وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الانهيار المصرفي اللبناني: كيف تراكمت كتلة الخسائر؟

يتحمّل عموم المقيمين من أصحاب الدخل المحدود كلفة هذا الانهيار، من خلال تدهور سعر صرف العملة المحليّة وانخفاض قيمة أجورهم، وعدم قدرتهم على استعادة ودائعهم من النظام المصرفي المتعثّر.

الانهيار المصرفي اللبناني
أوراق نقدية لبنانية وهمية تحمل أرقامًا معدومة فقط وتقرأ “بنك الأحلام” في تركيب فني بعنوان “منهارة” للفنان اللبناني كارلو كسابيان يعكس انخفاض قيمة العملة، في نادٍ في بيروت في 8 مايو 2021. المصدر: ANWAR AMRO / AFP

علي نور الدين

بدأت منذ أيام النقاشات التمهيديّة بين صندوق النقد والوفد اللبناني المكلّف بالعمل على خطة الحكومة الماليّة، تحضيراً لجلسات المفاوضات بين الطرفين، التي يفترض أن تنطلق رسميّا خلال هذا الشهر. من حيث المبدأ، سيسعى لبنان من خلال هذه المفاوضات إلى الحصول على قرض من الصندوق تتجاوز قيمته الملياري دولار، فيما سيحاول الصندوق أن يفرض على الدولة اللبنانيّة مجموعة من الشروط والإصلاحات التي تكفل استعادة قدرة الدولة اللبنانيّة على الإيفاء بالتزاماتها في المستقبل، وبالتالي ضمان سدادها قيمة القرض للصندوق لاحقاً.

أهم المسائل التي سيفرض صندوق النقد التفاوض عليها ستكون ملف الخسائر المتراكمة داخل ميزانيّات النظام المصرفي اللبناني، الذي يشمل المصارف التجاريّة الخاصّة ومصرف لبنان معاً. بالنسبة للصندوق، لا يمكن للبنان أن ينطلق في مسار الخروج من الانهيار المالي إلّا بعد تحديد هذه الخسائر بشكل شفّاف والبدء بمعالجاتها، خصوصاً كونها تمثّل اليوم السبب الرئيسي لتعثّر النظام المالي اللبناني بأسره.

وهذا التعثّر هو ما يحول دون استقطاب التحويلات الماليّة من خارج لبنان لعدم وجود ثقة بالمصارف، وهو ما ضرب قدرة المصارف على سداد مستحقاتها للمودعين، كما مثّل سبباً رئيسياً لضرب سعر صرف الليرة. في المقابل، ومنذ بداية الانهيار المالي، خاضت المصارف اللبنانيّة ومصرف لبنان معركة التملّص من تحديد جميع هذه الخسائر دفعة واحدة، في محاولة لتقليص قيمة الاقتصاص التي ستلحق برساميل كبار المساهمين داخل النظام المصرفي.

ومع أهميّة هذا الملف، الذي سيحتل الجزء الأساسي من أي خطّة تعافي ماليّة مقبلة، ورغم جميع السجالات التي دارت حوله طوال السنة الماضية، مازال كثيرون داخل وخارج لبنان يجهلون تفاصيل هذه الخسائر وطبيعتها. مع الإشارة إلى أنّ ضرورة الحديث عن هذه الخسائر تنطلق من كونها أسّست لما بات يُصنّف كأكبر انهيار مصرفي في التاريخ الحديث.

فمن الناحية العمليّة، شهد العالم الكثير من الأزمات الاقتصاديّة والماليّة الشاملة التي شملت دول وأسواق ماليّة مختلفة، والتي تركت آثارها على معدلات البطالة ونسب النمو الاقتصادي وغيرها من المؤشّرات. لكن الحالة اللبنانيّة كانت استثنائيّة من حيث نوعيّة التعثّر المصرفي الذي ضرب النظام المالي بأسره، ومن حيث حجم الخسائر المصرفيّة قياساً بحجم الاقتصاد المحلّي وقيمة موجودات المصارف.

