وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الدولرة تغزو أسواق لبنان

تعتبر الدولرة اللبنانية غير رسمية، وقد خلقت هذه الظاهرة حلقة لا نهاية لها من الأزمات المتكررة في البلاد. وفي غياب الحل الشامل، لا يمكن توقّع سوى المزيد من الفقر والمعاناة.

الدولرة تغزو أسواق لبنان
عامل يقوم بتحديث أسعار المنتجات إلى الدولار الأمريكي في بيروت حيث لا تظهر الأزمات السياسية والاقتصادية الطاحنة في البلاد أي بوادر للتراجع. جوزيف عيد / وكالة فرانس برس

علي نور الدين

يمكن تعريف الدولرة على أنّها اعتماد سكّان بلد ما عملة أجنبيّة معيّنة في تداولاتهم اليوميّة، أو في تسعير السلع والخدمات، أو في عمليّات تكوين الودائع وإعطاء القروض.

بعبارة أوضح، الدولرة هي توقّف المقيمين في بلد معيّن عن استخدام العملة الوطنيّة، بشكل كلّي أو جزئي، بسبب فقدان هذه العملة القدرة على القيام بوظائفها الأساسيّة، كوسيط للشراء والبيع أو وسيلة للادخار وقياس القيمة.

وعادة ما ترتفع معدلات الدولرة في أي دولة بالتوازي مع الاضطرابات النقديّة وفوضى أسعار الصرف، وسائر المشاكل التي تُفقد الثقة بالعملة المحليّة. ورغم اتصال عبارة الدولرة بعملة الدولار، نظرًا لشهرة الدولار كعملة دوليّة أجنبيّة، يمكن للدولرة أن تتم من خلال عملات أجنبيّة قويّة أخرى، كاليورو أو الجينيه الاسترليني وغيرهما.

توسّع نطاق الدولرة في لبنان

في حالة لبنان، لطالما عرفت البلاد منذ التسعينات ظاهرة ارتفاع معدلات الدولرة في النظام المالي. فحتّى قبل انهيار قيمة العملة المحليّة في أواخر العام 2019، مثّلت نسبة الودائع بالعملات الأجنبيّة –وخصوصًا الدولار- نحو 68.8% من إجمالي الودائع المصرفيّة.

كما ارتفعت معدلات نسبة الشيكات المتداولة بالعملات الأجنبيّة إلى أكثر من 67.6% من إجمالي قيمة الشيكات المتداولة بين المصارف. ولهذا السبب بالتحديد، كانت الدولرة مألوفة جدًّا في النظام المصرفي، رغم استمرار المستهلكين باعتماد الليرة اللبنانيّة في تداولات النقد الورقي في السوق.

الظاهرة الخطيرة اليوم، التي نتجت عن الانهيار المالي القائم حاليًّا، تتجسّد في ارتفاع معدلات الدولرة في السوق الاستهلاكيّة، أي انتقال التجّار ومقدمي الخدمات الى تسعير منتجاتهم بالدولار، وتقاضيهم ثمن هذه السلع والخدمات بالدولار النقدي، أو ما يوازي قيمته بالليرة بحسب سعر الصرف في السوق الموازية.

وهذه الظاهرة باتت تطال محال السوبر ماركت ومقدمي خدمات المولدات الكهربائية الخاصّة ومحطات المحروقات، وصولًا إلى بعض الخدمات والسلع الحسّاسة كالمستشفيات والأدوية والمستلزمات الطبيّة ورسوم التأمين. أمّا السبب الأساسي، فهو استمرار الانخفاضات السريعة واليوميّة في قيمة العملة المحليّة، وعدم قدرة هذه العملة على أداء دورها الطبيعي كوسيلة لقياس القيمة أو شراء السلع والخدمات.

