علي نور الدين
منذ أن دخل لبنان نفق الانهيار الاقتصادي ، برزت إلى الواجهة جملة من المصطلحات الماليّة التقنيّة التي استجدّت في قاموس الحياة السياسيّة اللبنانيّة، وفي مقدّمها عبارة “التدقيق الجنائي” في المصرف المركزي. مسار التدقيق هذا، الذي أقرّه مجلس الوزراء اللبناني في 26 آذار 2020 ، كان من المفترض أن يكون الأداة الأساسيّة لتشريح ميزانيّات المصرف المركزي، وفهم نوعيّة الخسائر التي ألمّت بها، وصولًا إلى تحديد المسؤوليّات وفهم أسباب الانهيار المصرفي الذي أطاح بوادئع اللبنانيّين ومدخراتهم. وفي واقع الأمر، ترقّب كثيرون في لبنان مسار التدقيق هذا بالتحديد، للتحقق من صحّة التحليلات التي أشارت إلى عمليّات احتيال منظمّة ، انطوت عليها العمليّات المصرفيّة خلال السنوات التي سبقت حصول الانهيار. وبما أن مسار التعافي الاقتصادي سيرتكز حكماً على شكل من أشكال توزيع الخسائر الناتجة عن الانهيار، بالإضافة إلى توزيع كلفة عمليّة التصحيح المالي، كان لا بد من انتظار نتيجة هذا التدقيق، لرسم الخطط الماليّة وفقًا لحجم ونوعيّة وأسباب الخسائر التي سيظهرها التدقيق المفصّل في الميزانيّات.
لكن وبالرغم من مرور أكثر من سنة وتسعة أشهر على إقرار مسار التدقيق في مجلس الوزراء، ورغم تكليف شركة “آلفاريز آند مارسال” الأجنبيّة بإجراء هذه العمليّة، لم تبدأ الشركة عملها في المصرف المركزي بعد. فطوال هذه المدّة، كانت العراقيل تبرز مرّة تلو الأخرى لتحول دون تسليم الشركة المعلومات المطلوبة لتنفيذ عقد التدقيق الجنائي، وهو ما أدّى إلى فرملة عملها مرارًا وتكرارًا بالرغم من وجود مرسوم حكومي يفرض قيامها بهذه المهمّة. وفي خلاصة الأمر، مازال اللبنانيّون يجهلون –بعد أكثر من سنتين من حصول الانهيار المالي- خبايا حسابات مصرفهم المركزي، والمستفيدين من العمليّات التي أدّت إلى فجوة خسائر النظام المصرفي. أمّا المفارقة الكبرى، فكانت شروع الحكومة اللبنانيّة اليوم بوضع خطّة تصحيح ماليّة جديدة، دون أن تتمكّن من الاستناد إلى تدقيق شامل وموضوعي من قبل طرف محايد يمكّنها من فهم المسار الذي أدّى إلى الأزمة المصرفيّة، في ظل شكوك كبيرة تحوم حول جميع المعطيات التي يقدّمها حاكم المصرف المركزي.
في مطلع العام 2022، تنتهي مهلة قانون رفع السريّة المصرفيّة لغايات التدقيق الجنائي، وهو القانون الذي أقرّه مجلس النوّاب لتمكين شركة آلفاريز آند مراسل من تخطي ستار السريّة المصرفيّة والقيام بمهمّتها. وبذلك، وبما أنّ الشركة لم تبدأ عمليّة التدقيق بعد لعدم تمكّنها من الحصول على المعلومات التي تحتاجها، فمن المتوقّع أن يعود هذا المسار إلى نقطة الصفر خلال هذا العام، بل ومن الممكن أن تتخذ الشركة قرار الانسحاب من هذه المهمّة بشكل نهائي. مع الإشارة إلى أن الشركة اتخذت سابقًا قرار بفسخ عقدها مع الدولة اللبنانيّة لنفس السبب، قبل أن تعود الحكومة اللبنانيّة إلى توقيع عقد جديد معها بعد التعهّد بتأمين المعلومات التي تحتاجها.
كل هذه التطوّرات تفتح ملف التدقيق الجنائي على مصراعيه في بدايات العام 2022. فتداعيات الإطاحة بمسار التدقيق الجنائي لن تقتصر على حرمان اللبنانيين من حقهم بمعرفة حقائق الانهيار المصرفي، ولا على صياغة خطّة ماليّة ركيكة لا تستند على تدقيق شامل وموضوعي في الحسابات المصرفيّة. بل تكمن الإشكاليّة الأهم في فقدان المصداقيّة الدوليّة بأي خطّة معالجة ماليّة لا تتوازى مع تدقيق من هذا النوع، خصوصًا أن التدقيق الشامل والمفصّل في ميزانيّات مصرف لبنان مثّل منذ البداية شرط أساسي من شروط صندوق النقد الدولي للقبول ببرنامج قرض للبنان، فيما ركّزت جميع الدول الأجنبيّة المعنيّة بالملف اللبناني على تنفيذ هذا المسار كشرط إصلاحي، قبل تقديم أي مساعدات وازنة أو غطاء دولي لخطط لبنان الماليّة.