لكل هذه الأسباب، بات ملف الخسائر المصرفيّة اللبنانيّة يستحق الدرس من ناحية تعريف طبيعة هذه الخسائر، وطريقة تكوّنها والأسباب التي أدّت إليها، والدروس المستخلصة من جهة علاقة السياسات النقديّة والاقتصاديّة بسلامة النظام المصرفي، والمخاطر التي تطال المودعين فيه. كما ثمّة ما يستحق الدرس من ناحية تقاطع المصالح السياسيّة والماليّة التي منعت منذ العام 2019 عمليّة تحديد الخسائر ومعالجتها، وهو ما أدّى إلى تفاقم جميع تداعيات الانهيار المالي في البلاد.

جذور المشكلة في طبيعة النظام المالي

سنة 2019، سمع العالم بأسره بحصول انهيار مصرفي كبير ومفاجئ في لبنان، وخرجت إلى وسائل الإعلام مشاهد احتجاج المودعين على عدم السماح لهم بسحب دولاراتهم من المصارف اللبنانيّة، أو تحويلها إلى الخارج. لكن كما هو الحال في جميع الانهيارات الاقتصاديّة الكبرى، لم يكن هذا الانهيار المفاجئ سوى انكشاف لكتلة من الفجوات والثغرات التي تراكمت بصمت على مدى سنوات طويلة، قبل أن تنفجر في لحظة واحدة على شكل أزمة مصرفيّة ضخمة.

الحديث عن الخسائر، يستلزم أولاً العودة إلى السياسات النقديّة المتبعة في لبنان من التسعينات، التي قامت أساساً على تثبيت سعر صرف موحّد عند حدود ال1507.5 ليرة مقابل الدولار الواحد. وتثبيت سعر الصرف كان يعني عمليّاً الاعتماد على المصرف المركزي للتدخّل في سوق القطع، لبيع الدولار أو شراؤه عند اللزوم، من أجل الحفاظ على سعر الصرف هذا. لكن أهم ما في الموضوع، هو أن الدولارات التي يستخدمها المصرف المركزي للتدخّل ليست سوى العملة الصعبة التي أودعتها المصارف لديه، من أموال المودعين، والتي تمثّل ما يسمّى “احتياطات العملة الأجنبيّة” الموجودة بحوزة المصرف المركزي.

منذ التسعينات، كان النموذج يسر على ما يرام شكليّاً، بالتوازي مع تدفّق الدولارات من الخارج باتجاه المصارف اللبنانيّة، والتي كانت تتأتّى من الاغتراب اللبناني، والأجانب الذين أرادوا الاستفادة من طفرة المضاربات العقاريّة. وتلك المرحلة، كانت المصارف تستفيد من معدلات أرباح التي تمنحها للمودعين، مقارنة بالفوائد الرائجة في الخارج، لاستقطاب المزيد من التحويلات الخارجيّة. ولهذا السبب بالتحديد، لم تكن سياسة تثبيت سعر الصرف قد بدأت بالتسبب بأي متاعب للمصرف المركزي، بالنظر إلى حجم الدولارات التي كانت تتدفّق إلى السوق المحلّي، وتدعم سعر صرف الليرة.

لكن هذا النموذج الذي بدا في شكله طبيعيّاً ومستداماً، كان يراكم ألغامه التي ستنفجر في يومٍ ما. فطوال تلك السنوات، ونتيجة هذا النمط من العمليّات، تضخّم حجم المصارف اللبنانيّة قياساً بحجم الاقتصاد المحلّي بشكل غير طبيعي، لتتجاوز قيمة موجوداتها أخيراً ال4.4 مرّات حجم الناتج المحلّي، وهي نسبة مرتفعة جداً وغير منطقيّة بالنسبة إلى اقتصاد لا يملك قطاعات انتاجيّة قادرة على اقتراض هذه السيولة واستثمارها. وللتمكن من استثمار موجوداتها بشكل مربح ودفع الفوائد المرتفعة للمودعين، عمدت المصارف اللبنانيّة إلى تسليف 70% من هذه الموجودات للدولة اللبنانيّة ومصرف لبنان.

ومع الوقت، كان حجم المصارف يتضخّم بشكل غير صحّي، بالتوازي مع تضخّم حجم الدين العام الذي ارتفع حتّى تجاوزت قيمة ال171% من حجم الناتج المحلّي في الفترة التي سبقت الانهيار. باختصار، كل ما جرى كان يكوّن فقاعة كبيرة تحمل ألغامها التي كان لا بد أن تنفجر يوماً ما، خصوصاً بعد أن تجاوز حجم الدين العام المستوى المعقول الذي يمكن أن تتحمّل دولة كالدولة اللبنانيّة. هذا النموذج، كان يحمل في طيّاته أرباحاً ضخمة لأصحاب المصارف الذين استفادوا من العوائد المرتفعة لاستثمارات مصارفهم في الدين العام ومصرف لبنان، لكنّه كان في الوقت نفسه يضع أموال المودعين في مهب الريح.

