تغوص المملكة العربية السعودية، وهي بلدٌ يتعرض للسخرية لأعرافه البالية شديدة التحفظ، نحو المستقبل بلا هوادة. ففي 24 أكتوبر 2017، كشف ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، عن خططه لبناء مدينةٍ ضخمة تكلف أكثر من 500 مليار دولار في شمال غرب البلاد.
وإذا ما نجح في تحقيق ذلك، ستكون هذه المدينة الضخمة أكبر بـ33 مرة من مدينة نيويورك وتضم منطقة لقطاع مؤسسات الأعمال تبلغ مساحتها 26,500 كلم2، والتي سيُطلق عليها اسم نيوم- المشتقة من كلمة (نيو)، أي الحديث والمستقبل باللغة العربية. أما موقع المدينة، الذي يقع على البحر الأحمر وخليج العقبة، سيمكنها من تعزيز العلاقات الاقتصادية مع بلدانٍ في كلٍ من الشرق الأوسط وافريقيا على حد سواء.
ويعتبر تحقيق هذه المهمة أمرٌ بعيد المنال في بلدٍ يتنافس فيه أفراد العائلة المالكة ورجال الدين المحافظين على السلطة والنفوذ على الشؤون الداخلية.
بيد أن محمد بن سلمان مندفعٌ بشدة، فقد عرض الفيديو الترويجي للمدينة صورةً عن حياة السعوديين والتي وجدها الكثيرون غريبةً عليهم: اختلاطٌ بين الرجال والنساء في الشوارع، وروبوتاتٌ أكثر من البشر، والطاقة المتجددة المصدر الرئيسي للطاقة. وعليه، يأمل المستثمرون نجاح محمد بن سلمان، على الرغم من أن ستيفن هرتوغ، أستاذ مشارك في كلية لندن للاقتصاد، يشكك في الأمر.
فقد قال لمراسلة مجلة سيتي لاب الإلكترونية، ميمي كيرك “سيرغب المستثمرون في رؤية المزيد من التفاصيل قبل المضي قدماً.” وأضاف “ولكن نظراً لمعاناة المملكة العربية السعودية من قيودٍ مالية أكثر مما كان عليه الحال في السابق، قد لا تتمكن من تحقيق استثماراتٍ واضحة قبل حصولها على أموالٍ من القطاع الخاص.”
في حين قال رضا آغا، كبير الخبراء الاقتصاديين لدى في تي بي كابيتال، لرويترز “المشروع بالتأكيد فكرة واعدة وتنطوي على الكثير من الإمكانات، إلا أن العديد من التفاصيل لا تزال بحاجة للتوضيح.”
الوقت يمر بسرعة وعلى السعودية تنويع اقتصادها، الذي يعتمد على صادرات النفط منذ اكتشافه عام 1938. فبعد ثمانين عاماً، بات يشهد إنتاج النفط السعودي تراجعاً، مما يزيد إصرار ولي العهد لتحقيق حلمه.
ومن المقرر افتتاح نيوم في عام 2030، والتي ستعتمد بشكلٍ كبير على قطاعات الأغذية والترفيه والطاقة والمياه والتصنيع والتكنولوجيا الحيوية. كما وعد محمد بن سلمان بأن المدينة ستحتوي على أفضل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، مثل الطائرات بدون طيار ومختبرات النانوبيولوجيا والألواح الشمسية.
يأتي بناء المدينة الضخمة بالتوازي مع برنامج التحول الوطني (المعروف أيضاً باسم رؤية السعودية 2030)، الذي أعلن عنه العام الماضي. وحتى الآن، يبدو أن برنامج التحول الوطني يُمضي قدماً بالرغم من مواجهته لبعض العقبات الرئيسية. فأسعار النفط لم تنخفض فحسب، بل تعرقل المؤسسة الدينية في البلاد التقدم أيضاً. وبالتالي، تم تمديد الجدول الزمني لبعض الأهداف، بينما ألغي البعض الآخر بالكامل.
ومع ذلك، لا يزال برنامج التحول الوطني يهدف إلى خلق 1,2 مليون فرصة عمل في القطاع الخاص، فضلاً عن خصخصة أصول الدولة بحلول عام 2020. ومع ذلك، فإن الغاية الأكبر للبرنامج هي إعادة هيكلة البيروقراطية السعودية حتى يتمكن محمد بن سلمان من إجراء جميع التغييرات التي يرغب بها في المملكة، بل إن الأهم من ذلك هو تحرير رأس المال لبناء المدينة الضخمة.
ومع ذلك، يتساءل النقاد كيف ستكبح المدينة الضخمة البطالة بين الشباب، فغالباً ما تفشل المشاريع التي ترعاها الدولة، مثل نيوم، في تعزيز النظام البيئي التكنولوجي العضوي الذي يولد الابتكار. فالشباب السعودي، بالرغم من أنه يشكل نحو 70% من السكان، يحتاج إلى الوقت لتعلم هذه المهارات إذا ما أرادوا إيجاد عملٍ في نيوم. وإن لم يفعلوا ذلك، ستكون الفرص أمامهم محدودة ذلك أنه سيتم إشراك الروبوتات لأداء الأعمال التي عادةً ما تعرف بمنخفضة الأجر.
