أثارت جريمة قتل جمال خاشقجي المروعة داخل القنصلية السعودية في اسطنبول غضباً عالمياً ضد المملكة المحافظة. فبعد وقتٍ قصير من اختفاء خاشقجي، أشارت جميع الأدلة إلى أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، المعروف باسم مبس، أمر باغتيال خاشقجي وتقطيع أوصال جثته. نفى محمد بن سلمان بشكلٍ قاطع هذه الاتهامات، حيث زعم بدايةً أن خاشقجي قد توفي بعد أن اندلع جدالٌ تطور إلى مشاجرةٍ بالأيدي داخل القنصلية.
شكك معظم المراقبين برواية محمد بن سلمان للأحداث، الذين قالوا إنها ليست سوى قصة غير ملائمة للتستر. وفي نهاية المطاف، لم يكشف السعوديون عن الجثة أو حتى قدموا دليلاً واحداً لدعم ادعائهم. السيناريو المؤكد الوحيد هو أن خاشجقي قُتل لكتابته أعمدةً صحفية تنتقد محمد بن سلمان في صحفية واشنطن بوست.
تأكدت هذه المزاعم بعد أن ذكرت محطة سكاي نيوز العثور على بقايا جثة خاشقجي في حديقة القنصلية. كما نشرت قناة سي إن إن لقطاتٍ من كاميرات المراقبة تظهر أحد أعضاء فريق الاغتيال السعودي أثناء خروجه من القنصلية متخفياً بملابس خاشقجي.
واليوم، تهدد عملية القتل الوحشي هذه خطط محمد بن سلمان الطموحة لإجراء إصلاحاتٍ في المملكة. فقبل عامٍ واحد فقط، كشف للعشرات من الرؤساء التنفيذيين والمستثمرين خطته الضخمة لبناء مدينة رئيسية تبلغ قيمتها 500 مليار دولار. في ذلك الوقت، كان الكثيرون مقتنعين بأن محمد بن سلمان ملتزمٌ بخلق بيئة مفتوحة تجذب المستثمرين.
إلا أن الأخبار عن خاشقجي أثارت قلق كبار المديرين التنفيذيين والمستثمرين، مما أثنى الكثيرين عن متابعة مشاريعهم التجارية في المملكة، إذ كان الملياردير البريطاني ريتشارد برانسون واحداً من أول المديرين التنفيذيين الذين قاموا بتعليق مشروعين سياحيين في البحر الأحمر إثر التقارير غير المبررة عن اختفاء خاشقجي. كما ألغى محادثاتٍ مع المملكة بشأن استثمارٍ محتمل في شركات الفضاء، وهو مشروعٌ تتجاوز قيمته المليار دولار.
وقال برانسون في بيانٍ له “كنت أعقد آمالاً كبيرة على الحكومة الحالية… وزعيمها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.” وأضاف “إن ما حدث في تركيا، إذا ما ثبتت صحته، سيغير بوضوح قدرة أي منا في الغرب على التعامل مع الحكومة السعودية.”
كما اختار عشرات الرواد في مجالات التكنولوجيا ووسائل الإعلام والقطاع المالي الانسحاب من المؤتمر الذي عقد في السعودية نهاية شهر أكتوبر، وأطلق عليه اسم “مبادرة مستقبل الاستثمار.” فقد كان من بين كبار المدراء التنفيذين المنسحبين رؤساء المصرف متعددة الجنسيات، جي بي مورغان تشايس، و مجموعة بلاكستون العملاقة لإدارة الأصول.
قد تؤدي خطوة جي بي مورغان إلى الإضرار بمكانته في المملكة العربية السعودية، فقد ساعد المصرف المملكة في بيع سنداتٍ ضخمة، بما في ذلك صفقة منحت المملكة العربية السعودية 11 مليار دولار. والأهم من ذلك، أن المملكة العربية السعودية استأجرت المصرف لتقديم المشورة بشأن خصخصة أجزاء كبيرة من قطاع النفط المملوك للدولة. يتمثل جوهر هذه الخطة في عرض جزءٍ من أسهم شركة أرامكو، والتي لا تزال أكبر شركة نفطٍ في العالم، للتدوال.
