وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

أزمة الاقتصاد البريطاني وتداعياتها على الدول العربيّة

تمتلك دول الخليج وشمال إفريقيا استثمارات كبيرة في الأسواق المالية والعقارية البريطانية، مما يجعلها عرضة بشكل خاص لأي اضطرابات قد تحدث في الاقتصاد البريطانية.

أزمة الاقتصاد البريطاني
أحد المشاة يمر بجوار بنك إنجلترا (BoE) في مدينة لندن. إيزابيل انفانتس / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

دخل الاقتصاد البريطاني منذ منتصف العام 2022 نفق الانكماش الاقتصادي، فيما يبدو أنّه سيتجه نحو أزمة أقسى خلال العام 2023. ويبدو أن العديد من الدول العربيّة ستتأثّر بشكل كبير بأزمة الاقتصاد البريطاني، من خلال التداعيات التي ستصيب الاستثمارات العربيّة في بريطانيا، أو الاستثمارات البريطانيّة في الدول العربيّة.

وهذا تحديدًا هو حال بعض دول الخليج كالسعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة والكويت وقطر. في المقابل، ستعاني دول أخرى كمصر والمغرب من أثر هذه الأزمة، نتيجة اعتمادها بشكل كبير على تصدير السلع والخدمات إلى السوق البريطانيّة.

تراكمات أدّت إلى أزمة الاقتصاد البريطاني

على مدى الأعوام الممتدة بين 2020 و2023، تراكم، تدريجيًّا، الكثير من العوامل الماليّة والنقديّة الضاغطة على الاقتصاد البريطاني، ما أدّى إلى تفاقم الأزمة الاقتصاديّة بشكل كبير ابتداءً من العام 2023.

في العام 2020، خسر الناتج المحلّي الإجمالي البريطاني حوالي ال9.9%، نتيجة تداعيات تفشّي وباء كورونا، الذي لم يترك أي قطاع من قطاعات الاقتصاد المحلّي معافى بفعل عمليّات الإغلاق الشامل. وهكذا شهدت بريطانيا في تلك السنة أكبر تقلّص في اقتصادها منذ ثلاثة قرون، ما ترك آثاره على معدلات البطالة وإنتاجيّة الاقتصاد المحلّي.

وفي العام نفسه، وتحديدًا في 31 يناير/كانون الثاني 2020، خرجت بريطانيا رسميًا من الاتحاد الأوروبي، ثم أنهت اتباع القواعد التجاريّة الأوروبيّة في 31 ديسمبر/كانون الأوّل 2020. وسرعان ما تراجعت -بعد أشهر قليلة- صادرات بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 68%، مقارنة بمرحلة ما قبل الخروج من الاتحاد. وبعد مرور نحو سنة ونصف على هذه الخطوة، قدّرت الدراسات حجم الخسائر التي لحقت ببريطانيا نتيجة ذلك بنحو 38 مليار دولار، أي ما يمثّل 5.2% من حجم الاقتصاد البريطاني برمّته.

ومع انحسار وباء كورونا، كانت بريطانيا الأسرع بين البلدان الغربيّة في إعادة فتح قطاعاتها الاقتصاديّة، ما رفع الطلب والاستهلاك إلى مستويات قياسيّة. وهكذا ساهم هذا العامل في خلق ضغط تضخّمي كبير في أسعار السوق على مدى العامين الماضيين. وفي الربع الأخير من العام 2022، كانت نسبة التضخّم قد ارتفعت لتتخطّى حدود ال11%، مما مثّل أعلى مستوى لهذه النسبة منذ أكثر من 41 سنة. كما ساهم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفرض الرسوم الجمركيّة على المنتجات الأوروبيّة، في إضافة المزيد من الضغوط التضخميّة على الاقتصاد البريطاني.

وللتعامل مع التضخّم والسيطرة عليه، دخل بنك إنكلترا –أي البنك المركزي- في دوّامة رفع معدلات الفائدة، التي وصلت في أواخر 2022 إلى أعلى مستوياتها منذ 33 عامًا. ورغم أهميّة اتخاذ مثل هذه الخطوة للتعامل مع ارتفاع الأسعار، كانت النتيجة البديهيّة لرفع معدلات الفائدة بهذا الشكل السريع والقياسي دفع الاقتصاد البريطاني باتجاه الانكماش. فكما هو معلوم، تساهم الارتفاعات السريعة في معدلات الفوائد في لجم الاقتراض الهادف إلى الاستثمار والحد منه، كما تساهم في امتصاص السيولة باتجاه النظام المالي بدل إنفاقها على المشاريع الجديدة.

