وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

زلزال تركيا وسوريا: خسائر اقتصاديّة طويلة الأمد

سرعان ما اتجهت الأنظار الآن إلى حجم الخسائر الاقتصاديّة، التي ستلحق بالدولتين نتيجة زلزال تركيا وسوريا، على المديين المتوسّط والقصير.

زلزال تركيا وسوريا
رجل سوري فقد معظم أفراد عائلته في زلزال الأسبوع الماضي يجلس مع أحد أبنائه فوق أنقاض بنايتهم المنهارة في قرية الأتارب في شمال غرب محافظة حلب ، في 14 شباط 2023. عارف وتد / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

أمضى السوريّون والأتراك الأيام الماضية بإحصاء الخسائر البشريّة القاسية، التي مازالت ترتفع حتّى اللحظة بشكل يومي، مع استمرار عمليّات رفع الأنقاض. ومع ذلك، سرعان ما اتجهت الأنظار الآن إلى حجم الخسائر الاقتصاديّة، التي ستلحق بالدولتين نتيجة الزلزال، على المديين المتوسّط والقصير.

فهذه الخسائر الاقتصاديّة، ستترك أثرها لسنوات عديدة، على نوعيّة حياة السوريين والأتراك في المناطق المتضرّرة، الأمر الذي يفترض أن يتم أخذه بالحسبان عند تقدير حاجة الدولتين للمساعدات الاقتصاديّة الخارجيّة خلال الفترة المقبلة. كما يجب أن يتم أخذ هذه الخسائر بعين الاعتبار، عند وضع الخطط الحكوميّة لإنعاش المناطق المتضرّرة، لتقدير الكلفة التي ستترتّب على تنفيذ هذه الخطط.

أمّا أهم ما في الموضوع، فهو أن خسائر الزلزال الاقتصاديّة لن تقتصر على المناطق المنكوبة فقط، بل ستطال كل نواحي الاقتصادين السوري والتركي. ولهذا السبب بالتحديد، من المفترض أن تلحظ السياسات الاقتصاديّة العامّة في الدولتين هذه الآثار، وأن تتم مواءمة هذه السياسات مع الواقع المستجد.

آثار الزلزال على أداء الاقتصاد التركي الكلّي

أصاب الدمار الذي أحدثه الزلزال عشرًا من كبرى المدن التركيّة، التي ساهمت خلال العام الماضي بنحو 10% من إجمالي الناتج المحلّي التركي. وفي الوقت نفسه، أسهمت هذه المدن بزيادة النمو الاقتصادي في تركيا ب1.15 نقطة، فيما أسهمت مدينة غازي عنتاب وحدها ب0.25 نقطة من هذا النمو. مع الإشارة إلى أنّ مدينة غازي عنتاب، إحدى أكثر المدن التركيّة تضرّرًا من الزلزال، تُعتبر أكبر المراكز الصناعيّة المهمّة في البلاد.

ولذلك، من المتوقّع أن نسبة مهمّة من الناتج المحلّي التركي والنمو الاقتصادي، ستكون مهددة اليوم، إلى حين عودة الحياة الطبيعيّة إلى المدن التركيّة التي تضرّرت من الزلزال. وللدلالة على خطورة الموقف، تكفي العودة إلى بيانات بورصة الطاقة في إسطنبول، التي تشير إلى أنّ استخدام الكهرباء في عموم البلاد تراجع بنسبة 11% بعد الزلزال، في إشارة واضحة إلى حجم الأضرار التي أصابت الاستهلاك والنشاط الصناعي.

ومن الطبيعي أن يؤدّي دمار المناطق الصناعيّة جنوب شرق تركيا إلى تضرّر الصادرات الصناعيّة بشكل كبير، إذ تساهم هذه المناطق بالتحديد بإنتاج أكثر من 8.5% من السلع التي تصدّرها تركيا سنويًّا إلى الخارج. وهذا الجانب من الأزمة بالتحديد، سيساهم بتقليص كميّات العملة الصعبة التي تتدفّق إلى البلاد من عمليّات التصدير، ما سيضغط بدوره على قيمة الليرة التركيّة خلال الأشهر المقبلة. ومن المعلوم أن تركيا تعاني أساسًا من أزمة نقديّة مزمنة، أفضت إلى فقدان العملة المحليّة 29% من قيمتها خلال العام الماضي، و44% من قيمتها خلال العام 2021.

