وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الأزمة الاقتصاديّة والإفقار الجماعي في لبنان

الإفقار الجماعي في لبنان
صورة التقطت في العاصمة اللبنانية بيروت تظهر المنتجات الغذائية التي تشكل حصة غذائية في إطار حملة إغاثة لمساعدة الأسر المحتاجة في جميع أنحاء لبنان. Patrick BAZ / AFP

علي نور الدين 

باستثناء الخضّات الاقتصاديّة التي رافقت الحروب الكبرى وعمليّات التهجير الجماعي، قلّما شهد التاريخ الحديث أزمات ماليّة أفضت إلى حالة من الإفقار الجماعي السريع جدّاً، كما جرى في لبنان آخر عامين. ربما لهذا السبب بالتحديد، قرر البنك الدولي أن يصنّف الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة كواحدة من أسوأ ثلاث أزمات ماليّة مرّ بها العالم خلال ال150 عاماً الماضية، إلى جانب الانهيار الذي ضرب تشيلي عام 1926، وأزمة إسبانيا بعد حربها الأهليّة في الأعوام الممتدة بين 1936 و1939.

 

وربما لهذا السبب أيضاً، توقّع البنك الدولي أن يحتاج لبنان إلى فترة يمكن أن تصل إلى 19 عاماً ، لتخطّي تداعيات هذا الانهيار القاسي، سواء من جهة حجم الاقتصاد المحلّي، أو من ناحية قدرة المقيمين الشرائيّة. 

في واقع الأمر، ثمّة الكثير من الإحصاءات التي حاولت قياس توسّع رقعة الفقر في البلاد، وخصوصاً من جهة نسبة العائلات التي انتقلت خلال العامين الأخيرين من شريحة الفئات المتوسّطة الدخل، إلى شريحة الفئات الفقيرة والأكثر فقراً. أرقام الأسكوا أشارت مثلاً إلى أنّ نسبة العائلات التي انتمت إلى فئات الفقراء والأكثر فقراً بلغت حدود ال27.9% في بدايات الانهيار المالي عام 2019، قبل أن ترتفع هذه النسبة إلى أكثر من 55.2% خلال العام الماضي.

أما اليوم، وبعد أكثر من سنتين من حصول الإنهيار، فباتت إحصاءات الأسكوا نفسها تشير إلى أنّ نسبة الأسر التي تعاني من فقر متعدد الأبعاد بلغت مستوى ال82%. مع الإشارة إلى أنّ مفهوم الفقر المتعدد الأبعاد وسيلة لقياس مستوى الفقر، بما يشمل الظروف التعليميّة والصحيّة والخدماتيّة، عوضاً عن حصره بالدخل الفردي فقط. 

وحين ترتفع معدلات الفقر إلى هذا المستوى، يصبح من الطبيعي أن يستنزف تأمين المواد الغذائيّة والطبابة والفواتير الشهريّة أكثر من 97.5% من مدخول الأسر المقيمة في لبنان كمتوسّط عام، وهو ما لا يُبقي لهذه الأسر أكثر من 2.5% من مدخولها لتغطية جميع نفقات التعليم والسكن والنقل والملبوسات وغيرها من الحاجات اليوميّة الملحّة. ولهذا السبب بالتحديد، باتت ثلثي الأسر المقيمة في لبنان، بحسب الإحصاءات، غير قادرة على تغطية حاجاتها ومصاريفها الشهريّة من مدخولها السابق، وهو ما يترجمه ارتفاع نسبة القابعين تحت خط الفقر في أرقام الأسكوا. 

من الناحية العمليّة، تتقاطع أسباب المشهد ما بين انهيار سعر صرف الليرة اللبنانيّة، وما يعنيه ذلك من انخفاض لقدرة رواتب المقيمين الشرائيّة، في مقابل التضخّم القاسي الناتج عن اعتماد السوق على السلع المستوردة. كما فاقم من سوداويّة المشهد موجات صرف العمّال الجماعي، وإقفال المؤسسات التجاريّة والصناعيّة، وما نتج عن هذه التطوّرات من ارتفاع في معدّلات البطالة وتناقص في مداخيل الأسر المقيمة. وأخيراً، لعب غياب شبكات الحماية الاجتماعيّة دوره في ترك الأسر المقيمة دون أي دعم رسمي، في ظل تراجع قدرتها على تأمين أبسط مقومات العيش. 

