وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

إعادة إعمار ميناء بيروت: منافسةٌ على نفوذٍ جيوسياسي

Port of Beirut
صورة لميناء بيروت في أعقاب انفجار كيماوي ضخم شوه العاصمة اللبنانية ، في 14 آب 2020. Photo: AFP

ماري ليس لاروك

في أعقاب الانفجار الذي دمَّرَ العاصمة اللبنانية في 4 أغسطس 2020، قدمت العديد من الدول عروضاً للمشاركة في إعادة بناء ميناء بيروت فضلاً عن إرسال تعازيهم.

وبعيداً عن كونها أفعال تضامن منزّهة من أي غرض، تشكل هذه الاقتراحات خطوات استراتيجية ضمن لعبة جيوسياسية للحصول على نفوذ أكبر في شرق البحر الأبيض المتوسط. ومن المرجح أن تفوق فرنسا الآخرين في هذه المنافسة نظراً لعلاقاتها التاريخية والثقافية مع لبنان، ناهيك عن تدخلها الحالي للدفع بإصلاحات في البلاد وما تتمتع به من مكانة جيوسياسية.

ما هو المُعرَض للخطر؟

إن إعادة بناء ميناء بيروت، الذي استعاد نشاطه جزئياً، هو أولويةٌ بالنسبة للبنان، فهو بوابة الدخول الرئيسية للواردات، التي تعتمد عليها البلاد إلى حد كبير. وقدر البنك الدولي بالفعل حجم الخسائر الاقتصادية في قطاع النقل وأنشطة الميناء بحوالي 580 مليون إلى 710 مليون دولار أمريكي، بخلاف تكلفة إعادة الإعمار.

وفي أعقاب الانفجار، عرضت العديد من الدولة مقترحات لإعادة بناء ميناء بيروت. ولا ينبغي اعتبار هذه التصريحات تلميحات ودية منزهة من أي غرض: بل هي خطواتٌ استراتيجية في لعبة جيوسياسية للحصول على نفوذٍ أكبر في شرق البحر المتوسط. ويصنف ميناء بيروت، بالفعل، ضمن أهم عشر موانئ في البحر المتوسط ولطالما كان يُعتَبَر بوابة الشرق الأوسط. وبما أن لبنان سيتبنى على الأرجح نظام التشييد والتشغيل ونقل الملكية (BOT) لإنقاذ البنية التحتية ذات الأهمية الاستراتيجية، فإن هذا يعني ضمنياً أن الجهة التي ستتولى مسؤولية إعادة إعمار الميناء – أيّاً كانت – ستتحكم فيه وستكون المستفيد الرئيسي من أنشطته لسنوات قادمة.

اللاعبون: الصين

تضم قائمة المتنافسين مجموعةً من القوى الإقليمية والدولية. وعرضت الكويت سريعاً مساعدتها لاستعادة أنشطة الميناء وتعهدت بإعادة بناء صومعة الحبوب، التي بُنيت، في الأصل، بتمويلٍ من الصندوق الكويتي للتنمية عام 1969. وعلى الرغم من سرعة رد فعل الدولة الخليجية، إلا أن طموحاتها المرتبطة بالميناء لا تمتد على الأرجح لأبعد من هذا الحد.

ووردت تقارير تفيد بأن الصين أيضاً مهتمةٌ بالمشاركة في جهود إعادة الإعمار. وقبل وقوع الانفجار، كانت شركة “China Merchants Port” تضع عينيها على المناقصة العامة الجديدة للسيطرة على إدارة محطة الحاويات ببيروت بدءاً من 2020. وفيما تسيطر الشركات الصينية على العديد من الموانئ في المنطقة – كالإسكندرية في مصر، وحيفا في إسرائيل، وبيرايوس في اليونان – فإن تأمين موطئ قدم لها في لبنان سيعزز هيمنة الصين على طرق التجارة البحرية في شرق البحر المتوسط. وستتوافق هذه الخطوة مع مبادرة الحزام والطريق الصينية، وسيمكن هذا بكين من تجاوز تعقيدات تحدث بسبب توترات سياسية تاريخية عندما تنقل البضائع إلى الدول العربية من ميناء حيفا. ويضع قبول حزب الله للاستثمارات الصينية البلاد في موقع الأفضلية.

غير أن العديد من اللبنانيين يعارضون إدارة الصين لواحدة من أهم منشآت البنية التحتية في البلاد نظراً لميل لبنان التاريخي نحو الغرب. وتعد سيطرة بكين على ميناء هامبانتوتا لمدة 99 عاماً، بعد عجز سيريلانكا عن سداد دين يقدر بأكثر من 8 ملايين دولار للشركات الصينية التي شاركت في بنائه، سابقةً مثيرة للقلق وتعزز هذه المعارضة.

