إن الديناميكيات الجيوسياسية التي تتدخل فيها القوى الإقليمية تضيف طبقات من التعقيد إلى عمليات البنك المركزي الليبي. وفي غياب إطار سياسي متماسك، قد يظل الاستقرار الاقتصادي في ليبيا وفعالية البنك المركزي في حالة من الهشاشة.

علي نور الدين
بحلول 9 تشرين الأوّل/أكتوبر 2024، كانت معدلات إنتاج النفط في ليبيا قد عادت إلى سابق عهدها بحسب أرقام المؤسسة الوطنيّة للنفط، وذلك بعد إعادة فتح جميع الحقول وموانئ التصدير، وإنهاء “القوّة القاهرة” التي أقفلت معظمها لأكثر من شهر ونصف. هذه “القوّة القاهرة”، لم تكن سوى الخلاف السياسي الحاصل حول إدارة المصرف المركزي اللّيبي، بين حكومتي شرق وغرب ليبيا، والتي جرى حلّها بوساطة من الأمم المتحدة عبر تعيين محافظ جديد.
غير أن التوافق على المحافظ الجديد –على أهميّته- لم يعالج أبرز التحديات التي تحيط بعمل المصرف المركزي، وخصوصًا تلك الناتجة عن الانقسام السياسي والخلاف حول مرجعيّة السلطة الحاكمة في البلاد. فلغاية 13 تشرين الأوّل/أكتوبر 2024، لم يكن أكثر من 2.5 مليون موظّف حكومي قد تقاضوا رواتب الشهر السابق بعد، لأسباب إداريّة وبيروقراطيّة.
وخلال الفترة عينها، كان سعر الدينار اللّيبي في السوق الموازية قد بلغ 8 دنانير مقابل الدولار، مقارنة بالسعر الرسمي البالغ 4.7 دينار. وهذا ما يشير إلى نوعيّة المشاكل التي ستضطرّ القيادة الجديدة للمصرف للتعامل معها.
خصوصيّة الخلافات حول المصرف المركزي اللّيبي
في الحالة الطبيعيّة، تضطلع المصارف المركزيّة بمهمّة إدارة السياسة النقديّة والرقابة على النظام المالي، بما يتناسق مع السياسات الماليّة وأوامر صرف الأموال العامّة التي تختصّ بها الحكومات وحدها. لكنّ الوقائع المتصلة بالمشهد السياسي اللّيبي فرضت على المصرف المركزي هناك وضعيّة استثنائيّة، لكونه المتسلّم القانوني الوحيد لعائدات النفط، أمام حكومتين تتنازعان شرعيّة الحكم. مع الإشارة إلى أنّ العائدات النفطيّة شكّلت وحدها 96.7% من مصادر تمويل الإنفاق العام في البلاد.
بهذا المعنى، بات الصراع على المصرف المركزي وإدارته، بين الجماعات المسلّحة ذات الولاءات والمصالح المتنوّعة، يجسّد الصراع على الإيرادات النفطيّة نفسها. وعلى الرغم من تسابق هذه الجماعات المسلّحة للسيطرة على حقول النفط، للتحكّم بعمليّاتها اليوميّة، ظلّت إدارة المصرف المركزي المفتاح الرئيس للتحكّم بالأموال العامّة وتلبية أوامر الصّرف الصادرة عن الحكومتين في شرق وغرب البلاد.
ومن هذه الزاوية تحديدًا، يمكن فهم إعلان الحكومة المتمركزة شرقي ليبيا في بنغازي –برئاسة أسامة حماد- عن إغلاق جميع حقول النفط الواقعة تحت سيطرتها في 26 آب/أغسطس 2024، ردًا على عزل المحافظ السابق للبنك المركزي الصديق الكبير، من قبل المجلس الرئاسي المتمركز في طرابلس غرب البلاد. وبعد أيّام من الاضطرابات التي صاحبت عزله، أعلن الصديق الكبير اضطراره لمغادرة البلاد مع أعضاء آخرين من كبار موظفي المصرف، خشية تعرّضهم لهجمات من الجماعات المحليّة المسلّحة في غرب ليبيا.
