وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

هبوط اليورو وآثاره على الدول المتضرّرة والمستفيدة

هبوط اليورو
تظهر الصورة خمسون عملة ورقية باليورو على الطاولة. دينيس شارليت / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

للمرّة الأولى منذ كانون الأوّل/ديسمبر 2002، أي منذ العام الذي شهد إطلاقه كعملة ورقيّة، سجّل سعر صرف اليورو خلال شهر تمّوز/يوليو الحالي انخفاضات قاسية، إلى ما دون عتبة الدولار الأميركي الواحد. بمعنى آخر، ولأوّل مرّة منذ أكثر من عشرين سنة، تدنّت قيمة اليورو خلال الأسابيع الماضية، لتقل عن قيمة الدولار الأميركي في أسواق القطع العالميّة، على مدى أكثر من يوم خلال الشهر الجاري. لاحقًا، وبعد تسجيل هذه المستويات المنخفضة جدًا، عاد اليورو ليتذبذب عند مستويات تقل أو تزيد بقليل عن مستوى الدولار الواحد مقابل اليورو، لكنّ الأكيد حتّى اللّحظة هو أنّ العملة الأوروبيّة الموحّدة قد خسرت منذ بداية هذه السنة ما يقارب ال12% من قيمتها مقابل الدولار، وبعد أن تجاوزت قيمة اليورو في الأسواق العالميّة حدود ال1.6 دولار في أعلى مستوياتها على الإطلاق عام 2008، بات اليورو يجاهد اليوم لتتجاوز قيمته مستوى الدولار الواحد.

من الناحية العمليّة، لم يكن اليورو العملة الوحيدة التي سجّلت هذا الانخفاض الحاد مقابل الدولار، في أسواق المال العالميّة. فخلال شهر تمّوز/يوليو أيضًا، سجّل سعر صرف الين مقابل الدولار أدنى مستوى له منذ أكثر من 24 سنة، وسط توقّعات بتسجيل الين انخفاضات إضافيّة خلال الأسابيع المقبلة إذا لم تطرأ تغييرات جوهريّة على سياسة البنك المركزي الياباني النقديّة. أمّا الجينيه الاسترليني، فانخفضت قيمته تدريجيًّا إلى ما دون 1.2 دولار، بعد أن تجاوزت قيمته ال1.37 دولار في منتصف شهر كانون الثاني الماضي. وحتّى بالنسبة إلى العملات الرقميّة، سجّلت أسواق العملات المشفّرة انهيارًا غير مسبوق في قيمة عملاتها مقابل الدولار، في تحوّلات لا تبتعد أسبابها عن أسباب صعود الدولار مقابل العملات الأخرى. وفي خلاصة الأمر، لم تكن قيمة الدولار ترتفع مقابل اليورو فقط، بل مقابل سلّة من العملات الأخرى في الوقت نفسه.

تتعدد أسباب هذه التحوّلات، التي تجعل من الدولار عملة قويّة في الأسواق العالميّة اليوم، كما تتعدد مخاطر “الدولار القوي” على العديد من اقتصادات العالم الناشئة والمتقدمة على حدٍّ سواء. لكن في ما يخص دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد تنوّعت الآثار السلبيّة والإيجابيّة التي ترتبت على كل دولة من هذه الدول، بنتيجة صعود الدولار السريع إزاء العملات الأخرى، وخصوصًا اليورو. فبالنسبة إلى اقتصادات المنطقة، تختلف تداعيات ارتفاع قيمة الدولار مقابل اليورو بحسب تركيبة ميزان مدفوعات كل دولة على حدة، وبحسب نوعيّة صادراتها ووارادتها، كما بحسب درجة ارتباط اقتصاد كل دولة باقتصادات منطقة اليورو. ولهذا السبب بالتحديد، اختلفت ردّة فعل دول المنطقة تجاه هذه التطورات، واختلفت نوعيّة القرارات التي اتخذتها للتعامل معها.

