مستشفياتٌ مهملة ومدارس فارغة ومباني حكومية مهجورة: بدت المدن التونسية مثل مدن الأشباح في 17 يناير 2019، فقد قام الإتحاد العام التونسي للشغل، القوي، بتنظيم إضرابٍ على مستوى الدولة، وحصل على دعم جماهري وتضامنٍ من كلٍ من القطاعين العام والخاص، وذلك وفقاً للاتحاد، بمشاركةٍ تجاوزت نسبتها 90% من موظفي الخدمة المدنية البالغ عددهم 677 ألفاً، و350 ألفاً من الموظفين في مؤسسات القطاع العام، الذين يمثلون ربع السكان.
إلا أن رئيس الوزراء يوسف الشاهد رفض بشدة مطالب الاتحاد حول رفع الحد الأدنى للأجور إلى ما يصل إلى 180 ديناراً (61 دولاراً) شهرياً، واصفاً إياها بـ”غير المعقولة والمكلفة وغير المبررة،” وسعى إلى إعادة العمال المضربين إلى وظائفهم قسراً. رفض العمال التعاون، بعد أن رأوا انخفاض قوتهم الشرائية بنسبة 40% منذ ثورة 2011.
تونس ليست غربيةً عن احتجاجات عمال القطاع العام. فقد جاءت احتجاجات 17 يناير بعد إضراب موظفي الخدمة المدنية في نوفمبر 2018 وتزامنت مع المقاطعة المستمرة للمدرسين حول المنافع والإصلاحات التعليمية، مما تسبب بشلل قطاع التعليم والمخاطرة بـ “سنة ضائعة،” والتي ستلزم جميع طلاب المدارس الابتدائية والثانوية بإعادة السنة. وعلى الرغم من أن بعض المحللين وصفوا الاحتجاجات بـ”الضغط المعدّ حسب الطلب” على الحكومة لإجبارها على تقديم تنازلات، إلا أنه من غير المؤكد ما إذا كانت الاتفاقيات الجديدة ستكون كافيةً لحل مشكلة السخط الاجتماعي الحالي.
فقد قال نور الدين الطبوبي، رئيس الاتحاد العام التونسي للشغل، في خطاب تحدٍ أمام الجماهير في بداية الإضراب “تونس ليست للبيع.” وأضاف “لم ننتخب حكومةً للتنازل عن حقوقنا المكتسبة. نحن نطالب بدولةٍ ذات سيادة، وصنع قرارٍ وطني مستقل، وحكومة غير ابتزازية،” في انتقادٍ واضح للشاهد وسخريةٍ منه لتسليمه السيادة التونسية إلى صندوق النقد الدولي مقابل قرض ضخم بلغت قيمته 2,9 مليار دولار والمرتبط ببرنامجٍ صارم للإصلاح الاقتصادي، بما في ذلك الضوابط على التوظيف الحكومي والمكافآت، ورفع إيرادات الضرائب وخفض الدعم عن المحروقات. وعليه، تعهد الطبوبي بمواصلة “المعركة” إلى حين تلبية جميع مطالب الاتحاد العام التونسي للشغل.
من جهته، يرى الشاهد أن الإصلاحات غايةً في الأهمية للنمو الإقتصادي، إذ قال في مقابلةٍ له مع سي إن إن: “للديمقراطية ثمن وتتطلب تضحيات… نحن لا ننفذ الإصلاحات تنفيذاً لإملاءات صندق النقد الدولي ولكن لأن البلاد بحاجة للنمو الإقتصادي، وخلق فرص العمل، وخفض العجز في ميزانيتها.”
وعلى الرغم من أن التزام الشاهد تجاه صندوق النقد الدولي قد يجعله يخسر إلى حدٍ ما شعبيته، إلا أن رئيس الوزراء، وببساطة، يواصل اتجاهاً وضعه أسلافه. فقد بدأت الحكومة تنفيذ الإصلاحات لخفض الإنفاق العام، وتشجيع الصادرات ورفع كفاءة مؤسسات القطاع العام في أوائل الثمانينيات. ولكن بحلول صيف عام 1986، أدى الركود الاقتصادي المستمر إلى استحالة تجنب الحكومة لإصلاحاتٍ أكثر عدوانية، ولم يترك أمامها أي بديل سوى طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وعندما حل زين العابدين بن علي، الذي كان رئيساً للوزراء (تمت الإطاحة به عام 2011)، محل الرئيس الحبيب بورقيبة في انقلابٍ سلمي في نوفمبر 1987، كان تنفيذ خطة إصلاح صندوق النقد الدولي على رأس جدول أعماله.
ومن عجيب المفارقات أن الإستبدادي بن علي أشرك بشكلٍ إستراتيجي الإتحاد العام التونسي للشغل ونفذ الإصلاحات بمباركة الإتحاد. وحتى الآن، لم تقدم أي جهة، سواء حكومية أو غير حكومية، سياسة بديلة متينة لمعالجة المشاكل العميقة المتأصلة والمتوارثة لسيطرة الدولة التونسية، القائمة على العشائر، والمطبقة على الاقتصاد المحلي.