بهذا الشكل، رفضت حكومة حمّاد في شرق البلاد ضخ النفط، دون الوصول إلى تسوية تضمن تأثيرها في إدارة العائدات النفطيّة. وهذا ما أشارت إليه هذه الحكومة بصريح العبارة في بيان تعليق الأنشطة النفطيّة، الذي برّر القرار بـ “الحفاظ على قوت اللّيبيين وأموالهم واحتياطاتهم لدى مصرف ليبيا المركزي”، بالإضافة إلى “ما سيجري تحصيله من إيرادات النفط”. ومنذ تلك اللّحظة، انخفض إنتاج البلاد النفطي اليومي من 1.2 مليون برميل إلى 450 ألف برميل فقط، بالنظر إلى تواجد معظم حقول البلاد النفطيّة في شرق ليبيا.
كل هذه التطوّرات، كانت نتيجة بديهيّة لتدهور علاقة المحافظ المعزول الصديق الكبير مع حكومة الوحدة الوطنية المؤقّتة التي يرأسها عبد الحميد دبيبة، والتي تحكم من طرابلس في غرب البلاد. وهذه الخلافات، ترتبط بدورها بحصّة الحكومة من أموال المصرف المركزي، وبقدرتها على إصدار أوامر الصرف، الكفيلة بكسب ولاءات الجماعات المسلّحة في طرابلس. وفي مقابل إصرار دبيبة على “الإفراج” عن الأموال التي يطلبها، وجّه الصديق الكبير انتقادات علنيّة لاذعة لتزايد نفقات دبيبة الحكوميّة، الموجّهة للاستهلاك على حساب “الإنفاق التنموي”.
أمام هذه الخلافات العميقة، أصدر المجلس الرئاسي –المتحالف مع دبيبة في غرب البلاد- قرار عزل الصديق، وهو ما أشعل الخلاف مع حكومة بنغازي في الشرق والجماعات المسلّحة التي تدور في فلكها. وكان إقفال حقول النفط الشرارة التي دفعت الأمم المتحدة للتدخّل وحلّ المسألة، بتسوية ضمنت تأثير جميع الأطراف في تعيين القيادة الجديدة للمصرف المركزي.
تحديات كبيرة ومستمرّة
في خلاصة الأمر، أفضت التسوية إلى تعيين ناجي محمّد عيسى بلقاسم، باتفاق السلطات في شرق البلاد وغربها. ويُعتبر بلقاسم من الشخصيّات التكنوقراطيّة المتمرّسة في إدارة المصرف المركزي اللّيبي، إذ عمل سابقًا كمستشار للمحافظ السابق المعزول، فضلًا عن عمله كمدير لإدارة الرقابة على النقد والمصارف، وإدارة الدراسات والبحوث في المصرف. ولذلك، من المفترض أن يكون بلقاسم ملمًا بطبيعة التوازنات السياسيّة الشائكة والمعقّدة، التي تحكم عمل المصرف اليوم بوجود مرجعيّتيَن للحكم في الشرق والغرب، وتحت تأثير جماعات مسلّحة تسيطر على حقول النفط في المنطقتين.
وعلى الرغم من كونه شخصيّة “وسطيّة” اتفقت عليها المكوّنات السياسيّة المحليّة، سيكون أمام بلقاسم جملة من التحديات التي لا يفترض أن تكون في العادة جزءًا من مهام أي مصرف مركزي طبيعي. وأولى هذه التحديّات ستكون توزيع عائدات النفط على المناطق المختلفة بشكلٍ منصف، في ظل انقسام السلطات التنفيذيّة التي تتلقّى هذه الأموال. وهذا ما سيفرض على المصرف المركزي أن يلعب دورًا يُفترض أن يكون من صلاحيّات وزارة الماليّة، التي يجب أن تنظّم الإنفاق بحسب الموازنات السنويّة التي يقرّها مجلس النوّاب.
