وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مظاهرات غير متوقعة في لبنان تحمل الأمل لبلد ابتلي بالأزمات والفساد

Protests in lebanon
متظاهرون لبنانيون يحتفلون باستقالة رئيس الوزراء سعد الحريري في بيروت في 29 أكتوبر 2019، في اليوم الـ13 للمظاهرات المناهضة للحكومة. Photo: Patrick BAZ / AFP

في 27 أكتوبر 2019، اليوم الحادي عشر من الاحتجاجات المناهضة للحكومة، شكل عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال اللبنانيين سلسلةً بشرية بطول 107 كيلومترات، من مدينة طرابلس الشمالية عبر العاصمة بيروت إلى مدينة صور الجنوبية. كان الهدف هو إظهار الوحدة الوطنية في بلد يشهد غالباً إنقساماتٍ طائفية وللتأكيد على أن التعبئة لم تضعف بعد. بعد يومين استقال رئيس الوزراء سعد الحريري.

لم يعتقد الكثيرون أن هذا ممكن، ذلك أن الخوف اللبناني من حربٍ أهلية أخرى في حال تخليهم عن زعمائهم السياسيين – الذين كانوا في الغالب أمراء حرب أثناء الحرب الأهلية والذين نصبوا أنفسهم اليوم حماةً للمجتمع – قد منع الناس إلى حدٍ كبير من الخروج إلى الشوارع. ومع ذلك، في 17 أكتوبر، اندلعت احتجاجات واسعة النطاق بعد سلسلة من الإجراءات والحوادث التي أشارت إلى أن حكومتهم لا تهتم كثيراً برفاهيتهم.

حققت حركة الاحتجاج نصراً كبيراً باستقالة رئيس الوزراء، الذي قال خلال خطابٍ متلفز إنه يعتزم إحداث “صدمة إيجابية” بالتنحي، مدعياً أن القيام بذلك يخدم “كرامة البلد وسلامته.”

ومن الجدير بالذكر أن لبنان يواجه أزمة عملة تهدد بإرسال البلاد، التي تعاني بالفعل من أزمةٍ اقتصادية، نحو الإفلاس التام. فمنذ أكثر من 20 عاماً، تم ربط الليرة اللبنانية بالدولار لمنع التضخم المفرط والانهيار الاقتصادي بعد نهاية الحرب الأهلية في عام 1990، ويعادل الدولار الواحد سعر صرفٍ ثابت قدره 1500 ليرة لبنانية. وفي الأسابيع الأخيرة، تراجع ربط الليرة وتحاول البنوك الاحتفاظ بأي مخزونٍ تملكه من الدولار، بينما يحاول المواطنون اللبنانيون والمقيمون سحب الدولار من حساباتهم.

أشعل هذا الوضع الاقتصادي غضباً واسع النطاق، بيد أنه لم يتم اتخاذ أي إجراءٍ واضح إلى أن اندلعت حرائق الغابات في جميع أنحاء البلاد. تقاعست الحكومة عن الاستجابة للحرائق التي اندلعت لمدة ثلاثة أيام في الفترة من 14 إلى 16 أكتوبر، إلى أن أخمدتها أمطارٌ غزيرة.

في اليوم التالي، أعلنت الحكومة فرض ضريبة جديدة تُضاف للتدابير التقشفية الحالية، والتي تستهدف وسائل التواصل المستخدمة من قِبل العديد من الأشخاص. ونظراً لكون المكالمات الخلوية باهظة الثمن، يتواصل الأشخاص عموماً عبر تطبيقات الهاتف مثل واتساب وفايبر التي تستخدم الإنترنت وتسمح بالرسائل والمكالمات المجانية. وعليه، كانت الحكومة تخطط لفرض ضريبة قدرها 6 دولارات شهرياً على استخدام هذه التطبيقات بالإضافة إلى فرض ضرائب جديدة على التبغ والبنزين.

دفع الغضب من هذه الخطط مئات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع في 17 أكتوبر داعين إلى ثورة. ومنذ ذلك الحين، نمى الحراك ليصل إلى أكثر من مليون مشارك أو ربع سكان البلاد.