بدايات الأزمة

الانهيار المصرفي اللبناني
أشخاص يتبادلون الليرة اللبنانية والدولار الأمريكي في السوق السوداء في العاصمة اللبنانية بيروت، 18 يونيو 2020. المصدر: JOSEPH EID / AFP)

يعتبر كثيرون أن انفجار الأزمة المصرفيّة على مصراعيها حصل في تشرين الأوّل 2019، لكن من الناحية العمليّة كانت كتلة الخسائر قد بدأت بالتكوّن قبل هذا التاريخ بأكثر من تسع سنوات، فيما ظلّت المسألة بعيدة عن الأنظار طوال هذا الوقت.

كما ذكرنا، قام النموذج المالي اللبناني منذ التسعينات على استقطاب التحويلات الخارجيّة لتمويل تثبيت سعر الصرف، وتضخيم الميزانيات المصرفيّة التي كانت تموّل بدورها طفرة وتضخّم الدين العام، فيما كانت تعتمد الدولة تسدد دفعات وفوائد هذا الدين من خلال الاستدانة مجدداً من المصارف.

لكن سنة 2011، حصل تحوّل كبير على مستوى النظام المالي، حيث بدأ ميزان المدفوعات اللبناني بتسجيل عجوزات متواصلة على مدى جميع السنوات اللاحقة، باستثناء العام 2016. مع الإشارة إلى أنّ ميزان المدفوعات يمثّل المؤشّر الاقتصادي الذي يلخّص صافي التحويلات الماليّة بين دولة معيّنة والخارج، على امتداد فترة زمنيّة معيّنة.

وبذلك، بدأ النظام المالي اللبناني يواجه أولى التحديات التي واجهت استمراريّة نمط استقدام التحويلات الخارجيّة لتمويل ثبات سعر الصرف والاستدانة، خصوصاً كون هذا العجز يعني أن حجم الدولارات التي تغادر النظام المالي اللبناني باتت أكبر من تلك التي ترد إليه.

في الحالات العاديّة، وبغياب سياسة تثبيت سعر الصرف، من المفترض أن يؤدّي عجز من هذا النوع إلى تدنٍّ محدود في سعر صرف العملة المحليّة، نتيجة تراجع كميات الدولار المتوفّر في الأسواق. وهذا الانخفاض في سعر صرف العملة المحليّة يجب أن يعيد التوازن إلى ميزان المدفوعات، بعد أن ترتفع قيمة السلع المستوردة ويتراجع الطلب عليها، ما يعني تراجع حجم التحويلات إلى الخارج.

لكن في حالة لبنان، وبوجود سياسة تثبيت سعر الصرف، كان عجز ميزان المدفوعات يعني استنزاف احتياطات مصرف لبنان في عمليات الدفاع عن سعر الصرف وتثبيته، عبر توفير الدولارات المطلوبة للتدخّل في السوق والتعويض عن السيولة التي خرجت من البلاد. وبما أن احتياطات المصرف المركزي من العملات الأجنبيّة هي عملياً أموال المودعين التي أودعتها المصارف في المصرف المركزي، فتبديد الاحتياطات كانت بداية تكوّن الخسائر داخل النظام المصرفي.

كتلة الخسائر بالأرقام

هكذا، تراكمت كتلة الخسائر داخل القطاع المصرفي –أي مصرف لبنان والمصارف معاً- بعيداً عن الأضواء بين عامي 2011 و2019، حيث مثّلت هذه الكتلة الفارق بين ما يترتّب على القطاع من التزامات لمصلحة المودعين بالعملات الأجنبيّة، وما تبقى من دولارات في القطاع المصرفي بعد أن تم تبديد جزء كبير منها في عمليات تمويل تثبيت سعر الصرف. أمّا تسارع تراكم الخسائر، فحصل تحديداً بين عامي 2015 و2019، حيث ارتفع العجز في صافي احتياطات العملات الأجنبيّة في المصرف المركزي من 1.9 مليار دولار سنة 2015، إلى أكثر من 55.5 مليار دولار سنة 2019. مع الإشارة إلى أن هذا العجز يمثّل الفرق بين التزامات وموجودات المصرف المركزي بالعملات الأجنبيّة. وهذا العجز، هو تحديداً حجم الخسائر التي طالت أموال المودعين في المصارف، التي تم إيداعها في المصرف المركزي.