وجاءت في 2022 أزمة الطاقة في أوروبا، بعد اندلاع الحرب الأوكرانيّة، التي أدّت إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز إلى مستويات كبيرة. وتمثّلت مشكلة بريطانيا الرئيسة في كونها باتت خارج الاتحاد الأوروبي، وهذا ما استثناها من خطط الاتحاد الهادفة إلى ضمان أمن الطاقة الجماعي للدول الأوروبيّة. ولهذا السبب تحديدًا، كبّدت الأزمة بريطانيا أكلافًا كبيرة، في سبيل تفادي انقطاع إمدادات الطاقة، وهذا تحديدًا ما أثّر على إنتاجيّة الاقتصاد البريطاني وتنافسيّته.

وفوق كل ذلك، جاءت في الربع الأخير من العام 2022 الأزمة التي تسببت بها خطّة حكومة ليز تراس، وما نتج عنها من خسائر ضخمة في أسواق المال. ورغم استقالة تراس بعد 44 يومًا من تعيينها، نتيجة هذه الأزمة، ظلّت تداعيات الاضطرابات الماليّة التي أثارتها هذه الخطّة ماثلة أمام البريطانيين حتّى الآن.

مؤشّرات الأزمة الاقتصاديّة البريطانيّة الراهنة

مع بداية العام 2023،وخلال الشهرين الأولين منه، انكشف حجم المأزق الذي يعاني منه حاليًّا الاقتصاد البريطاني، من خلال العديد من المؤشّرات التي تم الإعلان عنها مؤخّرًا، والتي عكست أثر أحداث السنوات الماضية.

فآخر دراسات صندوق النقد الدولي، ترجّح أن ينكمش الاقتصاد البريطاني بنسبة 0.6% خلال العام 2023، وهذا ما يقل بنحو 0.9 نقطة مئويّة عن تقديراته السابقة. وبذلك، باتت بريطانيا الدولة الصناعيّة الوحيدة (ضمن مجموعة G7) التي من المتوقّع أن تشهد انكماشًا هذه السنة، بدل أن تشهد نموًّا. مع الإشارة إلى أنّ الاقتصاد البريطاني لم يسجّل أي نموّ يُذكر في الربع الأخير من العام 2022، فيما سجّل انكماشًا بنسبة 0.3% في الربع الثالث من العام نفسه.

على صعيد المستوى المعيشي، سجّلت بريطانيا في مطلع هذا العام خسارة كبرى في قدرة البريطانيين الشرائية مع بداية أزمة النفط العالميّة في منتصف سبعينات القرن الماضي. ومع انخفاض قدرة البريطانيين الإستهلاكيّة، دخلت البلاد نفق الركود التضخّمي، الذي تتزامن فيه ارتفاعات معدلات التضخّم، مع الركود الاقتصادي الحاد. وهذا تحديدًا ما دفع بنك إنكلترا إلى التحذير من أنّ البلاد ستواجه أطول ركود اقتصادي منذ أكثر من مئة عام.

باختصار، وعلى الرغم من معاناة كلّ الاقتصادات الغربيّة ضغوطًا اقتصاديّة حادّة خلال الأشهر الماضية، بدا من الواضح أن الاقتصاد البريطاني يمر بأزمة استثنائيّة قاسية وشديدة الوطأة اليوم. وفي الوقت الراهن، تتوقّع معظم التحليلات الاقتصاديّة تنامي الأزمة الاقتصاديّة في بريطانيا، مع اتجاه معدلات الفوائد البريطانيّة لتسجيل زيادات أعلى خلال الأشهر المقبلة. وهذا تحديدًا ما سينعكس في المزيد من الإضرابات العمّاليّة والاضطرابات الاجتماعيّة.

تداعيات الأزمة على الاستثمارات العربيّة في بريطانيا

تمتلك دول الخليج استثمارات وازنة في أسواق المال والعقارات البريطانيّة، ما سيدفع هذه الدول بالتحديد إلى التأثّر بأي اضطرابات شهدتها أو ستشهدها السوق البريطانيّة. وعلى نحوٍ أدق، تتوزّع الاستثمارات الخليجيّة في بريطانيا على الشكل التالي:

– تتجاوز قيمة الاستثمارات القطريّة في الأسواق البريطانيّة حدود ال43 مليار دولار، حيث تمثّل بريطانيا –وبخاصّة سوق العقارات فيها- الوجهة الأبرز لاستثمارات رجال الأعمال القطريين.

– تبلغ قيمة الاستثمارات الإماراتيّة في بريطانيا نحو 14.9 مليار دولار، حيث توسّعت قيمة هذه الاستثمارات مؤخرًا نتيجة الاتفاقات الاستثماريّة الموقّعة بين الشركات البريطانيّة وصناديق الاستثمار السياديّة الإماراتيّة.