كما أن قبول مقترح محتمل من الصين يحمل في طياته مخاطر واضحة تقضي بإقصاء الولايات المتحدة، التي حذرت حلفائها في الشرق الأوسط من الاستثمارات الصينية بداية الصيف. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الصين لم تعلن رسمياً عن مقترحٍ لإعادة بناء الميناء، وهو ما قد يوحي بأنها غير مهتمة خاصةً أنها مستفيدة أصلاً من الوضع الحالي: إذ تم إعادة تحويل معظم حركة النقل البحري التي تمر عادةً ببيروت إلى ميناء طرابلس، الذي أعادت بكين تأهيله لاستخدامها الخاص.

France flag
صورة للعلم الوطني الفرنسي أمام ميناء بيروت ، 26 أكتوبر ، 2020. Photo: THOMAS COEX / AFP

اللاعبون: فرنسا

تأتي فرنسا بعد ذلك، وهي أول دولة أعلنت استعدادها لإعادة بناء ميناء بيروت. وبالفعل، كتب رودولف سعادة، المدير التنفيذي لشركة “سي إم إيه – سي جي إم”، تغريدةً بهذا الشأن في 7 أغسطس الماضي عندما سافر إلى العاصمة اللبنانية بصحبة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وقبل الانفجار، كانت شركة نقل الحاويات والشحن الفرنسية المنافس الرئيسي بالفعل في مناقصة إدارة محطة الحاويات بالميناء.

وبصفةٍ عامة، فإن فرنسا تظهر بكل تأكيد كخيارٍ طبيعي نظراً لعلاقاتها التاريخية والثقافية بلبنان، فضلاً عن الجذور اللبنانية – الفرنسية لشركة سي إم إيه – سي جي إم. وعلاوة على ذلك، فقد فرضت باريس نفسها كقوة قيادية لإدارة الأزمة: إذ نشرت قوات عسكرية لمساعدة لبنان في أعقاب الانفجار، وشاركت الأمم المتحدة في تنظيم مؤتمر مساعدات دولي، وأصدرت مقترحاً أولياً بإصلاحات للأحزاب السياسية اللبنانية. وإلى جانب هذا الأمر، فإن الاستثمارات الفرنسية لن تثير توتراً مع الولايات المتحدة أو غضب الشعب اللبناني. ولذلك، من المرجح جداً أن يقع الخيار على فرنسا للاشتراك في جهود إعادة إعمار الميناء، وقد تشارك الإمارات في هذا الشأن.

اللاعبون: تركيا

يعزز اهتمام تركيا بميناء بيروت، الذي عبرت عنه في 8 أغسطس الماضي، احتمالية أن تمول فرنسا جهود إعادة إعمار الميناء. ولأن الموانئ التركية الوحيدة في المنطقة موجودةٌ فقط في تركيا نفسها، فإن بيروت تمثل فرصةً لأنقرة لتوسيع وتعزيز نطاق نفوذها. غير أن توسع تركيا في شرقي البحر المتوسط، بدءاً من توقيع مذكرة تفاهم مع حكومة الوفاق الوطني الليبية ووصولاً إلى زيادة أنشطة التنقيب عن المصادر الطبيعية بالقرب من جزيرة قبرص واليونان، قوبل، إلى الآن، بانتقادات لاذعة من قبل باريس، فضلاً عن نشر الأخيرة لقواتها البحرية في المنطقة. وعلى هذا النحو، يُرجح أن تتخذ فرنسا خطوةً لمنع تركيا من بسط نفوذها.

الاشتراك في اللعبة الطويلة

في نهاية المطاف، ستواجه عملية إعادة الإعمار عوائق، بكل تأكيد، بسبب وتيرة الإصلاحات المتعلقة بالفساد المستشري في إدارة الميناء والسياسة اللبنانية بشكلٍ عام. ومن المستبعد أن تستثمر فرنسا، أو أية دولة أخرى، في البنية التحتية قبل إجراء تغييرات هيكلية. وستكون هذه عملية طويلة لأن لبنان عاد إلى المربع الأول بعد استقالة مصطفى أديب، رئيس الوزراء المنتدب حديثاً، لعجزه عن تشكيل حكومةٍ. وإلى ذلك الحين، فإن دور فرنسا البارز في الدفع من أجل إجراء إصلاحات هيكلية سياسية يضعها في موقع أفضلية لحل الأزمة والفوز بميناء بيروت.

“الآراء الواردة في هذه المقالة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر فنك”.