وبحسب ما قالته لونا صفوان، الصحفية في فايس أرابيا، لنا في فَنَك، “كان هذا حراكاً متوقعاً منذ سنوات، إلا أن الشعب اللبناني كان بحاجة إلى دفعه بالرغم من أنه لطالما امتلك دافعاً جيداً: فالنظام السياسي الفاسد يُسيطر على جميع جوانب حكومتنا واقتصادنا.”

وأضافت “مع الأخذ بعين الإعتبار أن هذه المرة كانت مختلفة لأن لبنان على حافة الانهيار الاقتصادي الحقيقي، كانت المؤشرات كثيرةً في الأشهر القليلة الماضية مثل زيادة الضرائب والأسعار، لذا فإن هذا الحراك ما يسميه البعض ‘الأمل الأخير.‘ كما أنه غاية في الأهمية لأنه لامركزي وتشارك في الاحتجاجات التي اندلعت في مختلف مناطق البلاد كياناتٌ من مختلف الطوائف والخلفيات السياسية.”

باختصار، المتظاهرون متحدون من أجل قيادةٍ وحياةٍ أفضل، الأمر الذي لم يجدوه في أي زعيم طائفي. ومع ذلك، كان هناك محاولة من جانب أحزاب شيعية متحالفة مع حزب الله وأتباع حركة أمل لتعطيل الاحتجاجات في 24 أكتوبر، رغم أن كلا الطرفين نفيا أي تورطٍ لهما، حيث اندلعت مناوشاتٌ بين المؤيدين والمتظاهرين في جنوب البلاد وبيروت، مما دفع الشرطة إلى التدخل.

وفي هذا الصدد، قالت صفوان، “بصراحة، عندما كنا في الشوارع وبدأت هذه الأحداث، لم أندهش كثيراً، لكني شعرت بالقلق من سقوط ضحايا، وأن يُذكر هذا الناس بأن هناك أحزاباً سياسية قد تدب الخوف في قلوبهم لأنهم مستعدون لأذيتك إذا ما تجرأت وخالفتهم الرأي.” وتابعت القول، “اضطررت إلى الانتظار ورؤية كيف سيكون الإقبال في اليوم التالي. كان اليوم التالي مفاجأةً حيث لم يتضاعف المتظاهرون فحسب، بل تجرأوا على إغلاق الطريق السريع، القريب جداً من منطقة حساسة للغاية حيث العديد من مؤيدي أمل وحزب الله، ولم يتراجع المتظاهرون. أثبت هذا لي أيضاً أن هذا الحراك قائم لإجراء بعض التغييرات الجدية، حتى لو كان ذلك يعني التضحية بالوقت والطاقة والمجازفة.”

من جهته، ألقى زعيم حزب الله، حسن نصر الله، خطاباً متلفزاً في 25 أكتوبر، محذراً من أن الاحتجاجات المنتشرة على مستوى البلاد والتي تدعو إلى الإطاحة بالحكومة قد تؤدي إلى الفوضى والحرب الأهلية. وأثنى على المتظاهرين لتحقيقهم إصلاحات اقتصادية “غير مسبوقة” لكنه أشار أيضاً إلى أن التدخل الأجنبي لعب دوراً في المظاهرات.

وبالعودة إلى الشارع، كان من الواضح أن الناس قد ضاقوا ذرعاً بمثل هذه الخطابات التي لن تدفعهم للشعور بالخوف. وعليه، بدأت الهتافات تعلو “كلنّ يعني كلنّ،” في إشارةٍ إلى المطالبة بالإطاحة بالحكومة كاملةً، بما في ذلك وزراء حزب الله.

ومع ذلك، عاد أنصار أمل وحزب الله للظهور مجدداً في 29 أكتوبر، حيث اجتاحت مجموعاتٍ كبيرة من الشباب مناطق الاحتجاج في وسط بيروت، محطمين الأكشاك والخيام التي نصبها المحتجون، مما دفع الشرطة إلى التدخل إلى أن أياً من السياسيين حرك ساكناً.

فقد استجابت الحكومة، حتى الآن، لمرةٍ واحدة فحسب لمطالب المحتجين بتقديم حزمة إصلاحات طارئة، التي فشلت في نزع فتيل الغضب. ففي 21 أكتوبر، قدم الحريري الإصلاحات التي وصفها بـ”الإنقلاب المالي،” قائلاً إن رواتب كبار المسؤولين، بمن فيهم الوزراء وأعضاء البرلمان، سيتم خفضها إلى النصف.

