وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

لمَ لا يقبل الفلسطينيون استلام عائداتهم الضريبية؟

Covid 19 Gaza
فلسطينيون من العاملين في القطاع العام يقفون في طوابير خارج أحد البنوك لتلقي رواتبهم في مدينة غزة في 1 سبتمبر 2020، وسط إغلاقٍ بسبب تزايد حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد. Photo: MAHMUD HAMS / AFP

بقلم نور عودة

قال منسق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط، نيكولاي ملادينوف، في خطابه أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 26 أكتوبر، إن الأزمة الاقتصادية التي تواجه الحكومة الفلسطينية تفاقمت بشدة بسبب رفضها تلقي عائدات الضرائب الفلسطينية التي تجمعها إسرائيل. وعليه، أعرب العديد من المسؤولين الدوليين عن نفس المشاعر ودعوا، سراً وعلانية، الحكومة الفلسطينية إلى قبول الأموال ببساطة.

تجمع إسرائيل عائدات الضرائب الفلسطينية نيابةً عن الحكومة الفلسطينية في ظل سيطرتها على جميع المعابر الحدودية إلى فلسطين، وتشمل هذه الرسوم الجمركية على البضائع المتجهة إلى الأسواق الفلسطينية، وضريبة القيمة المضافة، وضرائب الوقود وغيرها، وذلك وفقاً لاتفاقية مؤقتة موقعة تسمى بروتوكول باريس. كما تجمع إسرائيل الضرائب والرسوم الأخرى من الفلسطينيين في ما يسمى بالمنطقة ج، والتي تبلغ مساحتها 60% من الضفة الغربية المحتلة، لكنها امتنعت عن الإفصاح عن المبالغ التي تجمعها بالفعل منذ عام 2000، مما كلف الخزانة الفلسطينية خسائر لا تُعد ولا تُحصى.

لا تقدم إسرائيل هذه “الخدمة” بالمجان، إذ يتم تعويضها بسخاء بما نسبته 3% من إجمالي العائدات الضريبية المحصلة لتغطية التكلفة الإدارية. فقد قدر تقرير للبنك الدولي نُشر في عام 2016 أن الخزينة الفلسطينية تخسر 285 مليون دولار سنوياً من عائدات الضرائب المحصلة عند المعابر الحدودية وحدها، بما في ذلك ضريبة القيمة المضافة. يمثل هذا ما نسبته 2,2% من الناتج المحلي الإجمالي في فلسطين (2016). يشير التقرير نفسه أيضاً إلى أنه في عام 2014، كسبت إسرائيل 63 مليون دولار من رسوم تحصيل الضرائب الفلسطينية، والتي قامت بدورها بتمويل ما يقرب من ثلث ميزانية دائرة الجمارك وضريبة القيمة المضافة الإسرائيلية على الرغم من أن حصة الواردات الفلسطينية من إجمالي الواردات التي تتولاها إسرائيل تبلغ 6% فقط. آنذاك، تمثلت توصية المنظمة الدولية، والتي تجاهلتها إسرائيل، بخفض هذه الرسوم إلى 0,6% بدلاً من ذلك.

كان من المفترض أن تستمر هذه الاتفاقيات لمدة خمس سنوات إلى أن يتم التوصل إلى اتفاقٍ نهائي، إذ لم يكن القصد منها أبداً أن تكون تسويةً دائمةً لإخضاع الاقتصاد الفلسطيني لاقتصاد إسرائيل. علاوةً على ذلك، رفضت إسرائيل مراراً وتكراراً محاولات الفلسطينيين لإعادة التفاوض على بروتوكولات باريس.

ومن الجدير بالذكر أن العائدات الضريبية تموّل حوالي 70% من الميزانية الفلسطينية، ولهذا وصف البعض القرار الفلسطيني بالامتناع عن تلقي هذه الأموال بالانتحاري. لكن بغض النظر عن التحفظات، كان هذا القرار بلا شك سياسياً ومتوقعاً.