في أواخر 2019، انفجرت أزمة السيولة على مصراعيها داخل المصارف اللبنانيّة، فاتخذت القرارات الشهيرة التي قضت بفرض قيود على السحوبات النقديّة والتحويلات إلى الخارج. وبما أن الدولة اعتمدت على المصارف من التسعينات للاستدانة لتمويل انفاقها وسداد سندات الدين المستحقّة، سرعان ما تلى تعثّر المصارف إعلان الحكومة في آذار 2020 التوقّف عن سداد سندات الدين السيادي المقومة بالعملة الصعبة. وبذلك، تفاقمت أزمة المصارف نفسها، نظراً لاستثمار المصارف 70% من موجوداتها عبر إقراض الدولة ومصرف لبنان، وهو ما حوّل الأزمة إلى انهيار مصرفي كبير.

وبسبب ارتباط سياسة تثبيت سعر الصرف بحجم الاحتياطات الموجودة في المصرف المركزي، والقابلة للاستخدام في تدخلات المصرف المركزي في سوق القطع، فقد مصرف لبنان منذ حصول الانهيار المالي القدرة على الحفاظ على سعر صرف الليرة. مع توقّف التحويلات من الخارج إلى المصارف، نتيجة فقدان الثقة بها، دخلت الليرة اللبنانيّة في دوامة من التدهور السريع. وهكذا، أطلقت أزمة المصارف العنان لأزمة نقديّة موازية.

التهرّب من تحديد الخسائر

تشير الأرقام الأخيرة إلى أن كتلة الخسائر في مصرف لبنان والمصارف التجاريّة معاً ارتفعت بحلول منتصف العام الحالي إلى نحو 77.88 مليار دولار، مع احتساب خسارة سندات اليوروبوند (سندات الدين السيادي بالعملة الأجنبيّة) التي تملكها المصارف ومصرف لبنان لقيمتها. ولفهم ضخامة هذا الرقم بالنسبة إلى دولة كلبنان، تكفي الإشارة إلى أنّه يوازي 2.3 مرّات قيمة الناتج المحلّي اللبناني.

الحكومة اللبنانيّة السابقة استعانت خلال العام الماضي باستشاري مالي أجنبي لإعداد خطّة ماليّة تفصّل هذه الخسائر، وتقترح إجراءات للتعامل معها. ومن هذه الإجراءات، تحميل جزء من الخسائر لرساميل المصارف نفسها، أي أسهم المساهمين فيها، على اعتبار أن أصحاب المصارف استفادوا منذ التسعينات من الفوائد الضخمة المتأتية عن استثمارات المصارف في الدين العام وودائعها في مصرف لبنان، وبحسب القاعدة التي تقول بأن هؤلاء يفترض أن يكونوا مسؤولين عن القرارات الاستثماريّة التي اتخذتها مؤسساتهم.

لكن محاولات الحكومة السابقة ذهبت أدراج الريح، وخصوصاً بعد أن تجنّدت الغالبيّة الساحقة من الكتل النيابيّة لرفض الخطة والحؤول دون تحديد هذه الخسائر بشكل واضح وصريح. والتهرّب من تحديد هذه الخسائر، يخفي في طياته حرص على تفادي معالجتها، مع كل ما تعنيه معالجة الخسائر من اقتصاص من رساميل وأسهم المصارف التي يملكها كبار النافذين في النظامين السياسي والمالي.

ببساطة، باتت إشكاليّة التعامل مع خسائر النظام المصرفي مرتبطة بإشكاليّة النخبة الماليّة والسياسيّة، التي ترفض اليوم تحمّل أي كلفة من أكلاف الانهيار المالي. وفي المقابل، يتحمّل عموم المقيمين من أصحاب الدخل المحدود كلفة هذا الانهيار، من خلال تدهور سعر صرف العملة المحليّة وانخفاض قيمة أجورهم، وعدم قدرتهم على استعادة ودائعهم من النظام المصرفي المتعثّر.