وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تفاقم الأزمة النقدية في المنطقة العربيّة

يخشى الكثيرون من إمكانيّة تكرار السيناريو اللّبناني في العديد من الدول العربيّة بسبب تفاقم الأزمة النقدية.

الأزمة النقدية المنطقة العربيّة
صراف يعد الأوراق النقدية في متجره بالعاصمة اللبنانية بيروت. انور عمرو / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

أزمة الديون الخارجيّة في المنطقة العربيّة

منذ العام 2021، والبنك الدولي يحذّر من تضخّم الديون الخارجيّة المترتبة على الدول المستوردة النفط في المنطقة العربيّة، والّتي ارتفعت لتوازي نحو 93% من ناتجها المحلّي في ذلك الوقت.

إلا أنّ العام 2022 حمل معه العديد من التطوّرات الّتي فاقمت من أثر هذه الديون السلبي على دول المنطقة وشعوبها، فيما تشير جميع المعطيات الاقتصاديّة إلى أنّ العام 2023 سيحوّل الكثير من هذه الديون إلى أزمة قد تعجز بعض الدول عن التعامل معها.

أمّا ما يخشى منه كثيرون، فهو إمكانيّة تكرار السيناريو اللّبناني في العديد من الدول العربيّة، نتيجة تقاطع أزمة الديون مع أزمات أخرى، كالشّح في تدفّق التحويلات الخارجيّة وتراجع احتياطات النقد الأجنبي وغيرها.

تفاقم الديون وتراجع النشاط الاقتصادي

بدأت أزمة الديون الخارجيّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ العام 2020، وذلك حين أدّى تفشّي وباء كورونا إلى تراجع حجم الناتج المحلّي في هذه الدول مجتمعة من 3.47 ترليون دولار عام 2019 إلى 3.12 ترليون دولار عام 2020. بمعنى أوضح، خسرت دول المنطقة بين العامين ما يقارب ال350 مليار دولار من حجم اقتصاداتها، نتيجة موجات الإقفال الشامل الّتي تمَّ فرضها خلال تفشّي الوباء.

وخلال السنة نفسها، شهدت دول المنطقة تراجعًا في حجم التحويلات الواردة إليها من الخارج، من 59.63 مليار دولار عام 2019، إلى 53.42 مليار دولار عام 2020. وهذا التراجع، عكس بدوره انخفاض مستوى النشاط الاقتصادي في الدول التي يعمل فيها المغتربون نتيجة تفشّي الوباء، ما أدّى إلى تراجع التحويلات التي أرسلوها إلى بلدانهم.

هذا الواقع وضع حكومات الدول المستوردة النفط، الّتي لا تستفيد من عائدات تصدير الثروات الطبيعيّة، أمام أزمتين في الوقت نفسه: انخفاض الإيرادات الضريبيّة نتيجة تراجع النشاط الاقتصادي، وانخفاض احتياطاتها من العملات الأجنبيّة نتيجة تراجع التحويلات الواردة من الخارج.

وكما هو معلوم، غالبًا ما يؤدّي الشَّح في احتياطات العملات الأجنبيّة إلى تراجع موازٍ في أسعار صرف العملات المحليّة، نتيجة عدم توفّر العملة الصّعبة المطلوبة لتمويل الاستيراد. أما انخفاض الواردات الضريبيّة، فأدّى إلى ارتفاع نسبة عجز ميزانيّات دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من 3.8% من الناتج المحلّي سنة 2019، إلى 10.1% سنة 2020.

بالنتيجة، لم يكن أمام دول المنطقة العربيّة إلا اللّجوء إلى خيار الاقتراض الخارجي خلال عامي 2020 و2021، للتمكّن من تعويم ميزانيّاتها وتغطية كلفة شبكات الحماية الاجتماعيّة، الّتي احتاجتها بشدّة خلال فترة تفشّي الوباء، والحصول على العملة الصّعبة لتغطية العجز في ميزان المدفوعات.