مكرهٌ أخاك لا بطل
منذ البداية، لم يمتلك أقطاب النظام السياسي مصلحة بالقيام بهذا النوع من التدقيق المفصّل في أرقام مصرف لبنان، خصوصًا إذا كانت غاية التدقيق العودة إلى العمليّات المشبوهة التي سبقت الانهيار المالي، والكشف عن هويّة المتورّطين في بعض هذه العمليّات التي ضخّت أرباح خياليّة لمصلحة أصحاب المصارف مقابل مراكمة الخسائر في ميزانيّات المصرف المركزي (عُرفت هذه العمليّات بإسم “الهندسات الماليّة”). مع الإشارة إلى أن نمط العمليات هذا لعب دورًا كبيرًا في استنزاف دولارات المودعين التي أودعتها المصارف لدى المصرف المركزي، وهو ما أدّى إلى انهيار النظام المصرفي لاحقًا. في كل الحالات، وكما هو معلوم، كمنت الإشكاليّة دائمًا في لبنان في تشابك المصالح الكبيرة بين أقطاب النظام السياسي وكبار النافذين في النظام المالي، وهو ما يفسّر استماتة الطبقة السياسيّة لعرقلة التدقيق الجنائي الذي كان من شأنه الكشف عن خبايا هذه العمليّات التي جرت بين المصارف والمصرف المركزي.
ولهذا السبب، قد يخطر على ذهن المتابع التساؤل حول سبب مبادرة السلطة اللبنانيّة إلى الموافقة على مسار التدقيق الجنائي، طالما أنّها لم تملك المصلحة في إجراء هذا التدقيق أصلًا، بل وطالما أنّها امتلكت منذ البداية نيّة عرقلة هذا المسار لاحقًا. باختصار، كانت موافقة السلطة على إقرار مسار التدقيق الجنائي مجرّد انصياع للضغوط الخارجيّة، وتحديدًا ضغط صندوق النقد الدولي الذي أصرّ على إجراء تدقيق شامل في أرقام المصرف المركزي، بالتوازي مع أي مفاوضات يمكن أن يقوم بها لبنان للحصول على قرض من الصندوق. ولعلّ تزامن إقرار مسار التدقيق الجنائي في آذار 2020، مع تعثّر الدولة اللبنانيّة في سداد ديونها، واتجاهها نحو التفاوض مع الصندوق على برنامج قرض، مجرّد دلالة على ارتباط عمليّة التدقيق الجنائي بالضغوط الخارجيّة. وفي وقت لاحق، تحوّل التدقيق الجنائي إلى جزء من المطالب الإصلاحيّة التي وضعها الاتحاد الأوروبي و فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وهي تحديدًا الجهات التي كان يأمل لبنان بالحصول على قروض ومساعدات واستثمارات منها بعد الدخول في برنامج مع صندوق النقد.
ببساطة، تعاملت السلطة مع التدقيق الجنائي وفق مبدأ “مكرهٌ أخاك لا بطلُ”، فأقرّت هذا المسار في البداية. وبعد تكليف آلفاريز آند مارسال انتقل مصرف لبنان وأقطاب النظام السياسي إلى محاولة التذاكي على هذا المسار عبر محاولة تقليص نطاق المعلومات التي يتم تقديمها إلى الشركة، بهدف حصر التدقيق بتقرير أولي وسطحي لا يتعمّق في تفاصيل الارتكابات السابقة، على أمل أن تكتفي الجهات الدوليّة بهذا التقرير. لكنّ وبخلاف ما توقّع الجميع، رفضت شركة آلفاريز آند مرسال التورّط في تدقيق من هذا النوع حفاظًا على مصداقيتها الدوليّة كإستشاري مالي مرموق، وهو ما عرقل انطلاق عمليّة التدقيق حتّى هذه اللحظة.
أهميّة التدقيق الجنائي وأساليب عرقلته
في واقع الأمر، يختلف التدقيق الجنائي بشكل كبير عن التدقيق المحاسبي العادي، الذي تقوم به في العادة جميع الشركات بشكل سنوي. فالتدقيق المحاسبي العادي، يكتفي بمراجعة أصول تسجيل العمليّات الماليّة، وطريقة قيد المصاريف والإيرادات والموجودات والإلتزامات، للتأكّد من اتباع المعايير المحاسبيّة المثلى، عبر فحص عيّنات من العمليات المحاسبيّة. أما في التدقيق الجنائي، فتذهب الشركة المكلّفة بإجراء التدقيق إلى ما وراء الأرقام والقيود ، للبحث عن إمكانيّة وجود فساد أو كسب غير مشروع خلف هذه العمليّات، من خلال النظر في أسباب إجرائها والمستفيدين منها وإمكانيّة انطوائها على تضارب مصالح أو التفاف على القوانين المتبعة.
