خالد محمود
لم يمنع الطموح الكبير للجزائر، التي احتفلت مؤخرا بمرور 60 عاما على انتهاء إرث الاستعمار الفرنسي الطويل، من محاولة وضع نفسها كمصدر رئيسي للطاقة إلى دول الاتحاد الأوروبي. لكن هذا الطموح لم يمنع الجزائر من الاصطدام المتكرر بفرنسا حول ملفاتٍ مختلفة، ابتداءً من الخلافات المرتبطة الدائرة حول كيفية التعامل مع المهاجرين، وصولا إلى ملف مكافحة الإرهاب والساحل الإفريقي بعد انسحاب فرنسا من هناك.
جرائم الاستعمار
احتفلت الجزائر يوم 19 مارس بمرور 60 عاماً على اتفاق وقف إطلاق النار مع فرنسا. الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون استغل هذه المناسبة للتأكيد على عدم تفريط بلاده في حقها حيال جرائم الاستعمار الفرنسي، مشدداً على أن هذه الجرائم “لن تسقط بالتقادم”.
وفي رسالة وجهها للشعب الجزائري، قال تبون: “إن ذلك اليوم بدأ فيه الجزائريون مجابهة آثار خراب شامل فظيع، يشهد على جرائمِ الاستعمارِ البشعةِ، التي لن يَطالَها النسيانُ ولن تَسقُطَ بالتقـادم”.
وفيما بدا بمثابة فاتورة باهظة لسنوات الاحتلال الفرنسي، أضاف: “سَنُواصِل بدون هوادة وبِلا تفريطٍ، استكمالَ مساعينا بالإصرار على حقِّ بلادنا في استرجاعِ الأرشيف، واستجلاءِ مصير المفقودين أثناء حرب التحرير الـمجيدة”. وقال “سنطالب بتعويضِ ضحايا التجارب النووية وغيرها من القضايا الـمتعلقة بهذا الملف من فرنسا”.
اللافت للانتباه أن كلام تبون الذي تشهد علاقات بلاده مع فرنسا توترا متقطعا منذ وصوله إلى الحكم، يضرب بعرض الحائط بتفاهمه السابق مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أجل “تهدئة ذاكرة الاستعمار الفرنسي وحرب الجزائر”.
وفي بيان أصدره قصر الاليزيه، قال ماكرون إنه “مستعدّ دائمًا للعمل على هذا الموضوع مع نظيره الجزائري، خصوصًا فيما يتعلّق بالبحث عن المفقودين وتأهيل المدافن الأوروبية في الجزائر”.
في السابق، اتهم ماكرون النظام “السياسي العسكري” الجزائري بانتهاج ما وصفه بسياسة “ريع الذاكرة” حول حرب الجزائر وفرنسا، على الرغم من “إقراره” بالفرنسيين الذين ولدوا في الجزائر خلال فترة الاستعمار ثم انتقلوا إلى فرنسا، وبـ “المجزرتين” اللتين حصلتا بعد توقيع اتفاقيات إيفيان التي انهت حرب الجزائر عام 1962.
عيد النصر
دام الاستعمار الفرنسي للجزائر بين عامي 1830 و1962. وتقول السلطات الجزائرية ومؤرخون إن هذه الفترة شهدت جرائم قتل بحق قرابة 5 ملايين شخص، إلى جانب حملات تهجير ونهب الثروات.
وبعد مفاوضات شاقة ومتعثرة طيلة عامين بين قيادة الثورة الجزائرية والحكومة الفرنسية، استمرت المحادثات بين ممثلي الطرفين في سويسرا وفرنسا، بالتزامن مع تصعيد جيش التحرير الوطني من عملياته النوعية، على جميع الأصعدة، لإجبار حكومة فرنسا على العودة إلى طاولة المفاوضات
المفاوضات التي عقدها الطرفان بين 7 و18 مارس 1962 قادت إلى توقيع اتفاقيات “إيفيان” والإعلان عن وقت إطلاق النار وإقرار مرحلة انتقالية يتبعها إجراء استفتاء تقرير المصير.
ونصت الاتفاقيات على اعتبار يوم 19 مارس 1962 تاريخ وقف إطلاق النار عبر كامل التراب الجزائري، لتبدأ بعدهما عملية استفتاء، أعلنت نتائجها صباح يوم 3 يوليو من نفس العام، تصويت الأغلبية الساحقة بنعم لصالح الاستقلال التام عن فرنسا.
في رسالته المعنونة سياسة الاحتلال الفرنسي للجزائر(1830 -1954)، يضع عقيلة ضيف الله من معهد العلوم السياسية والعلاقات الدولية، عدة أسباب اقتصادية وسياسية وثقافية دفعت فرنسا إلى احتلال الجزائر.
وقال إن المتمعن في تاريخ فرنسا خلال القرن التاسع عشر، يدرك خطط احتلالها للجزائر وإن تفكير الملوك والقادة الفرنسيين في ذلك سابق على أحداث عام 1830.
