تنبع الشكوك الحالية حول مسار موجة الخصخصة الإيرانية من التجارب السلبية السابقة وانعدام الشفافية وغياب الخطط الاقتصادية الشاملة.
علي نور الدين
تتحضّر الحكومة الإيرانيّة لجني 108 آلاف تومان إيراني خلال العام 2023، من عمليّات بيع الممتلكات الحكوميّة.
ولهذه الغاية، حصلت السلطات الإيرانيّة على موافقة المرشد العام علي الخامنئي، لتشكيل لجنة عليا استثنائيّة مؤلفة من سبعة أعضاء، لإدارة عمليّة الخصخصة التي يتم التخطيط لها. وستتمتّع اللجنة بصلاحيّات واسعة جدًا، تشمل تحديد الأصول العامّة “الفائضة”، واتخاذ قرارات بخصوص تحديد أسعارها وكيفيّة بيعها، ومن ثم الموافقة على صفقات البيع.
شبهات تحيط بالخطّة
أثارت كل هذه التطوّرات هواجس كبار الاقتصاديين في إيران، وخصوصًا لجهة غياب الشفافيّة والشبهات الكبيرة التي تحيط بموجة الخصخصة المنتظرة هذه. وتكمن الإشكاليّة الأولى في هذه الخطّة في التفافها على صلاحيّات البرلمان الإيراني.
فقرار تشكيل اللجنة الاستثنائيّة جرى اتخاذه على مستوى رؤساء السلطات الثلاث، التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، من دون مناقشة مهام اللجنة وصلاحيّاتها بشكل علني في البرلمان، ومن دون مناقشة نوعيّة الأصول العامّة التي سيتم خصخصتها، وهذا تحديدًا ما طرح التساؤلات عن سبب تمرير الخطّة بهذا الشكل الغامض والسريع، رغم ضخامة القيمة التي تهدف السلطات إلى تحصيلها من بيع الأصول العامّة.
مع الإشارة إلى أنّ الدستور الإيراني يعطي البرلمان الصلاحيّة الحصريّة للتشريع، في كل المسائل التي ترتبط بالتصرّف بالمال أو الأصول العامّة، ممّا يشير إلى أنّ هناك مخالفة دستوريّة متعمّدة بهدف إخفاء أمور معيّنة في هذه الخطّة الملتبسة.
المشكلة الأكبر تكمن في نوعيّة المهام والصلاحيّات غير المنطقيّة وغير المسبوقة، التي ستمارسها اللجنة الاستثنائيّة. إذ ستمتلك اللجنة حصانة مطلقة وشاملة من أية ملاحقة قانونيّة، تجاه القرارات التي ستتخذها، ممّا سيعفيها من المساءلة في حال التورّط بارتكابات تمس المال العام.
كما ستمتلك صلاحيّات شبه تشريعيّة، تسمح لها بتجميد تنفيذ أية قوانين قد تتعارض مع قراراتها المرتبطة بعمليّات الخصخصة. وأخيرًا، لم يتم تحديد أية ضوابط للجنة، لجهة نوعيّة أو حجم الأصول التي يمكن بيعها خلال سنة من تشكيلها، أو الأسعار التي سيتم تقاضيها مقابل بيع الأصول العامّة.
وستتكوّن هذه اللجنة من نائب الرئيس الإيراني الأوّل محمد مخبر، بالإضافة إلى وزير الاقتصاد إحسان خاندوزي ووزير الداخليّة أحمد وحيدي ووزير الطرق وبناء المدن مهرداد بذرباش. كما ستضم رئيس منظمة التخطيط والميزانيّة مسعود ميركاظمي و وبرلمانيا يعيّنه رئيس البرلمان، مع شخص إضافي يمثّل السلطة القضائيّة.
خشية من نتائج مسار الخصخصة الإيرانية
في الوقت الراهن، يخشى العديد من خبراء الاقتصاد في إيران من استخدام أعضاء اللجنة صلاحيّاتهم وحصاناتهم القانونيّة لعقد صفقات غير شفّافة، بهدف نقل ملكيّة الأصول والمرافق العامّة الإيرانيّة إلى رجال أعمال مقربين من النظام، تمامًا كما حصل في موجات الخصخصة الإيرانيّة السابقة. ولعلّ هويّة أعضاء اللجنة، المقرّبين بغالبيتهم من دوائر رجال الأعمال اللصيقة بالنظام، عززت هذه الهواجس.
