وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

العيش في ليبيا معاناة يومية

الشيف الليبية زينب محمد تطهو الطعام للمقاتلين المتمردين في ليبيا
الشيف الليبية زينب محمد تطهو الطعام للمقاتلين المتمردين في ليبيا. Photo Flickr

كانت ليبيا، لعدة قرون، بلد فقير يتكون من عدة مدن صغيرة وأرض تنتج القليل. غيّر اكتشاف النفط في الخمسينات الوضع، وحوّل ليبيا من بلد محتاجة إلى مملكة غنية بالنفط، لم تعرف حرفياً أين تنفق أموالها. وكان معمر القذافي، في انقلابه عام 1969، يهدف إلى تحويل البلاد إلى دولة رفاه، وجعلها منبراً لثورته الدولية المنشودة.

كان لنظام الجماهيرية الغريب الذي أنشأوه القذافي العديد من السلبيات، إلا أنه أيضاً كان له بعض الإنجازات، مثل توفير الرعاية الصحية غير المكلفة أو المجانية (للفقراء)، والتعليم، والسكن، والمياه، والطاقة. فقد ترعرع العديد من الليبيين كالأطفال الأغنياء، حيث كانوا يطمحون بالحصول فقط على الوظائف الجيدة، تاركين المهام الأقل أجراً والتي لا تتطلب البراعة للعمال الأجانب. لم يكن العمل يشكّل أولوية ملحة للشباب الليبي، حيث كان يُتوقع من الدولة توفير العمل للمواطنين.

ومع سقوط نظام القذافي عام 2011 واستمرار الحرب الأهلية الليبية، بدأت هذه الحقوق، التي كانت من المسلمات، تتلاشى. ومع التقسيم الفعلي للبلاد عام 2014 والتفتت التدريجي اللاحق للبلاد، لم يكن هذا سوى كرش الملح على الجرح. وفي طرابلس، التي لا تزال العاصمة الرسمية للبلاد وأكبر مدنها، باتت هذه المشاكل أكثر حدة.

فقد أصبح توفير الضروريات الأساسية مثل المياه الجارية والكهرباء، أمر غير مؤكد. وكان القذافي قد أنشأ نظاماً لسحب المياه الأحفورية من أعماق الأرض وتوزيعها على المناطق النائية في الصحراء الليبية. فقد تم الآن تدمير “النهر الصناعي العظيم” بشكلٍ جزئي، وبات شبح العطش يلوح في العديد من المناطق المعزولة. حتى أن طرابلس تعاني من الإنقطاعات الأسبوعية في إمدادات المياه، وبالتالي، يضطر المواطنون إلى شراء زجاجات المياه، التي غالباً ما يتم استيرادها من تونس من خلال السوق السوداء.

لم يكن عدم توفر الكهرباء أمراً ممكناً في عهد القذافي، فقد كانت ليبيا أحد أكبر منتجي النفط في العالم، الأمر الذي جعل الكهرباء والوقود متوفران لجميع المواطنين. وفي عام 2015، يستمر انقطاع التيار الكهربائي لساعات في طرابلس، مما يؤثر على جميع الخدمات الحديثة. وفي فصل الصيف، عندما تتعدى درجات الحرارة الـ40 مئوية، تصبح المساكن جهنمية عندما تنتقطع الكهرباء عن مكيفات الهواء. كما أن هناك أيضاً نقصاً متكرراً بالوقود، مما يتسبب بطوابير طويلة أمام محطات البنزين، الأمر الذي يُذكرنا بالعراق بعد عام 2003. أما القطاع الصحي، حيث تقع غالبية مستشفيات ليبيا الرئيسية في طرابلس، فيعاني معاناة شديدة من هذه المشاكل، وبخاصة لأن غالبية الموطفين الدوليين فروا من البلاد.

فضلاً عن ذلك، يتم استيراد 90% من القمح المستخدم لصنع الخبز، جزء من النظام الغذائي الأساسي في ليبيا، من الخارج وهو مدعومٌ من قِبل الدولة، ولكن الآن، مع إنهيار الدولة المركزية، تخفضّ الحكومتان في البلاد هذا الدعم. وبالتالي، يواجه الليبيون احتمالية اختفاء الخبز عن موائدهم، في حال لم تستطع الدولة بعد الآن استيراد القمح. ويخشى كثيرون أن تقوم الدولة بإيقاف جميع الواردات، مما قد يؤدي إلى أزمة غذائية إلى جانب نقص المياه.

