وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

ثمن السيطرة: الرئيس أردوغان وأزمة تركيا الاقتصادية

Turkey- Huber Mansion
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يصل إلى قاعة المؤتمرات في قصر هوبر في إسطنبول- تركيا في 31 مارس 2019، عقب الانتخابات المحلية. Photo AFP

لسنوات، اعتبر الكثيرون تركيا معقل القوة الاقتصادية في الشرق الأوسط وواحدة من أكثر الاقتصادات النامية إثارةً للإعجاب في العالم. ومع ذلك، في غضون أشهر انهار الاقتصاد يرافقه تضخمٌ هائل، فضلاً عن الإجراءات الحكومية العاجلة لتخفيف الضغط على المواطن العادي، ومع ذلك، لا دليل على عودة ثقة المستثمرين.

مشكلة التضخم

دخل الاقتصاد رسمياً في ركودٍ في نهاية عام 2018، وفقاً للمعهد الإحصائي في البلاد، حيث انخفض بنسبة 2,4% في الربع الأخير من العام. لم يكن هذا سوى التراجع الأحدث للاقتصاد، الذي يكافح منذ أوائل عام 2018. فقد دعم ذوق الرئيس رجب طيب أردوغان لمشاريع البنية التحتية باهظة الثمن وعالية المستوى الاقتصاد لسنوات، ولكن مع تزايد المخاوف بشأن الاستبداد المتزايد، فإن ثقة المستثمرين في تراجعٍ منذ عام 2016، مما يقوض الإستراتيجية المالية لأنقرة.

اندلعت الشرارة الحقيقية للأزمة الحالية في البلاد في عام 2018، ففي أغسطس، ووسط تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة بشأن احتجاز كاهنٍ أمريكي والعديد من المواطنين الأتراك الأميركيين رهائن في تركيا، إلى جانب دعوى قضائية أمريكية ضد بنك خلق التركي واثنين من المسؤولين التنفيذيين في المصرف، فرضت إدارة ترامب عقوباتٍ تجارية على تركيا.

أدت هذه الحرب التجارية إلى انخفاض بنسبة 40% في قيمة الليرة مقابل الدولار في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2018. رفع هذا بدوره من ثمن البضائع المستوردة، مما رفع من تكلفة المعيشة.

وعلى الرغم من نفور الرئيس منذ فترةٍ طويلة من رفع أسعار الفائدة- إذ يخشى على الأرجح من تأثير ذلك على جوهر عمل حزبه والقاعدة الإنتخابية للطبقة المتوسطة- في سبتمبر، رفع البنك المركزي أسعار الفائدة، مما جعل الاقتراض أكثر تكلفة. ونتيجةً لذلك، تباطأ الإنتاج الصناعي وانخفضت مبيعات السيارات والإسكان، مما ألحق الضرر بالعديد من القطاعات.

شكل هذا برمته تناقضاً ملحوظاً مع الطفرة الاقتصادية لسنوات أردوغان الأولى، والتي تمتع خلالها الاقتصاد بنمو سنوي يصل إلى 7%. وهو أمرٌ محزن بالنسبة للأتراك الذين عانوا من جراء الأزمة الاقتصادية التي نشأت، إذ كان من السهل تجنب شرارة هذه الأزمة – أي الخلاف مع واشنطن. ولسوء الحظ، يبدو أن المشاحنات الجيوسياسية المتصلبة لأردوغان كان لها عواقب غير مقصودة على مواطنيه.

اقتصاد أكشاك السوق

استجابةً للتضخم المتزايد (والغضب الشعبي الذي رافقه)، أنشأت الحكومة في فبراير 2019، أكشاك للخضراوات لبيع البقالة المدعومة. تهدف هذه الخطوة أيضاً إلى وقف تجار التجزئة، الذين أنحت الحكومة باللوم عليهم في ارتفاع الأسعار، حتى أن أردوغان وصفهم بـ”إرهابيي الطعام.” فقد أصبح كبش الفداء هذا سياسةً حكومية عندما يتعلق الأمر بمعالجة هذه الصعوبات الاقتصادية، حيث تلوم أنقرة تجار التجزئة، والقوى الأجنبية الخبيثة والمخربين الداخليين المحتملين. وبدلاً من ذلك، ألقى تجاز التجزئة باللوم على الطقس فضلاً عن ارتفاع سعر العمالة والنقل.

جذبت الأكشاك اهتمام وسائل الإعلام من جميع أنحاء العالم، لكنها أثبتت أيضاً أنها تحظى بشعبيةٍ كبيرة في الداخل. فعلى سبيل المثال، أحد الأكشاك في الساحة العامة الرئيسية في إسطنبول يخدم ما بين 3000 و4000 شخص يومياً، فأسعار الخضروات أقل بثلاثة أضعاف أسعارها في محلات السوبرماركت، على الرغم من أن الزبائن محدودون بشراء 3 كيلوغرام لكلٍ منهم.

وقبل الإنتخابات المحلية، رأى العديد في هذه الأكشاك وسيلةً ذكية للتحايل للفوز بالأصوات. فقد شكل التصويت في أواخر مارس اختباراً صعباً بالنسبة لحزب العدالة والتنمية الحاكم منذ فترةٍ طويلة بسبب الوضع الاقتصادي الهش.