تداعيات الدولرة في لبنان

المشكلة الأهم هنا، تكمن في أنّ الإحصاءات تشير إلى أنّ 3% فقط من المقيمين في لبنان يستفيدون من رواتب أو مداخيل مقوّمة بالدولار الأميركي بشكل كامل، فيما يتقاضى الغالبيّة الساحقة من سائر المقيمين أجورهم ومداخيلهم بالليرة اللبنانيّة. وبين بداية العام 2022 ونهايته، ارتفع سعر صرف الدولار في السوق الموازية من 27,500 ليرة مقابل الدولار، إلى 42,400 ليرة. وبهذه الصورة، ارتفع سعر صرف الدولار في السوق بنسبة 54% خلال سنة واحدة فقط.

ببساطة، ومع دولرة أسعار السلع والخدمات، ومع التدهور المستمر في قيمة العملة المحليّة مقابل الدولار، باتت قدرة الرواتب ومداخيل المقيمين الشرائية تتهاوى على نحو شبه يومي في لبنان. وهذا تحديدًا ما يفسّر ارتفاع معدلات الفقر المدقع والفقر المتعدد الأبعاد، واستنزاف كلفة الغذاء النسبة الأكبر من مداخيل المقيمين خلال الأزمة الراهنة. مع الإشارة إلى أنّ الدولة اللبنانيّة لم تقرّ حتّى اللحظة أي تصحيح شامل للأجور، لمعالجة هذه الأزمة.

في الوقت نفسه، تستمر الدولة اللبنانيّة اليوم بتقاضي الضرائب بالعملة المحليّة، فيما تحتسب الضرائب على المداخيل بالدولار باعتماد سعر صرف منخفض، لا تتجاوز قيمته حاليًّا 19% من سعر الصرف الفعلي في السوق الموازية.

وبهذا الشكل، ومع دولرة جميع العمليّات التجاريّة في السوق، تستمر فئة المستوردين والتجار بتقاضي وضمان أرباحها بالدولار الأميركي النقدي، بينما تبقى إيرادات الدولة محدودة جدًا نتيجة سعر الصرف المنخفض المعتمد لتقاضي الضريبة. كما تستمر القيمة الفعليّة لإيرادات الميزانيّة العامّة، المقوّمة بالليرة، بالتراجع مع كل تدهور إضافي في قيمة الدولار الفعليّة في السوق الموازية.

ومن المعلوم أن ضرب الإيرادات العامّة، التي تستفيد منها الخزينة، يعني تلقائيًا ضرب دور الدولة في تمويل شبكات الحماية الاجتماعيّة، وتأمين التعليم المجاني وضمان نوعيّة التدريس في المدارس الرسميّة، والجامعة اللبنانيّة التابعة للدولة. وهذا تحديدًا ما أدّى مؤخرًّا إلى إقفال معظم الإدارات العامّة، نتيجة الانخفاض الكبير في قيمة رواتب موظفي القطاع العام المقوّمة بالليرة، مقابل أسعار السوق المقوّمة بالدولار.

هكذا تحوّلت الدولرة إلى أحد أشكال تشوّه البيئة النقديّة في لبنان. وبعدما كان تفشّي الدولرة نتيجة فوضى وتدهور سعر صرف الليرة، باتت الدولرة مشكلة بحد ذاتها، نتيجة ارتفاع الأسعار مقابل المداخيل المحققة بالعملة المحليّة. ونتيجة الدولرة أيضًا، ازدادت الأزمة النقديّة تعقيدًا، فبات حصول أي شخص على السيولة بالليرة يدفعه تلقائيًا لتحويلها إلى الدولار في السوق الموازية، مما زاد من ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق. وهكذا، خلقت الدولرة دوّامة لا تنتهي من الأزمات المتكرّرة.

الدولرة الرسميّة والدولرة غير الرسميّة

تجدرالإشارة هنا إلى أنّ خبراء الاقتصاد يميّزون في العادة بين مستويات وأشكال مختلفة من الدولرة. فهناك مثلًا الدولرة الرسميّة أو الكاملة، وهذا ما يحصل حين تتخذ الدولة قرارًا قانونيًّا بالتخلّي عن عملتها المحليّة، واستبدالها بعملة أجنبيّة معيّنة. وهذا تحديدًا ما حصل في دول مثل بنما عام 1904، والإكوادور عام 2000، والسيلفادور وغواتيمالا عام 2001. وغالبًا ما تتخذ هذه الدول قرار الدولرة لأسباب ضاغطة، تفرض تخلّصها من حق خلق النقد الخاص بها، مقابل التبعيّة النقديّة لعملة دول أخرى.

