلى أنّ القيود الجديدة صارت تفرض على المصرف المركزي القيام بمعاملات يتطلب إتمامها أكثر من سبعة أيّام، قبل إجراء أي عمليّة بيع للدولار في السوق. ومن المعلوم أن المصرف المركزي العراقي مضطر للإمتثال للقيود الأميركيّة الجديدة، للتمكّن من الاستفادة من التحويلات الواردة التي تمر بالمصارف المراسلة الأميركيّة.

لكل هذه الأسباب، ارتفع سعر صرف الدولار في السوق الموازية، المنفصلة عن تداولات المصرف المركزي والقطاع المالي الرسمي، بالتوازي مع تقلّص المصرف على تلبية الطلب على الدولار، رغم ضخامة احتياطاته. كما تفاقمت الأزمة النقديّة مؤخّرًا بعدما اختارت العديد من المصارف العراقيّة الابتعاد عن عمليّات شراء الدولار من المصرف المركزي، نتيجة القيود المستجدة على هذا النوع من العمليّات، ما دفع المزيد من العراقيين باتجاه السوق الموازية غير الرسميّة.

من الناحية العمليّة، ترتبط جميع القيود الأميركيّة الجديدة بمحاولة الإدارة الأميركيّة منع إيران من الاستفادة من السوق العراقيّة، للتملّص من العقوبات المفروضة عليها. فالولايات المتحدة تعتقد أن الشركات الإيرانيّة تعمد إلى إجراء جزء كبير من عمليّاتها التجاريّة من خلال العراق، وتحت ستار شركات عراقيّة، لتفادي القيود التي تمنعها من إجراء عمليّات بالدولار الأميركي من داخل إيران.

وهكذا تأتي الإجراءات الجديدة لتحاول من خلالها الولايات المتحدة ضبط الدولارات المتدفقة إلى السوق العراقيّة، ومنع الإيرانيين من الوصول إليها.

تداعيات اجتماعيّة وسياسيّة

استمرار الهبوط في قيمة الدينار العراقي، دفع شرائح واسعة من العراقيين للتظاهر احتجاجًا على ما وصفوه بتخاذل الحكومة والمصرف المركزي، وعدم قيامهما بما يلزم من إجراءات لوقف الأزمة النقديّة الراهنة.

وبالتوازي مع الاحتجاجات في الشارع، بدأت مجموعة من النوّاب العراقيين، ومن أوساط سياسيّة متباينة ومختلفة، بدراسة إمكانيّة طرح الثقة بالحكومة، التي تشكّلت في أكتوبر/تشرين الأوّل 2022. مع الإشارة إلى أنّ الحكومة العراقية تعاني أساسًا من خسارة تأييد بعض مكونات التحالف الذي دعم تشكيلها في البداية، بسبب خلافات حول بعض الملفات الإقليميّة، وتحديدًا مسألة انفتاح رئيس الحكومة على دول الخليج العربي.

أمّا على المستوى الاجتماعي، فسرعان ما بدأ العراقيون بتلمّس آثار تدهور قيمة الدينار، من خلال ارتفاع أسعار السلع المستوردة في السوق، وهو ما سيعني تلقائيًّا خسارة العراقيين لجزء من قيمة أجورهم الشرائيّة بفعل تضخّم الأسعار.
ومن المرتقب أن تترك هذه المسألة أثرًا بالغًا على الأسر الفقيرة في العراق، والتي تتجاوز نسبتها ال40% وفقًا لأرقام البنك الدولي. وتجدر الإشارة إلى أنّ تراجع الخدمات الحكوميّة خلال السنوات الماضية سيساهم بزيادة معاناة هذه الشريحة بالتحديد، نظرًا لتدهور شبكات الحماية الاجتماعيّة التي يفترض أن تؤمنها الدولة.

في النتيجة، ستكون الحكومة العراقيّة أمام استحقاق التعامل مع التحديات الجديدة بالتعاون مع المصرف المركزي، عبر التفاوض مع الولايات المتحدة لتبسيط الإجراءات النقديّة الجديدة، وتقليص أثرها على توفّر الدولار وسعر صرف الدينار في السوق. كما سيحتاج المصرف المركزي إلى تطوير الإجراءات البيروقراطيّة المعتمدة للقيام بعمليّات شراء الدولار، وفقًا للشروط الأميركي، عبر تسريع عمليّات المنصّة الإلكترونيّة المخصصة لتلقي الطلبات.

وأخيرًا، سيكون على المصرف أيضًا العمل على مكافحة عمليّات المضاربة على العملة المحليّة، التي يقوم بها بعض النافذين المستفيدين من احتكار التداول بالدولار في بعض المناطق العراقيّة.