إشكاليات الماضي
بيد أن الثنائية الفرنسية – الجزائرية، كما يقول سليم حميدانى في دراسته يشوبها شيء من الحنين إلى الماضي من الجانب الفرنسي، ونضال من أجل إثبات الندية من الطرف الجزائري.
العقود التي تلت استقلال الجزائر عكست حسًا شعبيًا معاديًا لفرنسا الاستعمارية، وهو الحس الذي حاول الساسة الجزائريون استثماره في إدارة العلاقات بني الدولتين، والحصول على قدر من المكاسب باللعب على وتر الماضي في الخطاب الداخلي ورغبة في تجاوز ذلك الماضي في بناء العلاقات مع فرنسا.
واستقبلت الجزائر قبل عامين رفات 24 مقاتلا قتلوا في السنوات الأولى للاستعمار الفرنسي. وبعد مرور 170 سنة على وجود هذه الرفات في متحف الإنسان بباريس، وافقت فرنسا على تسليمها للجزائر.
وطلبت الجزائر، التي تجادل بأن فرنسا لا تقوم بما فيه الكفاية لتسوية ماضيها الاستعماري، رسميا للمرة الأولى مطلع عام 2018 إعادة الجماجم وسجلات من الأرشيف الاستعماري.
وتريد السلطات الجزائرية أن تطرح ملف “المفقودين” أثناء حرب الاستقلال (1954-1962) البالغ عددهم أكثر من 2200 وفقا للجزائر، وأيضا الملف الخاص بالتجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية “التي أوقعت ضحايا وما زالت”، وفق ما تقول.
ووفقاً لتقرير بشأن قضايا الذاكرة المتعلقة بالاستعمار وحرب الجزائر تسلمه ماكرون مطلع عام 2021، فإنه حرية العقل والبحث التاريخي يمثلان حلا لا غنى عنه لإخماد نيران الذاكرة الملتهبة، سيما لدى الشباب.
لكن ذلك لم يمنع الباحثة حميدة ابتسام من الإشارة في مذكرتها المعنونة “المهاجرون الجزائريون بفرنسا ونشاطهم تجاه الثورة الجزائرية”، من الإشارة إلى أن الثورة تمكنت من ضرب فرنسا في عقر دارها وتخريب اقتصادها. وأدت الثورة الجزائرية إلى إضعاف ميزانية فرنسا وشل اقتصادها بسبب نفقاتها الباهظة والخسائر التي تكبدتها، ما كان له الأثر البالغ بالتعجيل بالمفاوضات والاستقلال.
ملف المهاجرين
التوتر الذي يسود علاقات الجزائر مع باريس، يبدو أيضا مرتبطا بالحملة الانتخابية الرئاسية في فرنسا وسعي ماكرون لكسب الشعبية وود اليمين المتطرف لاستقطاب الناخبين.
وبينما يتواجد نحو 5 ملايين مهاجر جزائري أو أصوله جزائرية في فرنسا، مشكلين بذلك الجالية الأضخم عددا والأهم من نوعها لبلادهم في العالم، فقد فجرت قضية التصاريح القنصلية لإعادة المهاجرين الجزائريين غير النظاميين خلافا حادا بين باريس والجزائر، بعد قرار فرنسي بتقليص عدد التأشيرات.
وبررت فرنسا تشديد شروط منح التأشيرات لمواطني الجزائر والمغرب وتونس برفض هذه الدول الثلاث الالتزام بإعادة مهاجرين غير نظاميين متواجدين في فرنسا.
وقرر ماكرون تقليص التأشيرات الممنوحة للجزائريين عام 2019 لوقف تدفق الهجرة غير النظامية، حيث انخفض بالفعل منذ 2018 عدد التأشيرات الممنوحة للرعايا الجزائريين من أصل 504 آلاف طلب تأشيرة عام 2019، إلى 274 ألف طلب، علما بأن القنصليات الفرنسية الثلاث بالجزائر منحت 412 ألف تأشيرة في 2018 التي ارتفع فيها عدد الطلبات إلى نصف مليون.
وطبقا لمدير الهجرة السابق بوزارة الداخلية الجزائرية حسان قاسيمي، فإن باريس تستخدم هذا الملف لابتزاز ومساومة الجزائر، لافتا في حديث لوكالة “الأناضول” التركية للأنباء إلى أن فرنسا “تحاول في كل مرة أن تضغط على الجزائر بملف التنقل والتأشيرات أحيانا لأسباب اقتصادية وأخرى سياسية”.
وفقا لإحصائية قدمها قاسم، فإن أجهزة الأمن الجزائرية تمنع سنويا 40 ألف مهاجرا غير شرعي ينتمون إلى 23 جنسية من الهجرة إلى أوروبا، بينما يؤكد وزير الداخلية الجزائري السابق نور الدين بدوي أن الجزائر تشهد ما معدله 500 محاولة دخول إلى حدودها الجنوبية يوميا من قبل المهاجرين غير الشرعيين.