وأضاف أن البنك المركزي والقطاع المصرفي في البلاد، اللذان يزخران بالسيولة النقدية، سيساعدان في تخفيض العجز بنحو 3,4 مليار دولار في عام 2020. كما وافق مجلس الوزراء على إلغاء العديد من مؤسسات الدولة، بما في ذلك وزارة الإعلام، وتخفيض بنسبة 70% من ميزانية مجالس الدولة الأخرى مثل مجلس الإنماء والإعمار، إلى جانب توزيع ملايين الدولارات على الأسر الفقيرة، وتقديم 160 مليون دولار على شكل قروض سكنية في محاولة لإنعاش قطاع البناء المتعثر.

الخطة غير واقعية، على حد قول صفوان، “[الزعماء السياسيون] يسمعون الشارع بالفعل، لكني أعتقد أن الورقة الإصلاحية التي اقترحوا تجربتها وإرضاء الناس بها ليست واقعية. لذا، فإن الإجابة المختصرة هي أنهم يسمعون ما يرغبون في سماعه، ويعتقدون أن الناس سيشعرون بالملل والاستسلام في نهاية المطاف إذا قدموا لنا بعض الحلول، حتى لو لم يكن بالإمكان تحقيقهما. أفترض أن المطلوب الآن هو ممارسة المزيد من الضغط على الحكومة حتى يبدؤوا في الاستماع بفعالية. لا يريد الناس حلولاً مؤقتة بعد الآن؛ بل يريدون حلولاً طويلة الأجل، وهذا يبدأ بمجرد استقالة الحكومة وحل البرلمان ثم الإعداد لانتخاباتٍ مبكرة.”

قد تشير استقالة الحريري إلى بداية موجة من الاستقالات، إذا ما أدرك القادة الآخرون أن الوقت قد حان لتمرير العصا السياسية إلى مرشحين أفضل تأهيلاً.

وبغض النظر عن اللحظة التاريخية التي يعيشها لبنان اليوم، إلا أن الشعور السائد هو شعورٌ بالأمل المتجدد. وقالت صفوان، “كنت في الخارج في مهمة عمل، وبمجرد أن بدأت الشوارع تعبر عن الواقع واكتسبت الاحتجاجات زخماً، حجزت تذكرتي وعدت لأني شعرت أن هذا أمر لا يمكن تفويته.” وأضافت “شاركت في كل احتجاج كبير تقريباً منذ عام 2005 في لبنان، وهذا حتى الآن الحراك الأكثر شمولية والأقوى لأنه [غير مرتبط بحزب سياسي معين]. جعلني التواجد في الشوارع يومياً خلال الأيام الماضية أشعر بالأمل، في وقتٍ فقدت فيه الأمل تماماً تقريباً في هذا البلد. كما جعلني أشعر بمزيد من المسؤولية، ولدي شعور بأن لبنان هذه المرة سيرد لي أي تضحيات أقدمها.”

كما لاحظ الكثيرون روح الدعابة التي انتشرت والشعور العام الاحتفالي. فعلى سبيل المثال، سرد مقالٌ في ذا ناشونال أفضل اللحظات خلال الاحتجاجات، منها على سبيل المثال غناء الجماهير لأغنية “بيبي شارك” لطفلٍ يشعر بالخوف، واختراع أغنية مُهينة لوزير الخارجية جبران باسيل، والزواج في وسط ساحات الاحتجاج، والحفلات الغنائية في الشوارع، أو حتى الاسترخاء في بركة وسط الفوضى.

كما كانت النساء حاضراتٍ بقوة خلال الاحتجاجات، وتم التأكيد على سماعهنّ واحترامهنّ، فضلاً عن عودة المغتربين اللبنانيين إلى بلادهم لتقديم الدعم. وفي اليوم الـ12 من الاحتجاجات، ابتدع الناس أساليب مذهلة لإغلاق الطرقات مثل تنظيم جلساتٍ لليوغا على الطريق السريع.

على الرغم من حالة المرح والأمل، إلا أن العديد من القضايا التي أشعلت الاحتجاجات لم تحل بعد. ما هو واضح هو أن لبنان يستحق أفضل من ذلك، ويعتقد المحتجون أنهم يمتلكون فرصةً لجعل لبنان أفضل حقيقة واقعة.