المشكلة الأكبر، هي أن تشكيل اللجنة واتجاه الحكومة الإيرانيّة نحو عمليّات الخصخصة بهذا الشكل المتسرّع، لم يترافق مع أية خطّة اقتصاديّة شاملة تهدف الى استقدام وتحفيز الاستثمارات الأجنبيّة والمحليّة، وتعزيز التنافسيّة والإنتاجيّة في السوق. ومن المعلوم أن العقوبات الغربيّة تحول أساسًا دون توسّع الحكومة الإيرانيّة في استقدام هذا النوع من الاستثمارات، بما فيها تلك التي يمكن أن تضخها الشركات الأجنبيّة المتعددة الجنسيّات، أو المستثمرون الإيرانيون المتواجدون في الخارج.
ولهذه الأسباب، يخشى كثيرون من أن لا يفضي مسار الخصخصة الجديد إلّا إلى التفريط بالمرافق العامّة التي تدرُّ الأرباح، بأسعار بخسة جدًا، نظرًا لغياب التنافس للاستحواذ على الأصول العامّة. وبهذا الشكل، لن تنجح عمليّات الخصخصة باجتذاب أية سيولة جديدة بالعملة الصعبة من الخارج. كما لن تؤدّي إلى زيادة المنافسة والإنتاجيّة في السوق، طالما أن النافذين المحليين الكبار سيتقاسمون هذه الأصول والمرافق العامّة بصفقات غامضة.
تجارب سابقة غير مشجّعة
في واقع الأمر، تستند جميع المخاوف الراهنة من تجارب الإيرانيين السيئة مع موجات الخصخصة السابقة. فعلى سبيل المثال، ومع تفشّي وباء كورونا خلال العام 2020، ارتفعت مديونيّة الحكومة الإيرانيّة لمصلحة المصرف المركزي بنسبة 35%، نتيجة تراكم العجز في الميزانيّة العامّة. ومع لجوء المصرف المركزي إلى طباعة النقد، لإقراض الدولة وتمويل نفقاتها، ارتفعت قيمة الدولار مقابل التومان الإيراني بنسبة 50% خلال ذلك العام.
بحجّة التعامل مع هذه الظروف الاقتصاديّة القاسية، لجأت الحكومة الإيرانيّة في ذلك الوقت إلى إطلاق عمليّة خصخصة متسرّعة وواسعة النطاق، بما شمل أسهم الدولة في شركات عاملة في قطاعات الأسمنت والنفط والتأمين والشحن والتمويل والفحم الحجري وغيرها.
لكن بالنتيجة، أثارت تلك العمليّة احتجاجات صاخبة في الشارع، بعدما تبيّن أن هذه العمليّات لم تكن سوى ستار لاستحواذ أبناء المسؤولين الكبار والمقرّبين منهم على أصول الدولة، وبأسعار منخفضة جدًا، كما أظهرت بيانات البورصة في طهران لاحقًا.
وفي الوقت عينه، أثارت تلك العمليّات موجة إضرابات عماليّة واسعة النطاق في معظم المدن الإيرانيّة، بعدما نتج عن عمليّات الخصخصة تسريح شرائح واسعة من عمّال مناجم الفحم الحجري، ليتمكن المستثمرون الجدد من خفض تكاليفهم خلال فترة تفشّي الوباء.
ولامت النقابات العمّالية يومها السلطات الإيرانيّة، بسبب عدم وضع ضوابط معيّنة على عمليّات بيع الأصول العامّة، بما يفرض الحفاظ على حقوق ومكاسب العمّال فيها. كما شككت النقابات العماليّة بانحياز السلطات إلى المستثمرين الذين استحوذوا على الأصول العامّة، بسبب ارتباط المستثمرين بأصحاب القرار السياسي.