السياق السياسي هو المسار السريع لإسرائيل نحو الضم الرسمي للضفة الغربية المحتلة أو على الأقل لأجزاء كبيرة واستراتيجية منها. يقود نتنياهو، الذي تمت تقوية شوكته، حكومة تمخض اتفاق ائتلافها عن التزامٍ بالضم، بمباركةٍ كاملة من إدارة ترامب الأمريكية. في الواقع، تؤيد ما تسمى بخطة السلام الخاصة بإدارة ترامب ضم مساحاتٍ كبيرة من الأراضي الفلسطينية المحتلة ولا تقدم حتى للفلسطينيين وعداً لا بالسيادة أو حتى القدرة على البقاء كدولة. فقد تم تأييد هذا الطريق المسدود لحل الدولتين من خلال التوقيع الأخير على اتفاقٍ بين الولايات المتحدة وإسرائيل لتمديد التمويل الأمريكي للضفة الغربية المحتلة، فيما اعتبرته القيادة الفلسطينية اعترافاً استباقياً بالضم الرسمي.

Kerem Shalom crossing
شاحنة تحمل بضائع للفلسطينيين تصل إلى معبر كرم أبو سالم في جنوب قطاع غزة، 15 أغسطس 2018. Photo: SAID KHATIB / AFP

استغلت إسرائيل عائدات الضرائب الفلسطينية كأداةٍ للابتزاز السياسي والاقتصادي في عدة مناسبات. ففي عام 2011، جمدت إسرائيل تحويل عائدات الضرائب مرتين، بما في ذلك “كعقابٍ” على نجاح فلسطين في الحصول على العضوية الكاملة في اليونسكو، إذ ينتهك هذا السلوك الاتفاقات الموقعة والتزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي كقوة احتلال. ومع ذلك، تكرر الأمر مجدداً مع ترقية فلسطين إلى وضع دولة مراقب في الأمم المتحدة (نوفمبر 2012) والانضمام إلى نظام روما الأساسي (يناير 2015).

فقد وصل الاستغلال الإسرائيلي لعائدات الضرائب الفلسطينية إلى مستوياتٍ مؤلمة أخرى في فبراير 2019، عندما أعلنت الحكومة الإسرائيلية أنها ستحجب ما يقرب من 140 مليون دولار من الأموال الفلسطينية. كان هذا المبلغ مساوياً لما أنفقته الحكومة الفلسطينية على مدفوعات الضمان الاجتماعي السنوية لعائلات الأسرى والقتلى والجرحى الفلسطينيين من قبل إسرائيل. فقد كانت هذه المدفوعات جزءاً من الخدمات الاجتماعية الفلسطينية منذ عام 1969، أي قبل توقيع أي اتفاقياتٍ بين فلسطين وإسرائيل، كما استمرت بعد إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية لتصبح جزءاً من القانون الأساسي الفلسطيني. ومع ذلك، في عام 2018، أقر الكنيست الإسرائيلي ذو الأغلبية اليمينية قانونه الخاص الذي يحظر القانون الفلسطيني ويفرض “العقوبة” المالية. استثنى هذا التشريع الأموال المحولة إلى مقاصف مصلحة السجون الإسرائيلية، والتي تجني منها إسرائيل ملايين من الأرباح السنوية.

ومن المفارقات، أن لإسرائيل قانونها المماثل الخاص بها، حيث توفر للمقيمين والمواطنين في إسرائيل المعترف بهم “كأسرى صهيون” أو أقارب السجناء المذكورين أو أفراد عائلات الشهداء مزايا مالية.

اشتعلت القيادة الفلسطينية غضباً من هذا التدخل المباشر في الشؤون الفلسطينية الداخلية، ورفضت استلام عائدات الضرائب بأي اقتطاع لما له من تداعياتٍ سياسية خطيرة.

وعلى الرغم من أن هذه الأزمة حُلت بعد عدة أشهر مُضنيّة، إلا أن الصدمات الناتجة عن هذه العقوبات المالية أغرقت الاقتصاد الفلسطيني في عدة أزمات.

وبحسب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في فلسطين بأقل من 1% في عام 2019. وحتى قبل جائحة كورونا، كانت التوقعات للاقتصاد الفلسطيني في عامي 2020 و 2021 قاتمة، حيث من المتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي للفرد بنسبة 3% إلى 4,5%. وأشارت المنظمة الدولية إلى أن القيود الإسرائيلية و “تسرب الموارد المالية” إلى الخزينة الإسرائيلية بلغت 3,7% من الناتج المحلي الإجمالي أو 17,8% من إجمالي عائدات الضرائب قبل الخصومات التأديبية. وبلغ معدل البطالة 33% في عام 2019، بينما ارتفعت مستويات الفقر بشكلٍ حاد.