ففي الفترة التي سبقت الانتخابات، أصبح الاقتصاد أكثر قضايا الناخبين إلحاحاً. يعكس هذا دلائل ضخمة مفادها أن الاقتصاد تغلب على صدارة سجل الحكومة المزعج في مجال حقوق الإنسان، وقبضة أردوغان المتشددة على السلطة، ومشاركة البلاد في الحرب في سوريا وموقف أنقرة الجيوسياسي المتعثر. فقد ذكر أحد استطلاعات الرأي أن أكثر من 63% من الناخبين قالوا إن وضعهم الاقتصادي قد ساء على مدار العام الماضي، مما أدى إلى زعزعة ولاء ناخبي حزب العدالة والتنمية الذين عرفوا عن أنفسهم (إذ قال 44% منهم إنهم لم يقرروا بعد من سينتخبون قبل الانتخابات). ستكون خسارة مناصب رؤساء البلديات في كلٍ من اسطنبول وأنقرة- اللتان تعدان حصون تقليدية لمناصري حزب العدالة والتنمية- ضربةً مؤلمة لأردوغان. وعلى الرغم من أن حزب العدالة والتنمية سيطر على المناطق غير الحضرية في تركيا، وفاز تحالفه مع حزب الحركة القومية بأكثر من 50% من الأصوات، إلا أن المدن تشكل قاعدةً أساسية للناخبين لأي حزب. ويبدو أن التباطؤ الاقتصادي في البلاد وسياسة حزب العدالة والتنمية المتزمتة قد أظهرت كعب أخيل لأردوغان.

لا ثقة في الملك

طوال هذه الفترة الصعبة، بدا المستثمرون وأسواق الأسهم متيقظين من تدخل الرئيس في الشؤون الاقتصادية بشكلٍ أكبر. فلدى أردوغان إيمانٌ طويل الأمد بمضار ارتفاع أسعار الفائدة، إذ على ما يبدو يرى فيها عقبةً أمام ازدهار المواطن التركي العادي. ومع بدء الشعور بتأثير العقوبات الأمريكية، تم النظر إلى هذا الاعتقاد على نطاقٍ واسع على أنه مزيدٌ من الإضرار بالاقتصاد. والأمر الأكثر إثارةً للقلق هو أن أردوغان لم يستجب تماماً لنصيحة جميع الاقتصاديين ومراقبي السوق، الذين دعوا إلى رفع أسعار الفائدة لدرء الركود. فقد أضعف هذا العناد ثقة المستثمرين في وقتٍ تحتاجه تركيا بشدة.

ومنذ تسلمه المنصب الرئاسي الذي منحه سلطاتٍ واسعة مؤخراً في عام 2018، منح أردوغان نفسه سلطة تعيين محافظ البنك المركزي، حيث تفادى الشخصيات التي كان ينظر إليها على أنها أكثر ملاءمةً للسوق، مما أقلق الأسواق الدولية على نحوٍ متزايد. كما عيّن أيضاً صهره وزيراً للمالية في يوليو 2018، وهو قرارٌ قوبل بردود فعلٍ متباينة من جانب المجتمع المالي العالمي.

وفي حين كان يُنظر إلى بيرات البيرق، الذي تلقى تعليمه في الولايات المتحدة، على أنه أكثر قدرة من الكثيرين في حزب العدالة والتنمية، إلا أن تعيينه يمثل تحصيناً لأردوغان، الذي عزز سيطرته الشخصية أو العائلية على جميع وظائف الدولة التركية تقريباً خارج الجيش. ومع ذلك، في الأشهر التسعة التي تلت ذلك، يبدو أن حضور البيرق لم يفعل الكثير من أجل تحقيق الاستقرار في الاقتصاد أو تخفيف سيطرة حماه على الشؤون المالية. فقد رفع البنك المركزي أسعار الفائدة في شهر سبتمبر، في تحدٍ مباشر لأردوغان، مما قدم بعض الطمأنينة بأن الضوابط والتوازنات الاقتصادية لا تزال قائمة.

الهجوم أفضل أشكال الدفاع

في مارس 2019، بدأت هيئات الرقابة المالية التركية تحقيقاً في بنك جيه بي مورغان الأمريكي بعد انخفاض الليرة بنسبةٍ تجاوزت الـ4%. فقد قالت هيئة الرقابة إنها تلقت شكاوى تزعم أن تقرير جيه بي مورغان كان “مضللاً” وأنه السبب الرئيسي للمضاربة في بورصة إسطنبول.

فقد كان الانخفاض بنسبة 4% أكبر تراجعٍ للعملة في يوم واحدٍ منذ أزمة العملة في أغسطس الماضي. أثار الانخفاض مخاوف من قيام الأتراك بشراء العملات الأجنبية مع انهيار الموقع الجيوسياسي لأنقرة وعلاقاتها مع الغرب.

تشير المؤشرات الاقتصادية إلى أن الأسوأ لم يأت بعد، حيث أن المستثمرين متقلبين، والمواطنين غاضبين والأعمال التجارية في سبات. ومع ذلك، كان رد الحكومة مروعاً: إنكار الاعتراف بالذنب والهجوم على أي معتدٍ محتمل. ومع استمرار توتر العلاقات مع الولايات المتحدة بسبب شراء معداتٍ عسكرية روسية، يعدّ البنك الأمريكي هدفاً جذاباً، خاصةً بالنظر إلى الإجراء القانوني الأمريكي ضد بنك خلق التركي.