وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

في لبنان، الطبقة الوسطى هم الفقراء الجدد

Lebanon- protests lebanon
متظاهرون مناهضون للحكومة مستوحون من الحركة الفرنسية “السترات الصفراء” يضعون أقنعةً بالعلم اللبناني في ساحة الشهيد في وسط بيروت، في 23 ديسمبر 2018. احتج مئات اللبنانيين ضد الأوضاع الاقتصادية المتدهورة. Photo AFP

توفي سائق سيارة الأجرة اللبناني جورج زريق في 8 فبراير 2019 بعد أن أضرم النار في نفسه لعدم تمكنه من دفع الرسوم للمدرسة الخاصة لإبنته.

أثار موته العنيف في مدينة بكفتين الشمالية موجة من التعاطف والغضب، مما أشعل انتقادات الشعب للوضع الاقتصادي في لبنان وللحكومة. وفي 10 فبراير، نظمت مظاهرة تندد بوفاته أمام وزارة التعليم في العاصمة بيروت، لكن مسؤولين أمنيين فرقوا المحتجين.

كما سارع السياسيون للتعبير عن غضبهم، إذ قال سامي الجميل، رئيس حزب الكتائب المسيحي، إن زريق كان “شهيد الاستهتار وقلّة المسؤولية،” في حين وصف ميشال معوض، عضو تكتل لبنان القوي في البرلمان، انتحاره بـ”مأساة لبنانية غير مسبوقة تمثل أخطر العوارض الناتجة عن الدرك الذي وصلت إليه أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية.” بينما كتب الناشط فاروق يعقوب في منشورٍ له على الإنترنت: “علينا أن ننزل إلى الشارع ونشعل البلد مثلما أشعل جورج زريق النار في نفسه.”

يُذكرنا موت زريق بقيام البائع المتجول التونسي، محمد البوعزيزي، بإحراق نفسه في ديسمبر 2010 رداً على مصادرة بضاعته وتعرضه للمضايقة من قِبل السلطات. كان موته الفتيل الذي أشعل الثورة التونسية والربيع العربي، أما في لبنان، فمن غير المحتمل أن يحدث ذلك.

وفي لقاءٍ لنا في فَنَك مع آية مجذوب، الباحثة المتخصصة بشؤون لبنان والبحرين في هيومن رايتس ووتش، قالت: “لم يشعل إحراق زريق لنفسه إحتجاجاتٍ جماهيرية على غرار ما حصل عند موت البوعزيزي في تونس في عام 2011، بالرغم من تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد.”

إلا أنها أضافت: “[موت زريق] هو تذكير صارخ بالفشل المستمر للحكومة اللبنانية في توفير أبسط الخدمات لمواطنيها. وقد أدى هذا الفشل الحكومي إلى نقص الخدمات ذات الجودة والكلفة المعقولة، مثل التعليم والرعاية الصحية. ونتيجةً لذلك، تحوّل بعض اللبنانيين إلى بدائل خاصة، لا يستطيع سوى عدد قليل منهم تحمّل تكاليفها، مما أدى إلى تفاقم عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية وتوسيع فجوة الثراء في لبنان.”

في حين عبر المدون نجيب عن رأيه بالقول: “[اقترح البعض أن زريق] كان يتوجب عليه نقل طفلته إلى مدرسة حكومية منذ فترةٍ طويلة. أعتقد أن هؤلاء الأشخاص لم يذهبوا قط لمدرسة حكومية من قبل. في حين أنه لا يوجد أي خطأ في المناهج والمعلمين في مدارسنا الحكومية، إلا أن المشكلة الحقيقية تتمثل في البيئة المروعة التي توفرها هذه المدارس للطلاب، والافتقار إلى الفرص في المستقبل.”

وقال وزير العدل إنه تم فتح تحقيق بملابسات وفاة زريق، إلا أن الأرقام الاقتصادية تتحدث عن نفسها. ووفقاً لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2018، يعيش 30% من اللبنانيين (1,5 مليون شخص) بأقل من 4 دولارات في اليوم، أو 120 دولاراً في الشهر، ويعيش حوالي 300 ألف شخص بأقل من 2,5 دولار في اليوم، وهو مبلغ غير كافٍ لتلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية. كما حافظت معدلات البطالة على ثباتها، حيث ارتفعت من 6,2% في عام 2016 إلى 6,3% في عام 2017، بمتوسط 7,56% من عام 1991 حتى عام 2017. ومع ذلك، بلغت نسبة التضخم 3,17% في يناير 2019، مع ارتفاع أسعار الطعام والمشروبات غير الكحولية بشكلٍ أسرع من السلع الاستهلاكية الأخرى.