كانت هذه العواقب الوخيمة بمثابة تذكيرٍ صارخ للجمهور الفلسطيني وصناع القرار بأن قبضة إسرائيل على حياتهم واقتصادهم وفرص تطورهم مطلقة.

وفي مواجهة مأزقٍ سياسي متصلب، بما في ذلك الاحتمال الحقيقي لفقدان حل الدولتين صلاحيته أو أهميته، بدا خيار القيادة الفلسطينية واضحاً. ففي 19 مايو 2020، أعلنت القيادة الفلسطينية أنها ستعلق جميع علاقاتها مع إسرائيل، بما في ذلك التنسيق الأمني واستلام عائدات الضرائب. كانت الرسالة السياسية التي تم نقلها تنذر بالسوء: لن تستمر القيادة الفلسطينية في العمل كالمعتاد عندما تنفذ إسرائيل، وبدعمٍ من الولايات المتحدة، بشكلٍ علني ودون تحفظ أجندتها التوسعية وتتعهد بضمان عدم قيام دولة فلسطينية. كان على إسرائيل الاختيار: إما أن تسمح للحكومة الفلسطينية بالحكم دون عوائقٍ أو تدخل، أو أن تُعدَّ نفسها لتحمل جميع مسؤوليات سلطة الاحتلال.

كانت النتائج ساحقة، فبالإضافة إلى فقدان شريان الحياة المالي هذا، تواصل الحكومة الفلسطينية محاربة العواقب المدمرة لوباء كورونا المستجد. فقد وصل تحصيل العائدات الداخلية إلى أدنى مستوياته منذ عشرين عاماً، كما أن المساعدة المالية الدولية هي الأدنى منذ أكثر من عشر سنوات. بناءً على التوقعات، من المتوقع أن يكلف الوباء الاقتصاد الفلسطيني ما بين 7 إلى 35% من الناتج المحلي الإجمالي. ويتوقع البنك الدولي أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني بنسبة 8% هذا العام وتوافقه الحكومة الفلسطينية الرأي.

بالنسبة للقيادة الفلسطينية، ببساطة، من غير المعقول قبول الإذلال السياسي بأخذ أي عائداتٍ ضريبية تسمح بها إسرائيل مع تجاهل السياق السياسي الأوسع، الذي لا يقل عن كونه عقوبة إعدامٍ للحقوق الفلسطينية. فلا مفر من العواقب الاقتصادية القاسية لهذه الخطوة الفلسطينية، إذ لم يتقاضى ما يقرب من 200 ألف موظف مدني وأمني فلسطيني رواتبهم كاملةً منذ مايو 2020، مما قلل من القوة الشرائية وفرص الانتعاش الاقتصادي.

ومع ذلك، يصر صانعو السياسة الفلسطينيون على أن هذه الغصة المريرة أمرٌ محتوم، إذ يتوجب على المجتمع الدولي أن يفهم أن تحسين الظروف في ظل الاحتلال الدائم أمرٌ لا يمكن تحمله. الهدف هو التحرر من الاحتلال.

ودون إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ستستمر القيادة الفلسطينية في خوض أزمةٍ اقتصادية تلو الأخرى دون أي ملجأ. وعليه، تُشير القيادة الفلسطينية إلى تقديراتٍ متحفظة لدراسات دولية تكشف أن التكلفة القابلة للقياس للاحتلال الإسرائيلي على الاقتصاد الفلسطيني بين عامي 2000 و2017 بلغت 47,7 مليار دولار، أي ما يقرب من 330% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017.

بالنسبة للقيادة الفلسطينية، يعد قبول عائدات الضرائب من إسرائيل بينما تتعهد الأخيرة بالحفاظ على هذا الوضع الراهن البائس إذعانٌ للقهر الدائم. ببساطة، لا يستحق ذلك الارتياح المحدود والقصير الأجل الذي ستقدمه إلى حين ظهور الأزمة التالية. الرسالة الفلسطينية هي: الأزمة الاقتصادية ليست سوى مظهر مؤلم واحد من مظاهر الأزمة السياسية الأساسية، ألا وهو استمرار إنكار حق الشعب الفلسطيني في السيطرة على موارده كدولة ذات سيادة.