ويشير خبراء الاقتصاد إلى مشاكل عديدة متصلة بسياسة الدولرة الرسميّة أو الكاملة. إذ يؤدّي تجريد المصارف المركزيّة من حق خلق النقد إلى حرمانه من القدرة على لعب دور المقرض الأخير بالعملة المحليّة، سواء للدولة أو للقطاع المصرفي. كما تحرم هذه السياسة المصرف المركزي من القدرة على وضع سياسة نقديّة خاصّة به، من خلال التحكم بمعدلات الفائدة وحجم الكتلة النقديّة المتداولة وحجم النقد الذي يتم ضخّه في السوق.

وبالنتيجة، يفقد المصرف المركزي أدوات مهمّة يمكن استعمالها للتعامل مع ظروف التضخّم والركود الاقتصادي، عند اعتماد الدولرة الشاملة أو الرسميّة. وهذا بالضبط ما عانت منه السيلفادور مثلًا، ما دفع البلاد إلى أزمات اقتصاديّة متكرّرة منذ اعتماد نموذج الدولرة الرسميّة والشاملة قبل أكثر من عقدين من الزمن.

في حالة لبنان، لا يمكن تصنيف ما يجري كدولرة رسميّة أو كاملة، كحال بنما والإكوادور والسيلفادور وغواتيمالا، بل دولرة غير رسميّة. فاتجاه السوق إلى التسعير والتعامل بالدولار لم يكن نتيجة خطّة رسميّة متعمّدة، ولا بفعل قرارات حكوميّة مدروسة مسبقًا، بل كان مجرّد نتيجة لتفلّت سوق القطع وفوضى أسعار الصرف. وهذا تحديدًا ما يحمّل المقيمين في لبنان تداعيات سلبيّة إضافيّة، أسوأ من تلك التي نتجت عن الدولرة الرسميّة أو الشاملة في دولة كالسيلفادور مثلًا.

بمعنى آخر، في حالة توسّع نطاق الدولرة غير الرسميّة، كما يجري في لبنان، تعاني هذه الدول من جميع التداعيات السلبيّة التي تنتج عن فقدان السيادة النقديّة والاقتصاديّة، تمامًا كما يجري في الدول التي تعتمد الدولرة الشاملة أو الرسميّة. لكن الدول التي تعاني من دولرة غير رسميّة تعاني أيضًا من مشاكل أخرى، متصلة بفقدان القيمة الشرائيّة للأجور المقوّمة بالعملات المحليّة، في ظل تراجع سعر صرف هذه العملات في السوق. وهذا بالضبط ما ينتج عن عدم التخطيط المسبق لسيناريوهات الدولرة.

في خلاصة الأمر، سيستمر الشعب اللبناني بتحمّل تداعيات الدولرة في السوق، طالما أن البلاد لم لم تتخطّ بعد الأزمة النقديّة التي تضرب الثقة بالعملة المحليّة. واستعادة الثقة بالعملة المحليّة، يتطلّب أولًا الشروع بتطبيق خطّة تعافٍ مالي شاملة، بما يسمح بوضع الحلول لأزمة خسائر القطاع المصرفي وتعثّر الدولة اللبنانيّة.

فمشكلة سعر الصرف وفوضى سوق القطع، لم تكن سوى نتيجة لأزمات الميزانيّة العامّة وتعثّر المصارف، وانقطاع التحويلات الخارجيّة الواردة إلى القطاع المالي الرسمي. وفي غياب الحل الشامل، لا يمكن توقّع سوى المزيد من الفقر والمعاناة، الناتجين عن ارتفاع معدلات الدولرة وتدهور قيمة الليرة.