في خلاصة الأمر، من المرتقب أن يتكبّد الاقتصاد التركي خسائر إجماليّة تقارب قيمتها 84 مليار دولار. وهذه الخسائر، ستشمل قيمة المباني والمنشآت التي دمّرها الزلزال، والتي توازي حدود ال70.8 مليار دولار، بالإضافة إلى 10.4 مليار دولار من الأضرار التي ستصيب حجم الناتج المحلّي وإنتاجيّة القطاعات الاقتصاديّة. ويمثّل حجم الخسائر الإجماليّة نحو 10.2% من إجمالي الناتج المحلّي التركي، كما يقدّره البنك الدولي، ما يشير إلى ضخامة هذه الأضرار نسبة إلى حجم اقتصاد تركيا.

ولهذا السبب، من المتفرض أن تعاني الميزانيّة التركيّة العامّة خلال الأعوام المقبلة من ثقل التعامل مع الخسائر، سواء من خلال زيادة الإنفاق للتعويض على المتضرّرين وإعادة إعمار البنية التحتيّة، أو من خلال تقلّص الإيرادات العامّة بفعل تراجع النشاط الاقتصادي في المناطق المتضرّرة.

وهذا التطوّر سيعني تراجع قدرة الدولة التركيّة على الإنفاق على شبكات الحماية الاجتماعيّة، التي يستفيد منها عموم الأتراك من ذوي الدخل المحدود في عموم المناطق التركيّة. وتكمن خطورة هذه المسألة في أن الميزانيّة العامّة التركيّة كانت تعاني أساسًا من ارتفاع كبير في العجز، الذي بلغ مستويات قياسيّة العام الماضي.

وفي الوقت الراهن، من المقدّر أن يرتفع عجز الميزانيّة العامّة التركيّة هذه السنة إلى نحو 5.4% من الناتج المحلّي الإجمالي، نتيجة الأعباء التي سيرتّبها الزلزال. ويمثّل هذا الرقم زيادة كبيرة مقارنة بالتوقعات الرسميّة قبل الزلزال، التي رجّحت ألّا تتجاوز نسبة العجز 3.5% من الناتج المحلّي. ومن المرتقب أن تضطر الحكومة التركيّة إلى زيادة حجم ديونها العامّة، للتمكّن من التعامل مع هذا العجز، ما سيزيد من ثقل فوائد الديون على الدولة التركيّة.

الخسائر الاقتصاديّة في المناطق التركيّة المتضرّرة

بمعزل عن الخسائر التي ستطال الاقتصاد التركي الكلّي، ستعاني المناطق المتضرّرة بالتحديد من خسائر اقتصاديّة أقسى وأشد وطأة. إذ يشير اتحاد الشركات والأعمال في تركيا إلى أنّ خسائر القوّة العاملة في المناطق المتضرّرة بالتحديد ستبلغ حدود ال10.4 مليار دولار حيث يمثّل هذا الرقم إجمالي المداخيل التي ستفقدها هذه المناطق، نتيجة وفاة أو إصابة العمّال والموظفين فيها. على المستوى الإنساني، سيعني هذا الرقم حاجة المجتمعات المتضرّرة من الزلزال إلى تعويضات أو مساعدات بهذا الحجم، لتعويض الأجور التي فقدتها الأسر المتضرّرة.

المشكلة الأكبر، بالنسبة إلى المناطق المتضرّرة، تتمثّل في أعداد المشرّدين الذين فقدوا منازلهم بشكل تام، والذين سيحتاجون إلى انتظار عمليّات إعادة الإعمار. فبحسب وزير البيئة والتطوير العمراني، يتجاوز عدد المباني المنهارة حدود ال12,141 مبنًى، فيما تتوقّع شركات البناء التركيّة أن يرتفع هذا العدد بالتوازي مع الأضرار التي تنتج حاليًّا عن الهزّات الارتداديّة.

