وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

كابوس فيروس كورونا يحط رحاله في فلسطين

Gaza corona
أفراد من الشرطة عند نقطة تفتيش أقيمت عند أحد الطرقات خلال إغلاق عطلة نهاية الأسبوع بسبب جائحة كورونا في مدينة غزة، 18 ديسمبر 2020. Photo: MAHMUD HAMS / AFP

نور عودة

لأول مرةٍ منذ قرابة مائة عام، نظام الرعاية الصحية الفلسطيني قاب قوسين أو أدنى من الانهيار في ظل الأزمة الصحية العامة. عادةً ما يتعرض النظام الصحي الفلسطيني لضغوطاتٍ تتجاوز قدراته على الصمود بسبب هجمات الإحتلال الإسرائيلي، كما كان جلياً خلال الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2014، بيد أنه في غضون الأشهر التسع الماضية، اختبرت جائحة كورونا قدرة الفلسطينيين وتحملهم، كما عُرف عنهم، في التأقلم مع الظروف القاهرة.

أكِدت أولى حالات الإصابة بفيروس كورونا في مدينة بيت لحم في 5 مارس 2020، وعليه، اتخذت وزارة الصحة إجراءاتٍ فورية، بما في ذلك إغلاق المدينة لاحتواء انتشار الوباء. شكلّت التجربة صدمةً للفلسطينيين، الذين اعتادوا الإغلاقات بسبب الإحتلال الإسرائيلي، مما ولدّ لديهم ميلاً غريزياً لاحترامها. وللتغلب على هذا العائق النفسي، بذلت الحكومة الفلسطينية جهوداً كبيرة لإضفاء الطابع الإنساني على الإغلاق وتطبيعه. نجحت هذه الإستراتيجية، ولشهور سيطرت فلسطين على الوباء ونالت ثناء منظمة الصحة العالمية في عدة مناسبات.

كانت الإستجابة الفلسطينية لجائحة كورونا متوقعةً في بعض جوانبها، فمع بداية انتشار الوباء، لم يكن هناك سوى 82 مستشفى في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة. وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، يوجد حوالي طبيبان لكل 1000 فلسطيني و1,3 سرير مستشفى لكل 1000 مواطن. أما في غزة، فقد كان الوضع مقلقاً على نحوٍ خاص، حيث لا يوجد سوى 78 سريراً في وحدة العناية المركزة. وعليه، عملت الحكومة الفلسطينية على تحسين قدراتها المتواضعة، وإنشاء مرافق صحية متخصصة للتعامل حصرياً مع حالات فيروس كورونا، وزيادة عدد وحدات العناية المركزة، والحصول على معدات الوقاية الشخصية ومسحات الفحص، وزيادة قدرات إجراء الفحوصات والتعقب. وفي حين تم على وجه السرعة تطوير خطة استجابة وطنية وتحديثها بانتظام، إلا أن الاستجابة الفعالة كانت معركة شاقة من الناحيتين اللوجستية والمالية.

ولكن في حين واجهت البلدان الأخرى تحدياتٍ متوقعة بحلول متوقعةً أيضاً للتغلب عليها، كان على الحكومة الفلسطينية وحماس التصدي لمجموعةٍ إضافية من التحديات الفريدة من نوعها، بدءاً من واقع وديناميات الاحتلال الإسرائيلي والالتزام تجاه اللاجئين الفلسطينيين في جميع أنحاء المنطقة.

فعلى أرض الواقع، تُسيطر الحكومة الفلسطينية فعلياً على 18% فقط من أراضي الضفة الغربية المحتلة، والتي تُعرف بالمناطق (أ)، وتضم المدن والتجمعات السكنية الكبيرة، في حين أن ما يقارب الـ60% من الأراضي خارج نطاق سيطرة سلطات إنفاذ القانون أو سيطرة الحكومة. شكّل هذا كابوساً لوجيستياً وعمليّاتياً لاستجابة الصحة الفلسطينية للجائحة، لا سيما في فرض إغلاقاتٍ فضلاً عن مراقبة وتتبع الحالات الجديدة. وعلاوةً على ذلك، اتخذت إسرائيل تدابير لمنع فرض إستجابةٍ صحية فلسطينية في القدس وما حولها من قرى، بما في ذلك اعتقال ومضايقة المتطوعين.

وبالرغم من الحماس الدولي الأولي بشأن التعاون الفلسطيني الإسرائيلي في الاستجابة للوباء، سرعان ما كشفت ممارسات الاحتلال الإسرائيلي على أرض الواقع أن هذا التهليل بعيدٌ كل البعد عن الواقع. فعلى الرغم من انتشار الوباء، واصلت إسرائيل اعتقال عشرات الفلسطينيين واستمر عدد الإصابات بين المعتقلين الفلسطينيين في الارتفاع. كما حطم التهجير الإسرائيلي للفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية، أرقاماً قياسية جديدة في عام 2020. وسواء كان ذلك عن طريق عمليات الهدم أو الإخلاء القسري، تسببت إسرائيل في تشريد ما يقرب من 1000 فلسطيني وأثرت على أكثر من 5000 فلسطيني في 2020. وفي الوقت نفسه، تقدر الأمم المتحدة أن ما يصل إلى 800 فلسطيني أو أكثر، في القدس وحدها، معرضون لخطر الطرد القسري.