وبحلول العام 2022، كان إجمالي ديون الحكومات العربيّة مجتمعة قد تخطّى حدود ال1.5 ترليون دولار، نتيجة كل هذه التطوّرات. مع الإشارة إلى أن مصر كانت صاحبة أكبر دين حكومي من بين كل هذه الدول، إذ تخطّى حجم ديونها حدود ال409.5 مليار دولار، بنسبة تتجاوز ال94% من حجم ناتجها المحلّي. أمّا من حيث نسبة الدين إلى الناتج المحلّي، حلّت السودان في المرتبة الأولى على مستوى العالم، حيث تجاوزت هذه النسبة حدود ال284%.

2022 سنة تفاقم أزمة الديون الخارجيّة

بدأت دول المنطقة العربيّة، وخصوصًا المستوردة النفط، بتلمّس مخاطر هذه الظاهرة خلال العام 2022، حين أدّت تطوّرات اقتصاديّة عالميّة إلى تفاقم آثار الديون الخارجيّة السلبيّة.

فمنذ شهر آذار/مارس 2022، بدأ الاحتياطي الفيدرالي الأميركي برفع معدلات الفوائد المستهدفة، التي بلغ نطاقها الأعلى اليوم حدود ال4.5%، مقارنة ب0.25% فقط في بداية العام 2020. ومع ارتفاع الفوائد على الدولار الأميركي، كان من الطّبيعي أن ترتفع فوائد الديون الحكوميّة المترتبة على دول المنطقة العربيّة، والّتي كانت قد تضخّمت نتيجة تطورات العامين 2019 و2020.

في الوقت نفسه، ساهمت الحرب الأوكرانيّة منذ شهر شباط 2022 بإطلاق العنان لموجة تضخّم في الأسعار العالميّة، ما رفع أسعار جميع المواد الأوليّة والسلع الأساسيّة، ومنها النفط والمواد الغذائيّة. وهذا التطوّر أدّى بدوره إلى زيادة العجز في ميزان مدفوعات الدول العربيّة المستوردة الغذاء والنفط، ما ساهم في المزيد من الشح في احتياطات النقد الأجنبي.

بالنتيجة، باتت هذه الدول مضطرّة إلى الاقتراض لتغطية هذا العجز، ما ساهم بدوره في المزيد من التضخّم في الدين الخارجي. وبفعل شح العملة الصعبة الذي صاحب كل هذه التطوّرات، ارتفعت الحاجة للاقتراض لسداد فوائد الديون الضخمة.

لكل هذه الأسباب، اضطرّت مصر خلال العام الراهن للجوء إلى صندوق النقد بوصفه الملاذ الأخير خلال هذا النوع من الأزمات، للحصول على قرض إضافي بقيمة ثلاثة مليارات دولار، على أن تستفيد الحكومة المصريّة من هذا المبلغ على دفعات خلال مدّة 46 شهرًا.

أمّا تونس، فتوصّلت إلى اتفاق على مستوى الموظفين مع الصندوق في منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأوّل 2022، للحصول على تمويل جديد بقيمة 1.9 مليار دولار، سيتم دفعها خلال مدّة 48 شهرًا، للتعامل مع الأزمات الماليّة العامّة التي تمر بها.

في حالة السودان، لجأت السلطات إلى الصندوق أيضًا للحصول على قرض بقيمة 2.5 مليار دولار، فيما وافقت الإدارة الأميركيّة على منحه قرضًا مرحليًّا بقيمة 1.15 مليار دولار، لتسديد ديون متأخرة متوجّبة لمصلحة البنك الدولي. ورغم تجميد كلّ هذه الاتفاقات بعد الانقلاب العسكري، من المتوقّع أن يتم استكمال العمل بهذه القروض بعد الدخول في مسار تطبيق الاتفاق السياسي لنقل السلطة إلى المدنيين.

