وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الخرطوم تقمع مظاهرات الاحتجاج ضد تردي الأوضاع الاقتصادية

Sudan- Khartoum
Photo: AFP

تراجعت حدة المظاهرات احتجاجاً على ارتفاع تكاليف المعيشة في العاصمة السودانية الخرطوم وغيرها من مدن السودان، فالمظاهرات لم تشكل تهديداً جدياً للنظام، إلا أنها أرسلت رسالة واضحة بأن صبر الشعب السوداني مع الأزمة الاقتصادية قد نفذ.

فقد اندلعت المظاهرات في أواخر شهر يناير 2018، بعد إعلان الحكومة عن الميزانية الجديدة في ديسمبر 2017، التي اشتملت على إلغاء الإعانات على المواد الغذائية الأساسية، الأمر الذي أدى بدوره إلى ارتفاع سعر الخبز بنسبة 100% بين عشية وضحاها (من نصف جنيه سوداني إلى جنيه واحد أو ما يعادل 0,033 دولار). كما انخفضت قيمة العملة إلى 31,5 جنيه للدولار في فبراير، بعد ارتفاعها من 6,6 جنيهاً إلى 18 جنيهاً للدولار في يناير. ويبلغ معدل التضخم الرسمي 34% سنويا، غير أن الكثيرين يعتقدون أن الرقم الفعلي أعلى من ذلك بكثير. وتشير الأرقام المتوفرة إلى أن نسب البطالة تبلغ حوالي 15%.

كما تبلغ ميزانية عام 2018 نحو 173,1 مليار جنيه (أي 25 مليار دولار، وفقاً لسعر الصرف الرسمي البالغ 6,9 جنيه للدولار في ذلك الوقت). وقد خُصص نحو ثلثي هذا المبلغ لنفقات الأمن والدفاع والرئاسة، حيث لم تتجاوز النسبة المخصصة للتعليم والصحة العامة الـ13,9% فقط.

بدأت موجة المظاهرات في وسط الخرطوم يوم الثلاثاء 16 يناير، بعد دعواتٍ أطلقها الحزب الشيوعي، الذي يعدّ حزباً صغير نسبياً إلا أنه ذو تأثير بين المهنيين وطلاب الجامعات. واجهت الشرطة المظاهرة التي حضرها نحو ألف متظاهر، بالغاز المسيل للدموع والهراوات، وعليه، تفرق المتظاهرون قبل وصولهم إلى القصر الرئاسي فضلاً عن اعتقال العشرات.

وعلى الرغم من أن البعض انتقد دعوة الحزب الشيوعي أحادية الجانب للمظاهرة دون التشاور مع الأحزاب الأخرى وجماعات المعارضة، إلا أن معظم الأحزاب السياسية أصدرت بياناتٍ تعبيراً عن دعمها لهذا التحرك. ويبدو أيضاً أن المظاهرة نجحت في تحقيق أهدافها السياسية رغم العدد القليل نسبياً من المشاركين. فقد حظيت المظاهرة بتغطيةٍ إعلامية واسعة داخل السودان وخارجه، وسلطت الضوء على الظروف الاقتصادية الصعبة، وكسرت حاجز الخوف، وخاصة بعد الحملة الدامية ضد الاحتجاجات المماثلة في سبتمبر 2013 التي قتل فيها عشرات الأشخاص. وعلاوة على ذلك، قدمت المظاهرة الحزب الشيوعي كحامي حمى الفقراء بعد أن أضعفته الانقسامات الداخلية والمعاملة القاسية التي تعرض لها منذ تولي الإسلاميين السلطة في عام 1989.

من جهته، استفاد حزب الأمة من هذه المبادرة، ودعا إلى مظاهرة احتجاجٍ لاحقة خارج مدرسة أم درمان على الضفة الغربية لنهر النيل، مقابل الخرطوم. كما دعم زعماء جميع أحزاب المعارضة التجمع كمظهرٍ من مظاهر وحدة المعارضة. ومع ذلك، تدخلت شرطة مكافحة الشغب في وقتٍ مبكر، وهاجمت المتظاهرين بالغاز المسيل للدموع والهراوات واعتقلت عشرات النساء، من بينهم سارة نقد الله، وزوجة رئيس حزب الأمة صادق المهدي وثلاث من بناته وابنه الصديق. أطلق سراحهم فيما بعد على الرغم من أن عدداً من قادة الأحزاب لا يزالوا رهن الاعتقال. وقامت الشرطة بتفريق التجمعات والاحتجاجات اللاحقة في أم درمان وبعض أحياء الخرطوم ومدن أخرى مثل ود مدني في وسط السودان وبورتسودان في الشرق ونيالا في الغرب، حتى بالرغم من أن أحزاب المعارضة دعت إلى استمرار المظاهرات في الأحياء السكنية.