– تقتصر الاستثمارات السعوديّة في بريطانيا على نحو 1.2 مليار دولار فقط، ما يمثّل قيمة محدودة مقارنة بقطر والإمارات العربيّة المتحدة. وقد يرتبط هذا الواقع بميل المستثمرين السعوديين لتوظيف أموالهم في أسواق المال والعقارات الأميركيّة.

– تبلغ قيمة الاستثمارات الكويتيّة في بريطانيا أكثر من 17 مليار جنيه استرليني، من بينها حصص في شركات “بريتش بتروليوم” و”فودافون” و”HSBC”.

في حال أدّت الأزمة الاقتصاديّة الراهنة إلى انهيارات سريعة في أسعار العقارات والأسهم وأوراق الدين في بريطانيا، فإنّ هذه الدول العربيّة بالتحديد ستعاني من خسائر في قيمة استثماراتها، تمامًا كما حدث سابقًا عام 2008 خلال الأزمة الماليّة العالميّة. ومن المعلوم أن جزءًا كبيرًا من هذه الاستثمارات يرتبط بعقود واتفاقيّات طويلة الأمد، هذا ما يحول دون انسحاب المستثمرين أو الحكومات العربيّة من هذه الاستثمارات بشكل سريع وآمن في الوقت الراهن.

الاستثمارات البريطانيّة في المنطقة العربيّة

في المقابل، تتجاوز قيمة الاستثمارات البريطانيّة مستوى ال9 مليار دولار في سوق الإمارات العربيّة المتحدة، وال6.7 مليار دولار في السعوديّة، فيما تتركّز الاستثمارات في هذين البلدين في قطاعات الصناعة والخدمات الماليّة والطاقة. أمّا في الكويت، فهناك أكثر من 150 شركة بريطانيّة تعمل في مختلف القطاعات الاقتصاديّة، من بينها شركات عالميّة كبرى تعمل في قطاعات تجارة التجزئة والطاقة والشحن.

كما تعمل في البحرين مجموعة من الشركات البريطانيّة في قطاعات الصناعات الدفاعيّة والنقل والبناء والبنية التحتيّة والسكك الحديديّة. وتشير الإحصاءات إلى وجود أكثر من 150 شركة بحرينيّة لديها شركاء بريطانيون، فيما يتجاوز تعداد الجالية البريطانيّة في البحرين حدود ال10 آلاف شخص. أما في عمان، فتعمل شركات Shell و BPالبريطانيتان في مجال إنتاج النفط والغاز، بموجب عقود تمتد لأكثر من 30 سنة.

في حال حصول اضطرابات اقتصاديّة في بريطانيا، من المتوقّع أن تلجأ الشركات البريطانيّة إلى تقليص حجم استثماراتها في هذه الدول العربيّة، نتيجة الضغوط الماليّة التي قد تمر بها في بلدها الأم. مع الإشارة إلى أنّ الاستثمارات الأجنبيّة الموجودة في منطقة الخليج تأثّرت خلال الأزمة الماليّة العالميّة السابقة، ما أدّى إلى نكسات في أسواق المال والعقارات الخليجيّة.

الصادرات العربيّة إلى بريطانيا

من الأكيد أن الدول العربيّة ستتأثّر أيضًا بهذه الأزمة من خلال حجم صادرتها إلى السوق البريطانيّة، التي يفترض أن تتقلّص نتيجة تراجع الطلب والاستهلاك في بريطانيا. وتبرز مصر كأبرز الدول التي ستتأثّر من هذه الناحية، نظرًا إلى تجاوز صادراتها باتجاه السوق البريطانيّة حدود المليار دولار سنويًّا.

أمّا المغرب، فتعتمد على السوق البريطانيّة بالتحديد لتسويق الخضار والفواكه وسائر السلع الزراعيّة، فيما ارتفع حجم هذه الصادرات بنحو الضعف منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتوقيع اتفاقيّات تسهيل التجارة بين البلدين.

بالنتيجة، سيكون على جميع هذه الدول ترقّب تطوّرات الوضع الاقتصادي في بريطانيا بشكل دقيق، لتلمّس آثار الأزمة الاقتصاديّة هناك على القطاعات الاقتصاديّة العربيّة.

وعلى هذا الأساس، يفترض أن تعمل الحكومات على خطط لاستباق الخسائر التي يمكن أن تلحق باستثماراتها واستثمارات مواطنيها في السوق البريطانيّة، أو النتائج التي يمكن أن تترتّب على تدنّي مستوى صادراتها باتجاه بريطانيا. كما يمكن لهذه الدول أن تضع أيضًا خططًا لتنويع وجهة استثماراتها وصادراتها، لتخفيف حجم المخاطر المرتبطة بهذا النوع من الأزمات الخارجيّة.