وفي الوقت نفسه، برزت إلى العلن بعد الزلزال مشكلة المباني التي لا تطابق المواصفات، والتي يتجاوز عددها –بحسب التقديرات الرسميّة- حدود ال600 مبنى. ورغم عدم انهيار هذه المباني بالضرورة، إلا أنّ بعض أضرار الزلزال التي أصابتها كشفت وجود عيوب كبيرة فيها، ما فرض إخلاءها بانتظار إصلاح هذه العيوب.

وأخيرًا، من المتوقّع أن تعاني المناطق المتضرّرة من خسارة مداخيلها من إيرادات النشاط الزراعي والسياحي، بالنظر إلى الأضرار الكبيرة التي أصابت البنية التحتيّة، والتي ستعرقل عمل هذه القطاعات الاقتصاديّة على المدى المتوسّط. وسيؤدّي هذا الواقع بدوره إلى ارتفاع نسب الفقر في المجتمعات الريفيّة والزراعيّة الأكثر هشاشة التي طالها الزلزال، والتي كانت توفّر نحو 14% من إنتاج تركيا الزراعي.

خسائر الزلزال الاقتصاديّة في سوريا

في المقلب الآخر، يبدو إحصاء الأضرار الاقتصاديّة التي طالت سوريا جرّاء الزلزال مهمّة صعبة، بالنظر إلى فقدان السلطات السوريّة السيطرة على مساحات واسعة من المناطق المتضرّرة، الواقعة تحت سيطرة المعارضة.

كما يحول دون تقديم الإحصاءات الدقيقة هشاشة المؤسسات الرسميّة السوريّة، وضعف آليّات المتابعة المتوفّرة لديها. وفي الوقت عينه، طال الزلزال مناطق تعاني أساسًا من الفوضى الاقتصاديّة نتيجة الحرب السوريّة، ما يصعّب مهمّة البحث عن أرقام تساهم في الناتج المحلّي أو النمو الاقتصادي.

لكن الأكيد حتّى اللحظة، هو أن حصيلة الدمار طالت 12,122 مبنًى، بشكل كلّي أو جزئي. أمّا المشكلة الأساسيّة، فتكمن في عدم قدرة السلطات السوريّة أو قوى المعارضة على الشروع بإعادة إعمار المباني المتضرّرة، بالنظر إلى الصعوبات الماليّة التي يواجهها كل من الطرفين. ومن المعلوم أن مناطق واسعة من المدن المتضرّرة بالزلزال كانت تعاني أساسًا من الدمار الذي أحدثته الحرب السوريّة، دون أن يتمكّن أي طرف من التعويض عليها أو إطلاق ورشة لإعادة الإعمار.

أمّا الإشكاليّة التي سترخي بظلالها على الوضع الاقتصادي، فتكمن في ظاهرة النازحين الذي اضطرّوا لترك منازلهم نتيجة الأضرار التي خلّفها الزلزال، حيث تقدّر المفوّضيّة السامية لشؤون النازحين أعداد هؤلاء بنحو 5.37 مليون نسمة. وهذه المشكلة، ستُضاف إلى مشكلة النازحين الموجودة أساسًا، نتيجة موجات التهجير التي نتجت عن الحرب السوريّة. ومن الواضح أن موجات الهجرة الجديدة طالت مدنا وقرى كاملة، في محافظات إدلب وحلب واللاذقيّة وحماة، هذا ما سيفرض الحاجة إلى مساعدات طارئة لإغاثة اللاجئين.

بالنتيجة، من الواضح أن تركيا ستكون أكثر قدرة من سوريا على الشروع بعمليّة إعادة إعمار البنية التحتيّة والمباني المتضرّرة، نظرًا لتوفّر الإمكانات الماليّة بشكل أكبر لدى السلطات التركيّة مقارنة بالسلطات السوريّة. كما ستعاني سوريا من توزّع السيطرة على المناطق المتضرّرة بين النظام والمعارضة، ما سيمنع وضع خطة شاملة لمعالجة الأضرار في جميع المناطق السوريّة.

وأخيرًا، سيكون على النظام السوري التعامل مع مشكلة علاقاته الدوليّة المتوتّرة، وعدم قدرة حلفائه التقليديين –أي إيران وسوريا- على تقديم الدعم المالي المطلوب، بالإضافة إلى مشكلة العقوبات المفروضة عليه.