وعلاوةً على ذلك، يواجه عددٌ متزايد من اللبنانيين الفقر المدقع، نتيجة عدم الاستقرار – بسبب الحرب في سوريا المجاورة – ومحدودية فرص العمل ونظام الرعاية الاجتماعية الضعيف. لكن الفجوة بين الأغنياء والفقراء آخذةٌ في الاتساع لأن الطبقة الوسطى تختفي ببطء. وعلى موقع دي دبليو، الموقع الإلكتروني للإذاعة الألمانية دويتشه فيله، قال منير راشد من الجمعية الاقتصادية اللبنانية، إن السبب الرئيسي لتقلص الطبقة الوسطى هو أن متوسط دخل الناس لم يرتفع خلال الحرب الأهلية من 1975 إلى 1990، أو بعد ذلك، بينما ارتفعت تكلفة المعيشة.

وقال إن الراتب الابتدائي لخريجي الهندسة يبلغ حالياً نحو 800 دولار في الشهر. وأضاف، “من المستحيل أن يلبي هذا المبلغ الاحتياجات الأساسية في لبنان اليوم. وهذا يعني أن المهنيين الشباب يبدأون شق طريقهم من أدنى سلم الدخل إذ يتطلب الأمر سنواتٍ عديدة لكسب 2000 دولار في مرحلةٍ ما.” وتابع القول، بالإضافة إلى ذلك، لا توجد وظائف كافية للشباب.

وأظهرت دراسة نُشرت في عام 2014 أن ثروة لبنان تقدر بمبلغ 91 مليار دولار، 48% منها مملوكة لنحو 0,3% من القوة العاملة المقدرة (8000 شخص). وفي هذه الأثناء، يمتلك 99,7% من اللبنانيين أكثر بقليل من النصف الآخر (46,4 مليار دولار).

في مقالٍ لها عن فيلم نادين لبكي الحائز على جائزة، كفرناحوم، والذي يحكي قصة حياة فتى يبلغ من العمر 12 عاماً في أحد الأحياء الفقيرة، سلطت الصحفية منى نجار الضوء على وضع “الفقراء فقراً غير مدقع.”

كتبت: “في منطقة بيروت الغربية المتنوعة اجتماعياً، حيث أعيش، أنا محاطة بأناسٍ يكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة كل يوم، دون أن يتوسلوا أو يتحدثوا عن مشاكلهم… حتى أولئك الذين لديهم وظيفة ودخل ثابت يغطي نفقاتهم اليومية، بما في ذلك الرسوم المدرسية للأطفال، ليسوا بمأمن. وبسبب نظام الرعاية الاجتماعية سيء التطوير، يمكن لمرضٍ خطير في الأسرة أن يسبب تدهوراً حاداً وصولاً إلى انهيارٍ مالي. حتى أن الطبقة الوسطى لا يمكنهم اعتبار الرعاية الصحية من المسلمات في لبنان، فغالباً ما تنقل الصحف تقارير مروعة عن أشخاص بحاجةٍ إلى علاجٍ مستعجل ويتم رفض إدخالهم إلى المستشفى ما لم تدفع أسرتهم مبالغاً مالياً مقدماً. وكثيراً ما تعكس هذه التقارير صرخة غضب، إلا أنه سرعان ما تهدأ هذه الجلبة. الفقر في لبنان أكثر وضوحاً وأكثر انتشاراً مما هو الحال عليه في ألمانيا أو في أي مكانٍ آخر في أوروبا الغربية.

Lebanon Economic Crisis AR 3000
المصادر: World Bank Data and IMF. إضغط للتكبير. @Fanack ©Fanack CC BY 4.0

كما أنه أكثر تهديداً ويأساً وعديم الرحمة، إذ يمكن أن يهاجمك عندما لا تتوقع ذلك. فالفقر مقبولٌ باعتباره واحداً من العديد من مشاكل البلاد التي لا يمكن حلها منذ عقود. كما أن الدولة اللبنانية الضعيفة لا تضطلع بالمسؤولية. “ما في دولة” هو تعبيرٌ شائع في لبنان. ومثلما تعتبر الدولة غير قادرةٍ على حل أزمة النفايات أو السيطرة على النقص في الكهرباء والمياه، فإنه من غير المتوقع أن تعمل لدعم المستضعفين.”

في الواقع، البلاد موبوءةٌ بالفساد، إذ يدفع اللبناني، بالمتوسط، بخشيشاً (أموال بسيطة كرشوات للفاسدين) تصل قيمتها إلى حوالي 11 ألف دولار خلال حياته. مبلغٌ لا يستطيع معظم الناس توفيره.

وبحسب آية مجذوب: “وعدت الحكومة الجديدة بتنفيذ بعض الإصلاحات المطلوبة بشدة، لذا سنواصل تحميلها المسؤولية أمام وعودها ودفعها إلى تحسين توفير الخدمات الأساسية، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية.” ومن الجدير بالذكر أنه تم تشكيل الحكومة الجديدة بعد أزمة استمرت تسعة أشهر في أعقاب الانتخابات البرلمانية في مايو 2018، إلا أن المواطنين لا يزالون متشائمين بشأن كفاءة وزرائهم الجدد.

أما بالنسبة لعائلة زريق، فقد حصلت على مساعدةٍ على شكل هبة بقيمة 10 آلاف دولار وراتب شهري من سياسي كويتي– وهو “حلٌ” غير مفاجىء في بلدٍ يبدو غير راغبٍ أو غير قادرٍ على رعاية شعبه.