في لبنان، الذي تعثّر في سداد ديونه منذ العام 2020، تمَّ توقيع اتفاق مع صندوق النقد على مستوى الموظفين في شهر أبريل/نيسان 2022، للحصول على تمويل بقيمة ثلاثة مليارات دولار. إلا أنّ الفراغ الرئاسي حال حتّى اللّحظة دون تنفيذ شروط هذا الاتفاق، ما أخّر دخول لبنان في برنامج القرض الموعود.

كما أنّ ثمّة دول أخرى كالمغرب، فضّلت اللّجوء إلى برامج البنك الدولي، للحصول على قروض للتعامل مع تداعيات الحرب الأوكرانيّة وتغيّر المناخ وتأثيرات جائحة كورونا.

من الناحية العمليّة، تشير كل هذه الأمثلة إلى اضطرار دول المنطقة العربيّة إلى اللّجوء إلى قروض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بعد تراكم الديون الخارجيّة، وتنامي الصّعوبات التي تحول دون حصول هذه الدول على مزيد من القروض من الأسواق الماليّة. كما تشير هذه الأمثلة إلى نوعيّة المصاعب الماليّة التي فرضتها تطوّرات الاقتصاد الدولي هذا العام، والّتي دفعتها باتجاه برامج هذه المؤسسات الدوليّة، رغم قسوة الشروط التي تفرضها.

تطوّرات سلبيّة متوقّعة عام 2023

يبدو أن العام 2023 لن يحمل أيّ أخبار سارّة على مستوى أزمة الديون الخارجيّة، بالنسبة إلى دول المنطقة العربيّة.

فالاحتياطي الفيدرالي الأميركي يتوقّع اليوم استمرار الزيادات في معدل الفائدة المستهدفة من قبله، وصولًا إلى مستويات قد تتجاوز ال5.1% في نهاية 2023. وهذا التطوّر، سيعني المزيد من الارتفاع في فوائد الديون الخارجيّة، والمزيد من الاستنزاف في ميزانيّات الدول المقترضة.

كما يتوقّع صندوق النقد أن يسجّل العام 2023 معدلات تضخّم مرتفعة في الأسواق العالميّة، بنسبة تقارب ال6.5%، وهو ما سيزيد من حاجة الدول المستوردة الى الغذاء والنفط للعملة الصعبة، لتمويل استيرادها والعجز في ميزان مدفوعاتها.

وجميع هذه التطوّرات، ستساهم في الضغط على المستوى المعيشي المباشر للمقيمين في الدول المقترضة، بفعل استنزاف الفوائد ميزانيّات هذه الدول، ما سيحول دون تمكينها من الإنفاق على شبكات الحماية الاجتماعيّة والخدمات العامّة.

كما سيحول هذا العبء دون إنفاق هذه الدول على استثمارات البنية التحتيّة، التي تحتاجها اقتصاداتها لاستقطاب الاستثمارات الأجنبيّة والنمو. وفي حال تنامي كتلة الديون بشكل إضافي، لتمويل العجز في الميزانيّات العامّة ودفعات الفوائد، فمن المحتمل أن تتحوّل هذه الديون إلى قنابل موقوتة قد تنفجر في أيّ لحظة.

في الخلاصة، تحتاج دول المنطقة العربيّة، وخصوصًا الدول المستوردة النفط، للتنبّه من مخاطر هذه التطوّرات، والسّعي لصياغة برامج اقتصاديّة شاملة تعالج مكامن الخلل في ميزانيّاتها العامّة وأولويّات إنفاقها، ومكامن الخلل البنيويّة في اقتصاداتها المحليّة. وهذه الإصلاحات تستدعي تحسين جودة الإنفاق العام والحد من مكامن الهدر، وإصلاح أنظمة الدعم المخصصة للفئات الأكثر هشاشة. كما تستدعي زيادة كفاءة إدارة الديون، بما يسمح بتقليص تكاليف فوائدها.