رفض محمد بن سلمان هذه المخاوف، مؤكداً أن هدف نيوم أكبر بكثير من توفير وظائف للسعوديين. عوضاً عن ذلك، ستكون المدينة بمثابة مركزٍ تجاري وتكنولوجي جديد للعالم. على الأقل، ينبغي على المدينة أن تساعد في الحفاظ على بقاء المال السعودي داخل المملكة. وكثيراً ما تشجع القوانين شديدة التحفظ في البلاد السعوديين على قضاء إجازاتهم في أماكن أخرى في المنطقة مثل الإمارات العربية المتحدة والبحرين ولبنان.
ويأمل محمد بن سلمان، أنه بحلول عام 2030، سيتمكن السعوديون الأغنياء من زيارة منتجعات ساحل البحر الأحمر، المزمع إنشاؤها جنوب مدينة نيوم. سيتم بناء فنادق فاخرة على طول هذا الساحل، الممتد عبر 50 جزيرة وعلى طول 33,998 كلم2. كما ستستفيد منتجعات ساحل البحر الأحمر من قوانين أكثر تحرراً، مما يجعلها وجهةً جذابة للأجانب. كما ستتم إجازة الكحول وإلغاء أو تقليص القوانين التي تضبط معايير ارتداء النساء للملابس.
ومع ذلك، لا يقتنع الجميع بقدرة المملكة استكمال هذا المشروع، مُشيرين إلى إخفاقاتها السابقة في تحقيق طموحاتها غير الواقعية. وعلى وجه التحديد، عندما حاولت المملكة في نوفمبر 1967 سحب جبالٍ جليدية من القارة القطبية الجنوبية لتزويد البلاد بما يكفي من المياه. كان المشروع سيكلف 100 مليون دولار على الأقل، والتي سيتم انفاقها على مدى ستة أشهر. وعلى الرغم من حماس محمد بن فيصل، نجل الملك فيصل، إلا أنه تم إلغاء المشروع، واعتمدت عوضاً عن ذلك تكنولوجيا تحلية المياه.
وفي الآونة الأخيرة، عانت المملكة لبناء مدينة الملك عبد الله الاقتصادية، التي تقع جنوب موقع مدينة نيوم اليوم. ومن المفترض أن المدينة اليوم تؤوي مليوني شخص، إلا أن عدد ساكنيها لا يبلغ سوى 10 آلاف نسمة. كما لا يزال مركز الملك عبد الله المالي شمال العاصمة الرياض قيد الإنشاء بعد أكثر من عقدٍ من الزمان. وكان من المفترض أن ينافس المركز المالي مدينة دبي باعتباره مركزاً تجارياً دولياً رئيسياً، إلا أنه أبعد ما يكون عن تحقيق هذا الطموح.
ويقول توبي كريغ جونز، الخبير في النفط والماء في المملكة العربية السعودية ومؤلف كتاب مملكة الصحراء، أن مدينة محمد بن سلمان الضخمة هي الأحدث في اتجاهٍ طويل الأمد للاستثمار في مخططاتٍ ضخمة مثل مشروع القارة القطبية الجنوبية. ويقترح أن آل سعود سيكونون أفضل حالاً بالحفاظ على ما يكفي من النفط والمياه لتعزيز التنمية المستدامة.
ومع ذلك، تفتقر منطقة شمال الحجاز، حيث يخطط محمد بن سلمان لبناء نيوم، لكلا هذين الموردين الطبيعيين. فبدلاً من القفز بالمملكة العربية السعودية نحو القرن الواحد والعشرين، يمكن أن تشكل المدينة عبئاً عليها. فالحكومة تكافح بالفعل لتلبية احتياجات الناس الذين يعيشون في الرياض وجدة ومكة والدمام. وفي حال استكمال مدينة نيوم ومنتجعات ساحل البحر الأحمر، يمكن أن تعاني هذه المدن من المزيد من الإهمال، مما يؤدي إلى تفاقم مظالم سكان البلاد، ولا سيما شبابها.
إن التحرر الاجتماعي في المملكة لن يفعل الكثير، كما ينبغي أن تكف السلطات السعودية عن فرض تدابير التقشف بهذه السرعة، وهو الأمر الذي يبدو أن محمد بن سلمان يعرفه. فمع انخفاض أسعار النفط، يخفف بن سلمان اليوم من اقتطاعات الدولة. ومع ذلك، ذكرت تقاريرٌ أنه يخطط لرفع الأسعار المحلية مجدداً بنسبة 80% بحلول شهر يناير 2018، كجزءٍ من برنامجٍ لإلغاء الدعم عن المحروقات ومعادلة ميزانية المملكة.
ومن الواضح أن محمد بن سلمان يعتمد جزئياً على التقشف لتمويل مشروعه الضخم. وبطبيعة الحال، كان بإمكانه سلوك طريق مختلف بتعزيز مهارات الترميز، والحوكمة الرشيدة، والنمو المطرد في قطاع الذكاء الاصطناعي. وعليه، فإن هذه الاستراتيجية، وإن كانت متواضعة، كانت ستزود جيل الشباب بالمهارات اللازمة للمستقبل. ولكن في حال ارتفاع مستويات البطالة، قد ينتهي الأمر باستياء الجيل القادم من ولي العهد المتهور. وبالفعل، محمد بن سلمان يقف الآن عند نقطة اللاعودة. واليوم، توجد المدينة الضخمة على جدول الأعمال، ذلك أن نجاحها حقيقة مُلّحة لتحوّل المملكة العربية السعودية.