وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

اقتصاد الظل يزيد التفاوتات الاجتماعيّة في المنطقة العربيّة

يُعتبر اقتصاد الظل، وما ينتج عنه من تفشّي في العمالة غير المنظمة وغير الرسميّة، أبرز أسباب زيادة التفاوتات الاجتماعيّة وتركّز الثروة والدخل.

اقتصاد الظل
عمال مصريون يحصدون القمح في قرية ساقية المنقادي شمال دلتا النيل بمحافظة المنوفية، مصر. محمد الشاهد / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

يُمثّل اقتصاد الظل، أو الاقتصاد غير الرسمي، مجمل الأنشطة الاقتصاديّة البعيدة عن سيطرة ورقابة الدولة والسلطات المختصّة.

وفي العادة، تنشأ هذه الأنشطة جرّاء ممارسات التهرّب الضريبي أو الالتفاف على الأنظمة الإداريّة المتبعة، بما فيها تلك التي تفرض الالتزام بالحد الأدنى للأجور وتسديد اشتراكات الضمان الاجتماعي للعمّال، أو تلك التي توجب تسجيل المؤسسات في السجلّات التجاريّة بشكل قانوني. ويُطلق في العادة مجموعة من المصطلحات الأخرى للتعريف بهذا النوع من الأنشطة، مثل الاقتصاد الموازي، أو الاقتصاد البديل، أو الاقتصاد الأسود.

ويتكوّن اقتصاد الظل في العادة من جانبين متوازيين. فمن جهة، هناك الشركات والمشاريع التجاريّة غير المصرّح عنها، أو غير المصرّح عن أعمالها للسلطات الضريبيّة.

ومن جهة أخرى، هناك العمالة غير الرسميّة التي تعمل في هذه المؤسسات، أي تلك التي تفتقد للعقود الرسميّة المنظّمة، والتي يفترض أن تضمن حقوق العامل البديهيّة. ويُعتبر توسّع اقتصاد الظل إحدى سمات الدول النامية الأساسيّة، حيث ترتفع نسبة أنشطة اقتصاد الظل إلى حدود ال40% من إجمالي ناتج هذه الدول المحلّي، فيما ترتفع نسبة العاملين في هذه الأنشطة إلى نحو 60% من إجمالي القوّة العاملة في الدول النامية.

وفي الوقت الراهن، ترتفع نسبة سيطرة اقتصاد الظل على الأنشطة الاقتصاديّة في العديد من الدول العربيّة، لتوازي حدود ال55% في مصر مثلًا، وال62% في لبنان، وال66% في قطاع غزّة.

أمّا في الدول التي تشهد توتّرات أمنيّة كبيرة، فارتفعت هذه النسبة إلى حدود ال90% في سوريا، فيما يعمل 59% من العمّال اليمنيين في أنشطة اقتصاد الظل. أمّا بعض الدول العربيّة الأخرى، فتنخفض فيها هذه النسبة نسبيًا، لتبلغ حدود ال30.86% في الجزائر وال34.1% في المغرب وال26.54% في الإمارات.

وبشكل عام، تشير أرقام صندوق النقد الدولي إلى أنّ اقتصاد الظل يلتهم نحو ثلث الناتج المحلّي الإجمالي في الدول العربيّة، وهو ما يتجاوز ضعف معدّلات تفشّي هذه الأنشطة المتقدّمة في الاقتصاد ، والتي يتراوح معظمها ما بين ال14% و16%.

اقتصاد الظل والتفاوتات الاجتماعيّة

يُعتبر اقتصاد الظل، وما ينتج عنه من تفشّي في العمالة غير المنظمة وغير الرسميّة، أبرز أسباب زيادة التفاوتات الاجتماعيّة وتركّز الثروة والدخل.

فالنتيجة الأولى لهيمنة اقتصاد الظل في أي دولة، هي انخفاض معدلات التحصيل الضريبي، مع ما يعنيه ذلك من تراجع في قدرة الدولة على الإنفاق على شبكات الحماية الاجتماعيّة والتعليم المجاني والطبابة الحكوميّة والبنية التحتيّة. وبشكل عام، يُعتبر التهرّب الضريبي ضربًا لأحد أبرز الأهداف التي يفترض أن تحققها أي سياسة ضريبيّة، والمتمثّلة بإعادة توزيع المقدّرات والموارد لمصلحة الفئات الأكثر هشاشة.

وفي حالة لبنان، أدّى تفشّي التهرّب الضريبي على مدى عقود من الزمن إلى بروز أكثر أشكال تركّز الثروة تطرّفًا، حيث استحوذ –قبل الانهيار المالي عام 2019- 10% من اللبنانيين على أكثر من 55% من إجمالي الدخل القومي في البلاد. وهذا ما جعل لبنان يحل في المرتبة الثانية بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعد المملكة العربيّة السعوديّة، على مستوى عدم المساواة وتركّز الثروة.

وهذا الواقع، نتج تحديدًا من تقلّص حجم الإيرادات الضريبيّة إلى أقل من 15% من الناتج المحلّي الإجمالي، مقارنة ب25% في الولايات المتحدة، و34% في دول مجلس التعاون الاقتصادي.