وعلى الرغم من أن الاتحاد العام التونسي للشغل كان لاعباً أساسياً منذ نضال البلاد من أجل الاستقلال، إلا أن خسارة الإتحاد لنفوذه تلوح في الأفق، ويحتاج الاتحاد العام التونسي للشغل إلى دفعةً لتصحيح مساره مجدداً كقوةٍ لا مفر منها في قلب السياسة التونسية. وبعد المشاركة في ثورة 2011، ساهم الاتحاد العام التونسي للشغل في إنشاء الحزب الحاكم نداء تونس في عام 2012 واكتسب لاحقاً شهرة دولية لدوره الحائز على جائزة نوبل في إنهاء الجمود السياسي في عام 2013. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، تجاهل الشاهد اللين آنذاك، والمهتم ببناء علاقاتٍ قوية مع المانحين الدوليين أكثر من التعاون مع الاتحادات، الضغوطاتٍ من كلٍ من الاتحاد العام التونسي للشغل ونداء تونس للتنحي.
يصف منتقدوا الاتحاد العام التونسي للشغل الإضراب العام بالخطوة غير المسؤولة، التي تهدد الاستقرار والوحدة. ولكن بالنسبة لمعظم العمال المضربين، لم تترك الحكومة أمامهم خياراً آخر سوى الاستمرار في القتال من أجل العدالة. هذا هو حال جمال (ليس اسمه الحقيقي)، وهو مدرس في أحد المدارس الثانوية من جنوب تونس.
وبحسب ما قال لنا في فَنَك، “جيلي، الطبقة التي اجتازت امتحان المنافسة المفتوحة في عام 2018، اضطر فجأة إلى إجراء تدريبٍ لمدة عامين من أجل أن يصبح مؤهلاً بشكلٍ كامل، في حين أن وزارة التعليم تقوم بتوظيف المعلمين غير المؤهلين في نفس الوقت – الذين لم يسبق لهم النجاح بالامتحان- للحصول على وظائف مؤقتة مدفوعة الأجر بالكامل. إلا أن الامتحان إجباري بموجب القانون. وكيف اختارت الحكومة الناس لمجموعة أو أخرى؟”
“بالإضافة إلى ذلك، وبعد ما يقرب من عامٍ من العمل، لم نحصل على التعويضات الشهرية للتدريب والبالغة 400 دينار [132 دولاراً]. هل يمكنك تخيل ذلك؟ في مدرستي، لا يوجد عددٍ كاف من المعلمين لتغطية المنهج الإلزامي، لذلك لا يتم تدريس بعض المواد. وتقول الحكومة إنهم لا يملكون المال لدفع الرواتب. باختصار، لا تلقى مطالبنا آذناً صاغية،” هذا ما قاله جمال عندما طلب منه توضيح سبب استمرار الاحتجاجات في قطاع التعليم، مشدداً على أن مطالبهم لا تقتصر على زيادة الأجور، بل تشمل أيضاً إصلاحات التعليم وقانوناً يحمي المعلمين من المضايقات.
حالة جمال ليست فريدةً من نوعها، فقد أصبحت القصص عن ظروف العمل السيئة، وتأخر دفع الأجور، والمدارس والمستشفيات غير المجهزة بشكلٍ كافٍ، من الأمور الروتينية. أكثر من 35 عاماً من التركيز الأحادي الجانب على تخفيضات الميزانية، والتي تفاقمت بسبب تأخر الإصلاحات في ظل استمرار تضارب المصالح السياسية، يمكن القول إنها تجعل من إعادة تشكيل القطاع العام أكبر تحدٍ حالي في تونس.
ومع ذلك، تكشف تجربة جمال عن تحدٍ آخر يتمثل في دمج العاطلين عن العمل في سوق العمل. فهؤلاء الأشخاص البالغ عددهم 638 ألفاً من الشباب الذين يتعذر ضبتهم وغير الممثلين في الإتحادات (يبلغ معدل البطالة بين الشباب 32%)، يظهرون أنفسهم بأشكال مختلفة بينما يتنافسون على امتيازات أعضاء الاتحاد. فقد ذكر موقع Algerie Focus، وهو موقع جزائري على شبكة الإنترنت، عن سبع محاولات انتحارٍ مشابهة لانتحار الصحفي العاطل عن العمل بإحراق نفسه في القصرين، وهي مدينة فقيرة في وسط غرب تونس، في الأيام الثلاثة التالية للحادثة في ديسمبر 2018. أثار موته صداماتٍ بين المتظاهرين وقوات الأمن في جميع أنحاء البلاد للاحتجاج على تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. وبين عامي 2011 و2014، تضاعفت حالات الإنتحار المماثلة ثلاث مرات.
وقال خيام التركي، المحلل ومؤسس “جسور” وهو مركز تفكير سياسي متخصص في رسم السياسات العمومية، “كانت تخشى الإتحادات من أن “تونس الثانية” [سكان المناطق المحرومة والفقيرة] سيعكرون صفو الاضراب في 17 يناير،” مشيراً إلى التجمعات الجماهيرية العنيفة المناهضة للتقشف في عامي 2016 و2018.
في السنوات الأخيرة، أظهر الاتحاد العام التونسي للشغل جانبه العملي والواقعي، ومن المرجح أن يفعل ذلك مرةً أخرى، بينما يعمل على زيادة الضغط استراتيجياً وينتظر اللحظة المناسبة للوصول إلى اتفاقٍ مع الحكومة. فالإنتخابات الجديدة قاب قوسين أو أدنى، فضلاً غن تلميحات الطبوبي، رئيس الاتحاد العام التونسي للشغل، بدخول المعترك السياسي، “وهو أمرٌ غاية في الأهمية للديمقراطية اليافعة الهشة،” بحسب ما قال الطبوبي. ولكن يبقى أن نرى ما إذا كان الاتحاد العام التونسي للشغل سيتمكن من تطوير برنامجٍ ثابت وطويل الأجل لمواجهة الهيمنة السياسية في السياسة الاقتصادية.