أما فيما يتعلق بالأمن والتنقل، يشكّل هذا كابوساً يعايشه الليبيون يومياً، إذ تعتبر الطرقات في ليبيا من القضايا الأساسية، حيث تندلع الإشتباكات المسلحة المتقطعة بين المليشيات المتحاربة، ولكن تنطوي أيضاً الصراعات المحلية على البنادق والأسلحة الثقيلة.

كما يعتبر الخطف مقابل الفدية من الأخطار المتنامية الأخرى، مما يجعل من الصعب على الليبيين مغادرة بلداتهم. حنان، شابة تبلغ من العمر 28 عاماً، كان يُفترض أن تغادر إلى مصر من طرابلس في سبتمبر 2015 لإلقاء محاضرة، اضطرت إلى إلغاء رحلتها ظناً منها أن والدها قد خُطف. فقد قالت “غادر طرابلس في الصباح ولم يعد في الليل، لم نتمكن من التواصل معه لأكثر من 24 ساعة. عاد في الليلة التالية وقال أنه كان في مزرعة قريبه تبعد 40 كيلومتراً خارج طرابلس، ولم يكن هناك أي تغطية لبشكة الهاتف الخليوي أو حتى كهرباء لإعادة شحن بطارية الهاتف. وبسبب إندلاع إشتباكات بين مجموعتين من المليشيات على الطريق، لم يتمكن من مغادرة المزرعة. اضطررت إلى إلغاء رحلتي إلى المؤتمر في مصر بسبب مبدأ الريبة.”

محمد صالح، وهو طالب ليبي يدرس في تونس، يروي رحلته من مسقط رأسه في الزاوية إلى جامعته في تونس: “كانت في السابق رحلة سهلة، فقد كنت في بعض الأحيان أقضي عطلة نهاية الأسبوع في الزاوية وأعود إلى مقاعد الدراسة يوم الإثنين. أما الآن، أواجه فوضى عارمة إذا ما أردت الترحال في الاتجاهين، إذ عادةً ما تكون الطائرات محجوزة بالكامل، إلى جانب التأخير وإلغاء الرحلات. وبالتالي، ليس أمامنا أي بديل سوى الطريق البري، الذي يعتبر محفوفاً بالمخاطر في الوقت الراهن، فضلاً عن كونه طويل جداً (10 ساعات)، كما لا يمكن التنبؤ بالحدود، إذ عادةً ما يتم فرض قوانين جديدة في اللحظات الأخيرة.”

كما ساهمت الأزمة الإقتصادية بالويلات التي تعاني منها الأمة التي تعاني بالفعل من الكرب بسبب انعدام الأمن والضروريات الأساسية.

فقد استنزف البنك المركزي الليبي من النقد، حيث أن إنتاج النفط في أدنى مستوياته، كما أن تدفق السيولة من مؤسسات الدولة الليبية في الخارج متوقف بسبب الحصار. ومن ناحية أخرى، تزدهر التجارة غير الرسمية بسبب البضائع المدعومة التي يتم جلبها ومن ثم بيعها بأسعار تنافسية في الأسواق الداخلية والخارجية. فقد أصبح الدعم عبئاً ثقيلاً على حكومة طرابلس، التي تدرس الآن قطع جميع أشكال الدعم. وهذه ليست سوى سياسات التقشف التي تقتضيها الحرب، إلا أنها أيضاً متطلبات تفرضها المؤسسات الدولية منذ أن كانت ليبيا بلاداً موحدة في العملية الإنتقالية.

كما تؤثر المشاكل في البنك المركزي على البنوك الأخرى، فضلاً عن الراوتب. يروي أستاذ جامعي يُدير أيضاً منظمة غير حكومية في طرابلس كيف أنّ التحويلات المالية من الخارج تستغرق أسابيع، وفي بعض الأحيان، أشهراً لتصل. ويرجع هذا بشكلٍ جزئي إلى اشتباه السُلطات المركزية، حيث تريد طرابلس تتبع كل بنس، من أجل مكافحة الإرهاب وتجارة المخدرات، ولكن هناك أيضاً عدم كفاءة وتخبط في جميع أنحاء النظام المصرفي. ينتظر البروفيسور الحصول على راتبه الحكومي منذ شهرين.

يعتبر العيش في ليبيا في عام 2015 معاناة يومية، فلا يعلم أحد ما يحمله اليوم التالي. وفي كل مرة تعلن الأمم المتحدة عن الوصول إلى اتفاق، ينهار التحالف على الفور.