وأفادت التقارير أن ديفيد شويمر، الذي يدير بورصة لندن، من المفترض أن يمتلك الأفضلية على نيويورك في شراء الطرح العام الأولي لشركة أراماكو، لكنه انسحب أيضاً من المؤتمر بعد تقارير عن وفاة خاشقجي. ويبدو أن شويمر لا يهتم كثيراً بتوليد رد فعلٍ سياسي عنيف لتملق محمد بن سلمان، خاصة بعد أن علق ولي العهد إلى أجلٍ غير مسمى بيع أسهم أراماكو في أغسطس الماضي. أحبط هذا الإيقاف المزايدين المحتملين، مما عرض رؤية 2030 التي أعلن عنها محمد بن سلمان للخطر حتى قبل وفاة خاشقجي. واليوم، ضاعفت جريمة القتل من التحديات التي تواجه المملكة لتطويرها.
فقد كتب إريك ريجولي، رئيس المكتب الأوروبي لصحيفة ذا جلوب آند ميل الكندية، “إذا ما كان الاكتتاب العام لشركة أرامكو حاسماً لنجاح رؤية 2030، فهذا أيضاً حال مئات مليارات الدولارات من الاستثمارات الأجنبية المحتملة من أكبر الشركات والأموال في العالم.”
ومع ذلك، يبدو أن بعض المديرين التنفيذيين رفيعي المستوى لديهم الكثير على المحك في حال قطع العلاقات مع المملكة، فبينما انسحب الكثيرون من المؤتمر المقرر في الرياض، أرسل بعضهم ممثلين على مستوى منخفض للمشاركة في الحدث.
ومن الأمثلة على ذلك المدير التنفيذي لشركة بلاك روك الأمريكية للاستثمار. فعلى الرغم من تأكيده انسحابه من المؤتمر، إلا أنه أكد أن شركته لن تقطع علاقاتها مع المملكة، حيث أن ذلك من شأنه أن يمنح الشركات من الأسواق الرئيسية في الصين واليابان ميزة للحصول على العروض والاستثمارات من المملكة العربية السعودية.
وقال جيسون توفي، كبير الاقتصاديين في الأسواق الناشئة في شركة كابيتال إيكونومكس: “في العام الجديد، قد يقل تأثير (قضية خاشقجي)، خاصة بالنظر إلى أن الولايات المتحدة تبدو وكأنها تساعد المملكة العربية السعودية على دفن الحقائق.” كما قال الرئيس الأمريكي دونالد ترمب أنه لا يريد تدمير التعاون الأمني أو مبيعات الأسلحة التي تقدر بمليارات الدولارات إلى الرياض. وعلاوةً على ذلك، فقد طرح ترمب أيضاً فكرة أن “القتلة المارقين” ربما اغتالوا خاشقجي، وهو سيناريو غير محتمل لأنه لا يتم اتخاذ قرارٍ بشأن السياسة الخارجية دون موافقة ولي العهد. ومع ذلك، ستخفف نظرية ترمب من تحميل أي مسؤولية عن الحادث لمحمد بن سلمان.
ولحفظ ماء الوجه، قد تفرض الولايات المتحدة قانون جلوبال ماجنيتسكي، الذي من شأنه فرض حظر على التأشيرات وتجميد أصول أي شخصٍ يعتقد أنه ارتكب انتهاكاتٍ تتعلق بحقوق الإنسان. سيكون لرد الفعل هذا، على الأقل، تأثيرٌ طفيف على اقتصاد المملكة العربية السعودية. وكما قال هاني صبرا، محلل شؤون الشرق الأوسط ومؤسس شركة ألف الاستشارية التي تتخذ من نيويورك مقراً لها، لفَنَك، إن العلاقات الاقتصادية بين المملكة وأميركا يمكن أن تحقق نجاحاً كبيراً في المستقبل، على افتراض أن الرئيس القادم للولايات المتحدة أكثر انتقاداً لمحمد بن سلمان من ترمب.
في الوقت الراهن، يقول صبرا إن قضية خاشقجي تُعرّض الاستثمار الأجنبي المباشر للخطر على المدى القصير، وفي حين أن رؤية 2030 ستبقى سليمةً كمفهوم، سيتم تعليق الإصلاحات الحقيقية. إذ قال صبرا، “يريد المستثمرون الاستقرار وإمكانية التوقع،” وأضاف “ولدت قضية خاشقجي مثل هذا الاهتمام والانتقاد الشديد حيث بدا بالنسبة للمستثمرين أن محمد بن سلمان لا يُقدم أي منهما. علاوةً على ذلك، عزز رد الفعل السعودي الأخرق هذا الشعور السلبي.”