ومن خلال قمع المظاهرات، فرضت الحكومة قيوداً على حرية التعبير، وهو حقٌ مكفول في القانون الدولي ودستور البلاد. ويعتقد الباحث السوداني الدكتور النور حمد أن تعنت الحكومة انتهى بفشلين. وفي مقالٍ نشر على الانترنت قال “إن الحكومة لم تسمح بمسيرة الاحتجاج الأمر الذي يدحض الادعاءات بأنها وصلت إلى السلطة من خلال انتخاباتٍ حرة وبأنها لا تعترض على المظاهرات السلمية.” ووزعت وسائل الإعلام الدولية صوراً ومقاطع فيديو سجلها الناشطون خلال المظاهرات. كما لعبت مواقع التواصل الاجتماعي دوراً غاية في الأهمية في حشد المتظاهرين، بل يمكن القول بأن الأنشطة على وسائل التواصل الاجتماعي كان لها تأثيرٌ أكبر على السلطات السودانية من المظاهرات نفسها. وبعد ذلك بأسبوع أعلن الرئيس عمر البشير أنه سيكرس المزيد من الموارد لكتائب “الجهاد الإلكتروني،” وهي مجموعة قراصنة مشبوهة تقود جهود الحكومة في الحرب السيبرانية.

وعلاوة على ذلك، فقد تدخلت شرطة مكافحة الشغب بقوة لمنع المظاهرات وتفريق المتظاهرين، إلا أن التدخل كان مقيداً نسبياً بالمقارنة مع النهج الصارم الذي اتخذ في سبتمبر 2013 وأسفر عن مقتل العشرات. كما لم تستخدم الذخيرة الحية، ولم يصب سوى عدد محدود من الأشخاص.

كما اتخذت قوات الأمن اجراءاتٍ وقائية، التي تضمنت احتلال حديقة الشهداء في الخرطوم، حيث كان من المفترض أن تخرج إحدى المظاهرات، وإغلاق الشوارع الجانبية المؤدية إلى الحديقة. كما شنوا موجةً من الاعتقالات قبل المظاهرة المعلنة.

Sudan Economy Crisis AR 1024 1
المصدر: World Bank Data, UNSD, Demographic Yearbook 2016, IMF, exchangerate.com. إضغط للتكبير. @Fanack.com ©Fanack CC BY 4.0

وركزت حملة الاعتقال على الصحافيين والنشطاء السياسيين في محاولةٍ للحد من انتشار الأخبار عن المظاهرات والتغطية من قبل منظمات صحفية وإعلامية محايدة ومهنية، بما في ذلك وكالة رويترز ووكالة الأنباء الفرنسية. وعلاوةً على ذلك، وزع تعميم مكتوب على الصحف السودانية يحظر عليهم تغطية أخبار المظاهرات. كما أطلق سراح معظم الصحفيين بعد يوم أو يومين من انتهاء المظاهرات، باستثناء عددٍ قليل من الصحفيين السودانيين الذين ظلوا رهن الاحتجاز لفترة أطول من ذلك، بما في ذلك الصحفية والناشطة أمل هباني، التي فازت بجائزة منظمة العفو الدولية المخصصة لوسائل الإعلام والتي تم اعتقالها عدة مراتٍ من قبل.

وكان اتباع النشطاء الموالون للحكومة على وسائل التواصل الاجتماعي، الذين يرجح أن يكونوا أعضاء في قوة الدفاع عبر الإنترنت التي تمولها الحكومة أو “الدجاج الإلكتروني،” كما يدعوهم السودانيون، خطة لتخويف المواطنين وثنيهم عن المشاركة في المظاهرات. وحذروا مراراً وتكراراً من أن أي إجراء ضد الحكومة سيؤدي إلى الفوضى وانعدام القانون، كما حدث في ليبيا وسوريا واليمن. وقد صممت التحذيرات بوضوح للاستفادة من المخاوف العميقة في بلدٍ دمرته عقودٌ من الحرب الأهلية.

وبالإضافة إلى “الجيش” الإلكتروني، حشدت الحكومة سلاحاً مجرباً آخر سبق واستخدمته: العدو الخارجي المزيف. ففي خضم قراراتها الرامية إلى إلغاء الإعانات، وفي ضوء المظاهرات، أعلنت الخرطوم عن تجمعٍ عسكري إريتري- مصري في منطقة ساوا الإريترية المجاورة تهدف إلى الهجوم على السودان. وعليه، أعلنت حالة الطوارىء في ولاية كسلا الحدودية وأرسلت تعزيزاتٍ عسكرية تتألف من قوات الدعم السريع إلى المنطقة. ومع ذلك، سرعان ما تبخرت الأقاويل عن التجمع العسكري بمجرد تراجع حدة المظاهرات.

ومرةً أخرى، يبدو أن المعارضة السودانية لم تتمكن من استغلال الاستياء الشعبي واسع النطاق ضد الحكومة، ذلك أنها أضعف وأكثر انقساماً من الحكومة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الوسائل السلمية للمعارضة مثل المظاهرات والإضرابات لم تعد قادرةً على حشد أعداد كبيرة من المواطنين في المدن، ويعود ذلك إلى تغير التركيبة السكانية بسبب هجرة الملايين من الفقراء من المناطق الريفية في العقدين الأخيرين، إذ لا يمتلك هؤلاء المهاجرون من المناطق الريفية أدنى فكرة عن تنظيم المظاهرات والإضرابات. وفي الوقت نفسه، هاجر مئات الآلاف من سكان المناطق الحضرية المتعلمين والقادرين على تنظيم الاحتجاجات إلى دول الخليج والدول الغربية.

وعلى الرغم من ذلك، فإن التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجه البلاد كبيرة جداً بحيث لا يمكن معالجتها من خلال وسائل مالية بحتة كتلك التي اتخذتها الحكومة مؤخراً.