التحدّي الآخر، والذي لا يقل أهميّة، سيكمن في استئناف التدفّقات الماليّة المستدامة الواردة إلى حسابات المصرف المركزي، من عمليّات تصدير النفط اللّيبي. وهذا سيستلزم حتمًا استقرار عمليّات إنتاج النفط الحاليّة، التي استعادت عافيتها بعد تعيين بلقاسم، دون أن تتأثّر بأي خلافات سياسيّة أو اضطرابات أمنيّة مستقبليّة. ومن المعلوم أنّ الجماعات المسلحّة المحليّة لطالما لجأت إلى استخدام سلاح إقفال حقول النفط، لفرض مطالبها وشروطها على السلطات السياسيّة المنقسمة أساسًا بين شرق البلاد وغربها.
وعلى المدى القصير أيضًا، سيكون على بلقاسم التعامل مع الأزمات الإداريّة الناتجة عن مغادرة القيادة السابقة –وكبار الموظفين- في المصرف المركزي في ظروف شائكة، دون تسليم الصلاحيّات بشكل تقليدي. وهذا ما فرض مؤخرًا امتناع المصرف عن صرف مستحقّات موظفي القطاع العام، بسبب إعادة تنظيم الإجراءات الماليّة والإداريّة الداخليّة. كما ساهم توقّف إنتاج النفط في ليبيا في خلق أزمة سيولة خانقة، بسبب شح تدفّقات العملة الصّعبة، وهو ما أدّى إلى الضغط على سعر الدينار اللّيبي في السوق الموازية.
على المدى الأبعد، ستحتاج قيادة المصرف المركزي الجديدة إلى الحفاظ على وحدة مؤسستها، ومنع العودة إلى سيناريو انقسام المصرف إلى كيانين في شرق البلاد وغربها. فتجربة توحيد المصرف المركزي حديثة جدًا، وتعود إلى شهر آب 2023، عندما تمّ دمج مؤسسات المصرف تحت إدارة واحدة، بعد انقسامها في فرعين –شرق وغرب ليبيا- منذ العام 2014. وبعد الخلاف الأخير حول قيادة المصرف، يخشى كثيرون العودة إلى مرحلة “الانقسام النقدي”، الذي يُنذر بعواقب خطيرة على مستوى استقرار وانتظام العمل المصرفي، والثقة بالعملة المحليّة.
دور التدخلات الخارجيّة
العامل المؤثّر في كل هذه التحديات، سيرتبط بدور التدخلات الإقليميّة. فالجزائر لا تزال حتّى اليوم ثابتة عند موقفها الداعم لحكومة غرب ليبيا، بما يشمل التنسيق المخابراتي والتدريب العسكري. وهذا التوجّه الجزائري مرتبط بالحرص على إبعاد قوّات اللّواء خليفة حفتر، الداعمة لحكومة أسامة حماد شرق البلاد، عن حدود الجزائر الشرقيّة.
وفي المقابل، تتجه مصر لتبنّي توجّه براغماتي داعم لحكومة حماد، مقابل حصول الشركات المصريّة على عقود إعادة الإعمار في المناطق المتضرّرة من عاصفة “دانيال”. كما تواظب روسيا أيضًا على الاحتفاظ بعلاقة مميّزة مع قوّات حفتر، سعيًا وراء عقود استثمار الحقول النفطيّة في شرق ليبيا. وأمام هذا الواقع، تحرص الولايات المتحدة على إبقاء تدخّلها محكومًا بأهداف تطويق النفوذ الروسي مهما كان الثمن، ولو على حساب الضغط على المصرف المركزي اللّيبي، المربوط بالتداولات بالدولار الأميركي.
لكل هذه الأسباب، ستبقى التدخلات الخارجيّة عاملًا مساعدًا على استدامة واستطالة الأزمة السياسيّة اللّيبيّة، التي ستنعكس بدورها على عمل المصرف المركزي. وهذا ما سيعني اضطرار المصرف المركزي إلى مواءمة عمليّاته وخططه مع هذا الانقسام السياسي على المدى المتوسّط، لتخفيف أضرارها على التوازنات النقديّة والماليّة في البلاد.
أمّا الضغوط الخارجيّة الأميركيّة، في مقابل علاقة روسيا بحفتر شرق البلاد، فستشكّل إشكاليّة دائمة بالنسبة للمصرف المركزي، بانتظار توحيد المؤسسات السياسيّة اللّيبيّة تحت قيادة قادرة على وضع سياستها الخارجيّة المتوازنة والمستقلّة.