وفي غضون ذلك، ومنذ بداية تفشي الوباء، كان واضحاً أن النظام الصحي في غزة المحاصرة، العامل منذ فترةٍ طويلة بخطة طوارىء، لم يكن بأي حالٍ من الأحوال في وضعٍ يسمح له بالتعامل مع تدفق مرضى فيروس كورونا. فقد شكّل احتمال انتشار الوباء في القطاع كابوساً طبياً وإنسانياً للمنظمات الفلسطينية والدولية على حد سواء، ومن المفارقات أن الحصار الإسرائيلي الوحشي لقطاع غزة وسكانه الفلسطينيين البالغ عددهم 2,5 مليون نسمة جنّب غزة بدايةً أزمة صحية لم يكن بمقدورها مواجهتها.

bethlehem corona
مصلّون فلسطينيون يغادرون كنيسة المهد في بيت لحم بعد قداس الأحد، وذلك بعد أن أعيد فتحها في أعقاب فرض قيود صارمة بسبب جائحة كورونا. Photo: HAZEM BADER / AFP

فقد أقامت سلطات حماس، التي تسيطر على قطاع غزة منذ عام 2007، منشآتٍ للحجر الصحي بالقرب من حدود رفح مع مصر، حيث تم احتجاز السكان العائدين إلى غزة في تلك المرافق لمدة 14 يوماً، وبقي أولئك الذين ثبتت إصابتهم في المرافق المُعدّة على وجه السرعة حتى تعافوا. ومع ذلك، عاد الوباء منتقماً في الخريف الماضي، وانتشر كالنار في الهشيم في واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم. وبحلول 16 ديسمبر2020، ارتفع معدل الفحوصات الإيجابية في غزة إلى أكثر من 40%، وهو رقمٌ صادم يحمل في طياته تداعياتٍ كارثية. وعلى الرغم من مد يد العون من المجتمع الدولي والحكومة الفلسطينية التي تتقاسم مواردها المحدودة مع غزة، إلا أن الوضع الآن على شفير الانهيار.

أما في مخيمات اللجوء المنتشرة في المنطقة، يُنذر الوضع أيضاً بكارثةٍ وشيكة. وبالتعاون مع الأونروا، التي جفّ تمويلها مؤخراً، تم وضع خطة إستجابةٍ طارئة لتلبية احتياجات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن وسوريا ولبنان، بيد أنه في ظل ارتفاع معدلات العدوى والفقر في أرجاء المنطقة، يبدو الحد من انتشار الوباء في مخيمات اللاجئين متعذراً على نحوٍ متزايد.

واليوم، تعمل المستشفيات الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، أو تقترب من العمل، بكامل طاقتها الاستيعابية. وبالتالي، لجأ الخبراء إلى وسائل الإعلام للتوعية ومناشدة الجمهور اتباع النصائح الطبية، وارتداء الأقنعة والإلتزام بالتباعد الاجتماعي، إلى جانب حث المرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري عدم التردد بطلب المساعدة الطبية عند الحاجة، بينما تم إلغاء جميع العمليات الجراحية البسيطة والاختيارية منذ مارس 2020.

وعلى عكس الدول ذات السيادة، ببساطة، لا تتوفر العديد من الخيارات أمام الحكومة الفلسطينية للتخفيف من فرض حالات الطوارىء على مستوى وطني في حالات انتشار الأوبئة كحالنا اليوم. فبالإضافة إلى افتقارها السيطرة على جميع أراضيها ومعاناتها من صدعٍ سياسي وجغرافي يفصل فعلياً قطاع غزة عن الضفة الغربية، تواجه الحكومة الفلسطينية أزمةً مالية مدمرة تحدّ من خياراتها للتعبئة، بما في ذلك توظيف الموارد البشرية اللازمة في القطاع الصحي. فقد كانت تكلفة الوباء هائلة، حيث تراوحت، بحسب التقديرات، بين 7% و35% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما يقدر البنك الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني سينكمش بنسبة 8% على الأقل. وعلى الرغم من تخفيف العبء الاقتصادي الناتج عن قرار الحكومة بقبول عائدات الضرائب التي تجمعها إسرائيل، لا يعتقد الخبراء أن هذه الخطوة ستكون كافية لانتشال الفلسطينيين من الركود الحالي.

لا تتمثل مشكلة استجابة الفلسطينيين للوباء بنقص الموارد البشرية أو الخبرة، بل بتراكمات عمليةٍ سياسية فشلت في تحقيق السيادة من ناحية، وسلسلةٍ من النواقص المحلية التي فشلت في منح الأولوية لإنشاء نظام تأمينٍ صحي وطني يمكنه تلبية معظم، إن لم يكن جميع احتياجات الجمهور الفلسطيني دون مساعدٍة خارجية، من ناحيةٍ أخرى.

واليوم، توصي لجنة طوارىء وباء كورونا بفرض قيودٍ وإغلاقاتٍ جديدة في الضفة الغربية، ولكن مع عدم قدرة الحكومة على تقديم المساعدة المالية لقطاع الخدمات والسياحة وغيرها من القطاعات الأكثر تضرراً من الوباء، سيواجه قرار فرض إغلاقٍ شامل معارضةً شديدة.

ومن الجدير بالذكر إن معدل الوفيات التراكمي في فلسطين لا يزال منخفض نسبياً بنسبة 0,9%، مقارنةً بالدول النامية الأخرى، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً لكون المجتمع الفلسطيني مجتمعاً فتياً في الغالب. ومع ذلك، فإن التصاعد الحالي الحاد للحالات الجديدة والحالات الخطيرة، ما هو إلا تذكيرٌ مشؤوم بأن الوباء بات يقترب بسرعة من نقطة اللاعودة. وفي الأيام المقبلة، ربما لن يكون أمام الحكومة الفلسطينية خيارٌ آخر سوى إنقاذ قطاعها الصحي من الانهيار الكامل، حتى وإن كان لهذا القرار الحاسم تداعيات مالية مدمرة.