زيادة الفوائد الأميركيّة وارتفاع الدولار مقابل اليورو

تقاطع العديد من العوامل التي أدّت إلى إرتفاع الدولار خلال الأسابيع الماضية، في مقابل معظم العملات الأخرى، وخصوصًا اليورو. والسبب الأوّل يتصل حكمًا بارتفاع الفوائد في الولايات المتحدة الأميركيّة، الناتج عن إصدار الاحتياطي الفيدرالي ثلاثة قرارات خلال أربعة أشهر، قضى كل منها بزيادة الفوائد المستهدفة بنسب وازنة. مع الإشارة إلى أنّ آخر هذه القرارات، التي صدرت في منتصف شهر حزيران/يونيو الماضي، مثّلت أكبر زيادة في الفوائد التي يستهدفها الاحتياطي الفيدرالي منذ أكثر من ثلاثة عقود. إذ نص القرار على زيادة الفوائد المستهدفة بحدود ال0.75%، لتصبح عند نطاق يتراوح بين 1.5% و1.75%، ومع ذلك، مازالت معظم الترجيحات تتوقّع صدور قرارات تقضي بزيادات إضافيّة على الفوائد التي يستهدفها الاحتياطي الفيدرالي، لتصبح عند حدود 3.4% بحلول نهاية العام، نظرًا لمستوى التضخّم المرتفع الذي يحاول أن يضبطه الاحتياطي الفيدرالي.

لا يمكن فصل ارتفاع الفوائد في الولايات المتحدة، عمّا يجري على مستوى ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل معظم العملات الأخرى، وعلى رأسها اليورو. فارتفاع الفوائد الأميركيّة سيعني بشكل بديهي حصول حركة الرساميل باتجاه السوق الأميركيّة، وارتفاع الطلب على الدولار. ولهذا السبب بالتحديد، حقق الدولار أقوى قفزاته في مقابل العملات الأخرى بعد صدور آخر قرارات الاحتياطي الفيدرالي، في منتصف شهر حزيران/يونيو الماضي. مع الإشارة إلى أن هجرة الرساميل من الأسواق الأخرى كالسوق الأوروبي، باتجاه السوق الأميركي نتيجة ارتفاع الفوائد هناك، تعني أيضًا إقبال المستثمرين على بيع اليورو في أسواق المال، وهو ما ساهم في دفع قيمة اليورو للإنخفاض مقابل الدولار.

في مثل هذه الظروف، كان من المفترض أن يقوم البنك المركزي الأوروبي بزيادات موازية في الفوائد المستهدفة، لكبح جماح هجرة الرساميل باتجاه السوق الأميركي، ولمنع اليورو من الهبوط بهذا الشكل. مع الإشارة إلى أن هبوط اليورو بهذه السرعة سيعني زيادة معدلات التضخّم في الأسواق الأوروبيّة، وزيادة الضغوط على المستهلك الأوروبي. لكن البنك المركزي الأوروبي، وإن حاول إجراء بعض الزيادات المحدودة على الفوائد المستهدفة في أوروبا، لن يتمكّن من مجاراة الارتفاع السريع في الفوائد الأميركيّة، بالنسبة نفسها. فالسوق الأوروبيّة تعاني اليوم من تبعات الحرب الأوكرانيّة، وهو ما يضغط بقسوة على معدلات النّمو الاقتصادي. وأي زيادة سريعة في معدلات الفوائد، ستعني مفاقمة الضغوط التي يتعرّض لها الاقتصاد الأوروبي، ودفعه باتجاه ركود حاد ومزمن.

على أي حال، يمكن القول إن زيادة الفوائد الأميركيّة هي أيضًا ما أدّى إلى صعود الدولار في وجه عملات أخرى، كالجينيه الاسترليني مثلًا، وفي وجه العديد من الموجودات الاستثماريّة الأخرى كالذهب. وبل وثمّة العديد من الخبراء الذين ربطوا ما بين ارتفاع الفوائد الأميركيّة، واجتذاب السوق الأميركي للرساميل، والانهيار السريع في أسعار العملات الرقميّة. فارتفاع العوائد على الاستثمارات الآمنة نسبيًّا، في سوق السندات الأميركيّة، دفع حتمًا نسبة من المستثمرين إلى بيع محافظ توظيفاتهم المرتفعة المخاطر، كتلك المرتبطة بالعملات الرقميّة.

هبوط اليورو وأزمة أوكرانيا

لم يرتبط إرتفاع سعر صرف الدولار إزاء اليورو بارتفاع الفوائد الأميركيّة فقط، بل ثمّة عوامل ضعف وهشاشة مرتبطة بالسوق الأوروبيّة نفسها، أدّت إلى هبوط سعر صرف اليورو في أسواق المال العالميّة. فالحرب الأوكرانيّة أدّت إلى تقلّص تدفقات الغاز الطّبيعي إلى السوق الأوروبيّة، وهو ما أدّى بدوره إلى ارتفاع كلفة مصادر الطاقة وشحّها، والحد من توسّع العديد من الأنشطة الصناعيّة. وهكذا، بدأ شبح الأزمة الاقتصاديّة يحوم فوق أورويا، مع تصاعد المخاوف من مستقبل الوضع في أسواقها الماليّة. ولذلك كان من الطّبيعي أن تؤدّي ظروف كهذه إلى الضغط على سعر صرف اليورو، نتيجة تراجع تدفق الرّساميل وخوف المستثمرين من الظروف التي يمر بها الاتحاد الأوروبي. مع الإشارة إلى أنّ ارتفاع أسعار مصادر الطاقة، والتضخّم الكبير الذي ضرب السوق الأوروبيّة، أديا بدورهما إلى تراجع معدلات الاستهلاك، وهو ما انعكس بدوره على قدرة الأسواق الأوروبيّة على تحقيق النمو، ما ساهم بمفاقمة الأزمة.