في محصّلة كل هذه العوامل، توسّعت رقعة الفقر في المجتمع اللبناني، وهو ما انعكس في جميع المؤشّرات التي تعكس تحوّل نمط استهلاك المقيمين في لبنان، سواء من ناحية حجم الاستيراد أو حجم الناتج المحلّي ككل. كما انعكس في مخاطر جديدة استجدّت على المستوى الاجتماعي، وتحديداً تلك المتعلّقة بالأمن الغذائي وقدرة الأسر المقيمة في لبنان على تأمين حاجاتها الغذائيّة اليوميّة. ولهذه الأسباب، بات المجتمع اليوم أسير الحاجة إلى المعونات الإنسانيّة من الخارج، تحت طائلة الجوع. وفي مقابل كل هذه المخاطر الداهمة، لا يوجد اليوم أي خطّة رسميّة من قبل الحكومة  لكيفيّة التعامل مع هذا الواقع. 

سعر الصرف والتضخّم ومعدلات الفقر

تظهر أرقام الجمارك اللبنانيّة أن البلاد استوردت خلال العام الماضي ما يقارب ال11.31 مليار دولار من السلع والخدمات من الخارج، في مقابل صادرات لم تتجاوز قيمتها ال3.56 مليار دولار خلال الفترة نفسها، فيما يمثّل الفارق بين القيمتين، والبالغ نحو 7.75 مليار دولار، ما يُعرف بالعجز التجاري. يلخّص هذا المشهد واقع القطاعات الانتاجيّة الهشّ في لبنان، واعتماد البلاد على الاستيراد بشكل أساسي لتأمين الغالبيّة الساحقة من حاجات المقيمين الاستهلاكيّة، بما فيها المواد الغذائيّة والأدوية والمحروقات وسائر السلع الأساسيّة. مع الإشارة إلى أن هذا الواقع بالتحديد مثّل أحد الأسباب التي فاقمت الأزمة الماليّة، بالنظر إلى استنزاف الاستيراد للعملة الصعبة الموجودة في الأسواق.

في كل الحالات، بما أن الأسواق تعتمد على السلع والخدمات المستوردة بشكل أساسي لتأمين حاجات المقيمين الاستهلاكيّة، فالنتيجة الحتميّة لهذا الواقع هي ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخّم بشكل سريع في السوق المحلّي، بمجرّد حصول أي ارتفاع في سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانيّة، نظراً لكون كلفة الاستيراد من الخارج تتحدد بالعملة الصعبة. ولهذا السبب بالتحديد، يُظهر مؤشّر أسعار المستهلك الذي تنشره إدارة الإحصاء المركزي في لبنان أن أسعار السوق تضاعفت بنحو 5.66 مرّات منذ بداية 2019، بفعل التدهور السريع في قيمة الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار.

وهذا المؤشّر يلخّص في العادة التحوّلات في أسعار سلّة من السلع والخدمات التي تستهلكها الأسر المقيمة بشكل شهري، بما فيها أسعار السكن والكهرباء والغذاء والطبابة والتعليم وغيرها. وفي العام 2021 وحده، تُظهر الإحصاءات أن أسعار السوق ارتفعت بنحو 144% ، نتيجة استمرار التهاوي في سعر صرف الليرة.

في مقابل هذا الارتفاع السريع والجنوني في الأسعار، لم يتم حتّى اللحظة العمل على تصحيح شامل للأجور والرواتب، سواء في ما يخص موظفي القطاع العام، أو في ما يتعلّق بالرواتب التي تدفعها المؤسسات الخاصّة. وبما أن الغالبيّة الساحقة من الرواتب التي لم يتم تعديلها مقوّمة بالعملة المحليّة، فالنتيجة كانت تدهور قيمة هذه الرواتب، مقابل أسعار السلع والخدمات الموجودة في السوق، ومقابل قيمة الدولار الفعلي. وبفعل هذا الواقع، أصبحت قيمة الحد الأدنى للأجور، المحدد عند 675 ألف ليرة لبنانيّة شهريّاً، لا تتجاوز ال29 دولار أميركي بحسب سعر الصرف الرائج  في السوق الموازية، بعد أن كانت هذه القيمة توازي نحو 450 دولار بحسب سعر الصرف الرائج قبل الأزمة. 

وبذلك، تحوّل تدهور سعر الصرف، وما نتج عنه من تضخّم وتراجع في قيمة الرواتب، إلى أحد أسباب تدنّي قيمة المداخيل، وبالتالي ارتفاع نسبة العائلات المصنّفة في عداد الأسر الفقيرة أو الأكثر فقراً. ومع استمرار التدهور اليومي في قيمة الليرة اللبنانيّة، يستمر الانخفاض في قدرة الأسر على تأمين حاجاتها الأكثر حساسيّة، وهو ما يدفع جميع المؤسسات الدوليّة اليوم إلى قرع ناقوس الخطر اتجاه مآلات أزمة سعر الصرف. 