وبين عامي 2001 و2013، أطلقت السلطات الإيرانيّة عدة موجات من عمليّات الخصخصة، بهدف تقليص أعباء إدارة القطاعات الاقتصاديّة التي تسيطر عليها الدولة. لكن التدقيق في هذه العمليّات يكشف أنّ 18% فقط منها مثّل “خصخصة حقيقيّة”، بمعنى بيع تلك الأصول إلى مستثمرين من القطاع الخاص بشكل فعلي.
في المقابل، اقتصرت سائر العمليّات على بيع الأصول لصالح هيئات شبه حكوميّة، كالمؤسسات التي يسيطر عليها الحرس الثوري والباسيج والمرجعيات الدينيّة والأوقاف، وبعض “الجمعيّات” التي تقوم بصفقات ملتبسة لمصلحة المقربين من النظام. وهذا تحديدًا ما ربط مفهوم الخصخصة في إيران منذ ذلك الوقت بالصفقات التي تعيد توزيع الثروة العامّة بشكل غير عادل، دون أن تحقق النتائج الإيجابيّة التي تعد بها عادة السلطات الرسميّة.
وفي مارس/آذار 2019، تم اعتقال ميرعلي بوري حسیني، رئيس منظمة الخصخصة الإيرانيّة، بتهم اختلاس وفساد مرتبطة بعمليّات خصخصة جرت بين عامي 2013 و2019. وكان مدعي عام طهران قد فتح يومها، بناءً على إخبارات من السلطة التشريعيّة، تحقيقات في عمليّات بيع مصانع مملوكة من الدولة لمصلحة القطاع الخاص، في قطاعات إنتاج السكّر والبتروكيماويّات والألمنيوم، ممّا أدّى إلى استقالة حسيني واعتقاله.
وقبل أشهر من اعتقال حسيني، كانت السلطات القضائيّة قد أوقفت مجموعة من مدراء أعضاء مجالس إدارة المؤسسات التي تمّت خصخصتها، بعد إضرابات عمّاليّة صوبت على الفساد الذي انطوت عليه عمليّات خصخصة تلك المؤسسات.
بيئة استثماريّة غير مناسبة
بالنتيجة، من الواضح أنّ إيران فشلت على مرّ العقود السابقة بتنظيم مسارات شفّافة ونزيهة لخصخصة الأصول المملوكة من قبل الدولة، ممّا أدّى إلى جميع هذه الفضائح المتتالية في محطات مختلفة. ولعلّ الإشكاليّة الأولى هنا تكمن في ضعف أطر الحوكمة والرقابة، التي يفترض أن ترعى الصفقات العموميّة وعمليّات التعاقد مع القطاع الخاص، وهذا ما يسهّل عقد الصفقات المشبوهة. هذه المشكلة تجعل البيئة الاستثماريّة غير مناسبة وغير مشجعة للمستثمرين المحليين والأجانب، باستثناء أولائك المدعومين من قبل رموز النظام السياسيّة.
في الوقت عينه، تكمن الإشكاليّة الأخرى في ضعف القطاع الخاص الإيراني، الذي تهيمن عليه اليوم نخبة ماليّة صغيرة مرتبطة بالنظام نفسه، ما يحول دون التنافس الجدّي في مسارات الخصخصة. أما أزمة العقوبات، فتمنع دخول الشركات الأجنبيّة على الخط للمنافسة. وفي النتيجة، يؤدّي هذا الواقع إلى إفراغ عمليّة الخصخصة من أهدافها الأساسيّة، التي يفترض أن تحقق زيادة في تنافسيّة المؤسسات التي يجري خصخصتها.
لكل هذه الأسباب، من المفترض أن تعيد السلطات الإيرانيّة النظر في مقاربتها موضوع الخصخصة، عبر تصحيح أطر الحوكمة المتبعة، ووضع عمليّات الخصخصة ضمن إطار إستراتيجيّة أوسع لتعزيز تنافسيّة القطاع الخاص. وإذا كانت إيران تتجه للتفاوض مجددًا على ملفّها النووي، فسيكون من الأفضل التريّث قبل إطلاق مسار جديد للخصخصة، بانتظار معالجة مسألة العقوبات وجذب الاستثمارات الخارجيّة. فالتمكّن من جذب هذه الاستثمارات، سيسمح حتمًا بزيادة تنافسيّة عمليّات الخصخصة التي يتم التخطيط لها.