ومع حلول فصل الخريف يتوقّع كثيرون تزايد معدلات الطلب على مصادر الطاقة في الاتحاد الأوروبي، لتأمين حاجات التدفئة، ما يعني المزيد من الارتفاع في كلفة شراء الغاز الطّبيعي وتأمين الكهرباء. وكما هو واضح، ستؤدّي كل هذه التطورات إلى زيادة معدلات التضخّم مجددًا، وتفاقم الأزمة الاقتصاديّة التي تعاني منها القارة بأسرها. وفي النتيجة، من المتوقّع أن تستمر حتّى ذلك الوقت الضغوط التي يتعرّض لها اليورو، خصوصًا أن تأمين المحروقات بالأسعار المرتفعة الحاليّة، سيعني المزيد من الطلب على الدولار مقابل اليورو، في ظل اعتماد أوروبا على الاستيراد لتأمين هذه المواد.

تداعيات سلبيّة على بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

تتنوّع الارتدادات الإيجابيّة والسلبيّة الناتجة عن إرتفاع الدولار السريع، والهبوط الموازي في قيمة اليورو في سوق القطع، على أسواق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. والنتيجة السلبيّة الأولى المتوقعة، ستكون حتمًا بتراجع قيمة تحويلات المغتربين في أوروبا إلى بلدان المنطقة، وخصوصًا بالنسبة إلى الدول التي تستفيد في العادة من تحويلات واردة وازنة من الاتحاد الأوروبي، كحالة مصر ودول المغرب العربي ولبنان والأردن. فمداخيل المغتربين هناك، مقومة باليورو، وتراجع سعر صرف اليورو سيعني بطبيعة الحال تراجع قيمة مداخليهم، وحجم تحويلاتهم إلى بلدانهم.

فمن حيث موازين الاستيراد والتصدير، ستختلف تداعيات هذه التطورات على كل دولة، وذلك بحسب تركيبة صادراتها ووارداتها. ودولة المغرب بالتحديد، يُفترض أن تكون في طليعة الدول المتأثّرة بهذه التطورات، حيث تشكّل المبادلات مع الاتحاد الأوروبي نحو 60% من مبادلاتها التجاريّة مع الخارج، فيما يقارب حجم الصادرات المغربيّة نحو الاتحاد الأوروبي نحو 15 مليار دولار. ويشير الخبراء المغاربة إلى أنّ انخفاض سعر صرف اليورو مقابل الدولار سيحمل تداعيات سيئة على الاقتصاد المغربي، لكون المغرب تقوم بتقاضي ثمن صادراتها باتجاه السوق الأوروبيّة باليورو، فيما تسدد ثمن معظم مستورداتها لدول العالم الأخرى بالدولار الأميركي (وخصوصًا بالنسبة إلى واردات الغاز والنفط والقمح). ولهذا السبب بالتحديد، من المتوقّع أن يؤدّي انخفاض قيمة اليورو مقابل الدولار إلى زيادة كلفة السلع المستوردة المقوّمة بالدولار الأميركي، مقابل تقلّص قيمة عوائد التصدير إلى الاتحاد الأوروبي المقوّمة باليورو، وهو ما سيعني زيادة فاتورة العجز التجاري وعجز ميزان المدفوعات.

مع الإشارة إلى أن عجز الميزان التجاري في المغرب كان قد ارتفع أساسًا بنحو 25% خلال العام الماضي، ليتجاوز حدود ال21.2 مليار دولار أميركي، نتيجة ارتفاع أسعار النفط العالميّة مقارنة بالعام السابق. ومن المتوقّع أن يرتفع هذا العجز بنسبة إضافيّة هذا العام، مع الزيادات التي طرأت مجددًا على سعر برميل النفط، بالإضافة إلى تراجع سعر صرف اليورو مقابل الدولار. مع الإشارة إلى أن الصادرات المغربيّة إلى أوروبا لن تتأثّر فقط من ناحية القيمة بفعل انخفاض سعر صرف اليورو، بل ستتأثّر أيضًا من حيث الحجم الكلّي، نظرًا لتراجع معدلات الاستهلاك في أوروبا بفعل الأزمة الاقتصاديّة هناك.