بمعنى آخر، يسعى التدقيق الجنائي إلى التحقق من إمكانيّة وجود احتيال ما خلف أرقام الميزانيّات، حتّى لو بدت أصول إعداد الميزانيّات صحيحة من الناحية المحاسبيّة البحت. ولهذا السبب تحديدًا، غالبًا ما تقوم شركات التدقيق الجنائي بتحليل العمليّات بشكل دقيق، بدل الاكتفاء بمراجعة عيّنات صغيرة منها كما في التدقيق المحاسبي العادي.
لكل هذه الأسباب، وبمجرّد تكليف شركة آلفاريز آند مارسال بإجراء التدقيق سنة 2020، بدأت عمليّة العرقلة من ناحية مصرف لبنان، عبر الامتناع عن تسليمها المعلومات التي طلبتها، بحجّة وجود قانون السريّة المصرفيّة. مع العلم أن هيئة التشريع والاستشارات ونقابة المحامين ووزارة العدل أكدوا في ذلك الوقت أن قانون السريّة المصرفيّة لا يشمل حسابات مصرف لبنان موضوع التدقيق، بل تنحصر مفاعيله في حسابات عملاء المصارف التي لا علاقة بها بالتدقيق الجنائي. ولذلك، كان من الواضح أن مسألة السريّة المصرفيّة كانت في تلك المرحلة مجرّد ذريعة لا أساس قانوني لها للتملّص من تنفيذ عقد التدقيق الجنائي، أو على الأقل حصر نطاق المعلومات المقدّمة لشركة التدقيق بأضيق حدود. وفي النهاية، وبعد أن فشلت شركة آلفاريز آند مارسال في الحصول على المعلومات التي تحتاجها لتنفيذ العقد، قررت الشركة الانسحاب من هذا المسار وفسخ عقدها الموقّع مع الدولة اللبنانيّة في تشرين الثاني 2020.
تحت وطأة الضغط الدولي، أقرّ المجلس النيابي في أواخر العام 2020 قانون لتعليق العمل بالسريّة المصرفيّة لغايات التدقيق الجنائي، ولمدّة سنة من تاريخ إقرار القانون. كان هدف القانون الإيحاء بوجود تسهيلات قانونيّة ، من أجل إقناع شركة آلفاريز آند مرسال بالعودة إلى مسار التدقيق الجنائي من جديد، خوفًا من العقوبات الأوروبيّة التي يمكن أن يتم فرضها على المسؤولين عن عرقلة هذا التدقيق في لبنان. وبالفعل، عادت الشركة إلى مسار التدقيق الجنائي بعد إقرار القانون، ووقّعت عقد جديد لهذه الغاية مع وزارة الماليّة. لكنّ المصرف المركزي عاد للتملّص من طلبات الشركات، فيما ماطلت الدولة اللبنانيّة طوال العام 2021 في إجراءات تنفيذ عقدها الموقّع مع شركة آلفاريز آند مرسال. وبذلك، انقضى العام 2021، وانقضت معه مهلة رفع السريّة المصرفيّة لغايات التدقيق الجنائي، دون أن تبدأ الشركة مهمّة التدقيق في ميزانيّات المصرف المركزي، لعدم توفّر جميع المعلومات التي تحتاجها لإنجاز هذه المهمّة.
في النتيجة، باتت شركة آلفاريز آند مرسال قاب قوسين أو أدنى من اتخاذ قرار الانسحاب من مهمتها في لبنان مجددًا، بعد أن نفدت مهلة القانون الذي أعطاها الغطاء الذي تحتاجه في مواجهة ذرائع المصرف المركزي، وهو ما سيعني عودة المصرف إلى اختلاف الذرائع السابقة لعدم تسليمها المعلومات. ومع انسحاب آلفاريز آند مرسال، سيكون لبنان أمام موقف صعب في مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي، الذي مازال يصر حتّى اللحظة على ربط أي خطّة ماليّة مقبلة للبنان بتدقيق مفصّل بأرقام المصرف المركزي. أمّا الأهم، فهو أن حلم اللبنانيّين بالحصول على حقيقة ما جرى في نظامهم المصرفي، قبل وبعد الانهيار، سيظل حلمًا يستحيل تحقيقه، بعد أن تبيّن أن في ميزانيّات المصرف المركزي كتلة من الأسرار التي يرغب الجميع بإخفائها عن أعين الرأي العام، وعن تدقيق الشركات المحاسبيّة.