طموح الغاز في الأزمة الأوكرانية
في خضم المخاوف من تأثير الغزو الروسي لأوكرانيا على موارد الطاقة بأوروبا، أعربت مجموعة النفط والغاز الجزائرية (سوناطراك) عن استعدادها لتزويد القارة بكميات إضافية من الغاز عبر أنبوب الغاز الرابط بين الجزائر وإيطاليا في حال تقلصت الصادرات الروسية.
وأعلن توفيق حكّار المدير التنفيذي للمجموعة الجزائرية للنفط والغاز استعدادها لتزويد دول أوروبا بكميات إضافية من الغاز عبر أنبوب الغاز الرابط بين الجزائر وإيطاليا، في حال تقلصت الصادرات الروسية بسبب الحرب في أوكرانيا.
لكن عبد المجيد عطّار وزير الطاقة السابق الذي سبق أن أدار مجموعة سوناطراك، أبلغ مؤخرا وكالة الأنباء الفرنسية أنه لا يمكن للجزائر أن تعوض وحدها الانخفاض في إمداد الغاز الروسي.
ويتطابق هذا الرأي مع ما خلص إليه من خبير مصري، من أن الجزائر لا يمكنها تعويض أوروبا عن الغاز الروسي.
بحسب الدكتور سامح نعمان أستاذ الهندسة المصري، فإن الجزائر التي تغذي إسبانيا وبلغاريا بنحو 60% من الغاز اللازم لهما، لا تستطيع – توفير إمدادات إضافية إلى أوروبا، لأنها -أيضًا- ملتزمة بعقود آجلة، ولكنها قد تستطيع رفع إنتاجها خلال العام المقبل، وتوفير إمدادات إلى أوروبا، مؤكدا أنها مع ذلك لن تغطي نسبة الـ45% التي توفرها روسيا.
خلاف مع إسبانيا
لكن أنبوب الطاقة يصطدم أيضا بجدل بين الجزائر وإسبانيا وملامح أزمة دبلوماسية جديدة، على خلفية إعلان وزارة الخارجية الجزائرية استدعاء سفيرها لدى إسبانيا للتشاور حول “تصريحات مفاجئة للسلطات العليا في إسبانيا بشأن قضية الصحراء الغربية”. ويتزامن الموقف الجزائري مع تحرك إسبانيا والمغرب لحل خلاف دبلوماسي بينهما بالخصوص.
ونقلت وكالة رويترز عن مصدر حكومي إن إسبانيا أبلغت الجزائر بموقفها “فيما يتعلق بالصحراء الغربية”، واعتبر أنه “بالنسبة لإسبانيا، تعد الجزائر شريكا استراتيجيا وموثوقا ويحظى بأولوية ونعتزم الحفاظ على علاقة مميزة معه”.
وردا على تلقي المغرب رسالة تعتبر فيها إسبانيا مبادرته للحكم الذاتي عام 2007 “الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف”، وصف مصدر دبلوماسي جزائري الموقف الجديد لإسبانيا تجاه الصحراء الغربية بأنه “خيانة للشعب الصحراوي”، واعتبره تحولا “غير متوقع” عن موقفها المحايد السابق الذي كان داعما لخطة الأمم المتحدة الكفيلة بإجراء استفتاء لتقرير المصير.
وطبقا لمحللين فقد تميزت العلاقات الجزائرية الإسبانية بالهدوء منذ عقود، خاصة أن مدريد تعتمد بشكل كبير على الغاز الجزائري، ما جعلها بمنأى عن أزمة الغاز العالمية الناتجة عن غزو روسيا لأوكرانيا.
وخلال العام الماضي، زودت الجزائر إسبانيا بأكثر من 40% من الغاز الطبيعي الذي استوردته ويصل معظمه إليها عبر خط الأنابيب العابر للبحر المتوسط “ميدغاز”، بطاقة 10 مليارات متر مكعب في السنة. ويزود هذا الأنبوب البرتغال بالغاز أيضا.
وحتى أكتوبر 2021، كانت إسبانيا والبرتغال تتلقيان جزءًا من الغاز الجزائري عبر خط أنابيب يعبر المغرب، لكن الجزائر توقفت عن استخدامه بعد قطع العلاقات مع الرباط في أغسطس من العام نفسه.
ولأن الجزائر مورد رئيسي للغاز لكل من إسبانيا وإيطاليا، فقد أجرى وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو زيارة مؤخراً إلى الجزائر لطلب زيادة إمدادات الغاز لتعويض تراجع محتمل من الجانب الروسي.
وصرح دي مايو للصحافيين أن حكومته “ملتزمة بزيادة إمدادات الطاقة وخاصة الغاز من مختلف الشركاء الدوليين، بما في ذلك الجزائر، التي لطالما كانت مزودا موثوقا”.
وكان رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي قد أكّد اعتزام بلاده تنويع مصادر الطاقة لديها “في أسرع وقت” لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي، علما بأن إيطاليا التي تستورد نحو 95% من الغاز الذي تستهلكه، هي من أكثر الدول الأوروبية اعتمادًا على الغاز الروسي.