بدورها تبدو تونس والجزائر وليبيا مرشحة أيضًا للتأثّر سلبًا بهذه التطورات، وبنفس الطريقة. فتونس التي تعاني أساسًا من ضغوط اقتصاديّة قاسية، تصدّر للاتحاد الأوروبي ما تقارب قيمته ال10.7 مليارات دولار سنويًّا من السلع، التي يتم تسعير وسداد ثمن غالبيتها الساحقة باليورو. فيما يبلغ حجم صادرات الجزائر إلى دول الاتحاد الأوروبي نحو 21.3 مليار دولار، مقارنة بنحو 19.6 مليار دولار في حالة ليبيا. وهكذا، تقارب قيمة صادرات الدول الثلاث مجتمعةً (تونس وليبيا والجزائر) إلى دول الاتحاد الأوروبي نحو 51.6 مليار دولار. وقيمة هذه الصادرات ستكون معرّضة للانخفاض خلال الفترة المقبلة، إما بسبب انخفاض قيمة اليورو المعتمد لسداد ثمن غالبية السلع المصدّرة من هذه الدول، أو بسبب انخفاض حجم الصادرات نتيجة الأزمة الاقتصاديّة في أوروبا.

إستفادة دول الخليج

حتّى اللّحظة، يبدو أن دول مجلس التعاون الخليجي ستمثّل الطرف الأكثر استفادة من التطورات التي تحصل على الساحة الأوروبيّة. فصادرات هذه الدول تتركّز على النفط والغاز، والتي يتم تسعيرها وبيعها بالدولار الأميركي، ما يحيّد قيمة صادرتها عن أي آثار يمكن أن تنتج عن انخفاض سعر صرف اليورو. لا بل على العكس تمامًا، ستتمكّن هذه الدول من خفض فاتورة وارداتها، بالنظر إلى انخفاض أسعار السلع التي تستوردها من الاتحاد الأوروبي، والتي يتم تسعير معظمها باليورو. مع العلم أنّ دول مجلس التعاون الخليجي تمثّل رابع أكبر سوق يصدّر إليها الاتحاد الأوروبي سلعه، بقيمة صادرات سنويّة تتجاوز حدود ال100 مليار يورو.

بالإضافة إلى كلّ ما  ورد، ستتمكّن البورصات الناشطة في دول الخليج من الاستفادة من الرساميل المهربة من الاتحاد الأوروبي، نتيجة انخفاض معدلات الفوائد، وتراجع سعر صرف اليورو وتدهور الظروف الاقتصاديّة، خصوصًا أن دول مجلس التعاون الخليجي –وبخلاف الاتحاد الأوروبي- بادرت سريعًا إلى رفع فوائدها بما يتماشى مع زيادة الفوائد الأميركيّة. بمعنى آخر، ونتيجة رفع الفوائد في دول مجلس التعاون الخليجي، ستتمكن هذه الدول من الاستفادة من ظاهرة تهريب الرساميل من الاتحاد الأوروبي، تمامًا كما تستفيد الأسواق الأميركيّة حاليًّا من هذه المسألة. مع الإشارة إلى أنّ دول الخليج تمتلك أسواقًا ماليّة وبورصات ناشطة، ومنفتحة على حركة الرساميل العالميّة، كما ترتبط هذه الأسواق والبورصات بمشاريع محليّة ضخمة، وتستفيد من التدفقات الماليّة الناتجة عن تصدير النفط.

هكذا، وكحال أي تطوّر اقتصادي مفاجئ، يحمل انخفاض قيمة اليورو في الأسواق العالميّة نتائج إيجابيّة وسلبيّة متعددة، تختلف أشكالها من دولة إلى أخرى. فبينما يبدو من الواضح أن قيمة صادرات المغرب والجزائر وتونس وليبيا إلى الاتحاد الأوروبي ستتأثّر سلبًا، ما سيزيد من الضغط على اقتصادات هذه الدول المحليّة، فمن المؤكد أنّ دول مجلس التعاون الخليجي قد تجد في هذه التطورات فرصة على مستوى استقطاب الرساميل الأجنبيّة وتقليص كلفة الاستيراد. أمّا الأكيد، فهو أن جميع هذه الدول يُفترض أن تقرأ جيّدًا التحولات الكبيرة على مستوى الأسواق الدوليّة، لتتلائم سياساتها الماليّة والنقديّة مع التحديات المستجدة.