أمّا النتيجة الثانية لتفشّي اقتصاد الظل، فتتمثّل في شعور نسبة من المقيمين بعدم المساواة، جرّاء امتثالهم لواجباتهم الضريبيّة والتنظيمات الحكوميّة وفق القانون، في مقابل تهرّب البعض من هذه الموجبات. وهذا تحديدًا ما يكرّس مبدأ الإفلات من القواعد القانونيّة كمسألة طبيعيّة في المجتمع على المدى البعيد.

وفي الوقت عينه، ينطوي اقتصاد الظل على إجحاف كبير بحق العمّال والمستخدمين. فالعمالة غير الرسميّة، بوصفها عمالة غير مصرّح عنها بحسب القانون، لا تستفيد من أبسط الضمانات القانونيّة البديهيّة، كالحصول على الحد الأدنى من الأجور، أو التسجيل في الضمان الاجتماعي.

وفي العادة، ونظرًا لعدم استفادة هذه الفئة من عقود العمل المنظّمة، غالبًا ما يفتقد عمّال اقتصاد الظل إلى القدرة على اللجوء إلى القضاء لتحصيل حقوقهم من أرباب العمل. وهذا ما يجعل اقتصاد الظل في العادة أبرز أسباب استضعاف القوّة العاملة وحرمانها من ظروف العمل اللائق.

أمّا الأهم، فهو أنّ تفشّي اقتصاد الظل يعمّق من التفاوتات الجندريّة في سوق العمل. إذ لحظت الدراسات أنّ نسبة العاملين في اقتصاد الظل في صفوف الرجال ترتفع إلى نحو الضعف تقريبًا، مقارنة بالنساء، نظرًا لطبيعة ظروف العمل غير الآمن في هذا النوع من الأنشطة الاقتصاديّة.

أسباب متعدّدة لتفشّي اقتصاد الظل

تتعدّد أسباب تفشّي وتوسّع اقتصاد الظل، والعمالة غير الرسميّة، في الدول العربيّة. ففي حالة لبنان، ارتبط ارتفاع نسبة هذه الأنشطة بضعف أنظمة الرقابة الضريبيّة، وتفشّي استغلال العمالة الأجنبيّة بشكل غير شرعي وغير منظّم، وبغياب أي ضمانات أو حقوق وظيفيّة.

أمّا في سوريا، فقد ارتفعت نسبة اقتصاد الظل من إجمالي الناتج المحلّي بنحو ثلاث مرّات بين عامي 2010 و2022، جرّاء المعارك العسكريّة التي أدّت إلى تفلّت الاقتصاد المحلّي خارج أي ضوابط أو تنظيمات حكوميّة.

في حالة مصر، ارتفعت نسب اقتصاد الظل تاريخيًا نتيجة التهرّب من البيروقراطيّة الحكوميّة والإجراءات المعقّدة، من قبل القطاعات الحرفيّة والزراعيّة في الأرياف والمؤسسات المتناهية الصغر. كما ارتفعت هذه النسب في الأردن تهرّبًا من الزيادات الضريبيّة التي كانت تفرضها الحكومات المتعاقبة.

وشهدت اليمن ارتفاعات كبيرة في نسبة العمالة غير الرسميّة، بالتوازي مع الانقسام الذي شهدته الدولة مؤخرًا، وخروج مناطق واسعة من البلاد من نطاق التنظيمات الاقتصاديّة والإداريّة الحكوميّة.

لكن في جميع هذه الحالات، ظلّ العامل المشترك عدم اقتناع أرباب العمل بجدوى الانتقال إلى الاقتصاد المنظّم، والتصريح عن الأعمال التجاريّة للجهات الضريبيّة. كما ساهم بالدفع بهذا الاتجاه عدم سعي العمّال، أو عدم امتلاكهم القوّة التفاوضيّة، لمحاولة تنظيم عملهم وحصولهم على الضمانات القانونيّة التي تؤمّنها العمالة النظاميّة.

وفي بعض الأحيان، كحالة الريف المصري، ساهم انتشار الأنشطة الزراعيّة العائليّة المحليّة في رفع معدلات العمالة غير الرسميّة، التي لم ترَ ضرورة لإجراءات التنظيم الحكوميّة.

المشكلة الأساسيّة تكمن في أنّ مكافحة العمالة غير الرسميّة، التي تلجأ إلى اقتصاد الظل، قد تفضي إلى تهميش فئات هشّة من سوق العمل.

وهذا تحديدًا ما يفترض أن يدفع الحكومات إلى وضع الإجراءات الكفيلة بدفع أرباب العمل إلى التصريح عن أعمالهم التجاريّة، عبر الضوابط الإداريّة والتنظيمات الحكوميّة، بدل استعمال القبضة الأمنيّة لمكافحة هذا النوع من الأنشطة الاقتصاديّة.

في المقابل، ثمّة العديد من أنشطة اقتصاد الظل التي تنتج عن عمالة بعض الأفراد في المهن المستقلّة، والتي لا ترتبط بأي رب عمل، كحالة الباعة المتجوّلين على سبيل المثال. وهذا ما يفترض أن يدفع الحكومات إلى البحث عن نوعيّة شبكات الحماية الاجتماعيّة، القادرة على حماية هذه الفئات الأكثر هشاشة.