إقفال المؤسسات ومعدلات البطالة

منذ بداية الأزمة، تراجع الطلب في الأسواق التجاريّة كنتيجة مباشرة لتراجع القدرة الشرائيّة للمقيمين، وهو ما أدى إلى إقفال أكثر من 40% من المحال والمراكز التجاريّة. أما ما تبقّى من مؤسسات، فاتخذت قرارات بالعمل بالحد الأدنى من النشاط التجاري، وهو ما أدّى إلى قيامها بموجات صرف جماعيّة للموظفين والعمّال لتخفيض كلفتها التشغيلية. وفي القطاع السياحي، أدّت الأزمة أيضاً إلى إقفال أكثر من 35% من المؤسسات العاملة في هذا القطاع، فيما قامت سائر المؤسسات التي استمرّت بالعمل بتخفيض ساعات عملها وصرف جزء من موظفيها، نتيجة شح المحروقات وعدم توفّرها لتشغيل المؤسسات. 

كل هذه التطوّرات أدّت إلى زيادة نسبة البطالة حتّى تجاوزت حدود ال36% في نهاية العام الماضي وفقاً لتقديرات وزارة العمل اللبنانيّة، فيما تقدّر الوزارة أن تتجاوز هذه النسبة مستوى ال41% في نهاية هذا العام. وحتّى في ما يتعلّق بالذين لم يخسروا وظائفهم بعد، تشير أرقام إدارة الإحصاء المركزي إلى أن أكثر 55% من هؤلاء يعملون بشكل غير نظامي، أي من دون أي استقرار وظيفي يضمن رواتب مستقرّة على المدى البعيد. مع الإشارة إلى أن معدلات البطالة هذه لم تكن تتجاوز حدود ال11.3% في عام 2018، أي قبل عام واحد من حصول الانهيار المالي.  

نتيجة ارتفاع معدلات العاطلين عن العمل، تراجعت المداخيل التي لطالما استفادت منها الأسر المقيمة قبل الأزمة بشكل كبير، وهو ما ساهم تلقائياً في زيادة نسبة الفقر التي أشارت إليها الإحصاءات الأخيرة. ومع استمرار التدهور في ظروف عمل جميع القطاعات التجاريّة والسياحيّة، ناهيك عن تدهور واقع القطاعين الزراعي والصناعي، تستمر موجات الصرف الجماعي للموظفين والعمال، وتستمر معها المأساة الناتجة عن فقدان العائلات المقيمة مصدر دخلها. وباستثناء الهجرة التي تمثّل خيار تقليدي للعمال اللبنانيين، لا يوجد اليوم أي بديل يعوّض لهذه الأسر مصدر دخلها المفقود.

ملامح الفقر: تحوّل أنماط الاستهلاك

في الواقع، يسهل تلمّس ملامس الفقر بمجرّد مراجعة أرقام وأنماط استهلاك الأسر المقيمة في لبنان. فخلال العام الماضي مثلاً، انخفض معدّل استيراد المواد الغذائيّة بنحو 37.8%، دون أن يكون ذلك على حساب اللجوء إلى الإنتاج المحلّي نظراً لتدهور ظروف القطاع الزراعي في ظل الأزمة. بمعنى آخر، تشير هذه الأرقام إلى أنّ استهلاك الأسر المقيمة للسلع الغذائيّة تراجع منذ بداية الأزمة، كنتيجة لتوسّع رقعة الفقر في المجتمع. كما تشير الأرقام إلى تراجع قيمة الملبوسات المستوردة بنحو 65.6% خلال العام الماضي، وإلى تراجع استيراد الأحذية بنسبة بلغت 58%، دون أن يترفع في المقابل الطلب على المنتجات المحليّة من هذه السلع.

وفي المحصّلة، انخفض الطلب خلال العام الماضي على هذا النوع من المنتجات في السوق المحلّي بنسبة 70%، كنتيجة لتراجع قدرة العائلات على شراء الملبوسات والأحذية الجديدة. 

كل هذه الأرقام تؤكّد مجدداً أن الأزمة طالت وبشكل جدّي قدرة المقيمين في لبنان على تأمين أبسط مقوّمات الحياة، وهو ما دفع عدد كبير من هؤلاء إلى الاعتماد على المساعدات الخارجيّة الإنسانيّة لتأمين هذه الحاجات. واليوم، بات لبنان ثالث أكثر الدول تلقياً للمساعدات الإنسانيّة، بعد أن بات يستحوذ وحده على نحو 5.8% من مجموع التمويل الإنساني في العالم، ليؤمّن حاجات أكثر من 2.27 مليون شخص في مختلف المناطق اللبنانيّة. وهذه المساعدات صارت المعيل الأساسي لهذه الأسر لتأمين احتياجاتها الطبيّة والغذائيّة والتعليميّة، في ظل تراجع قدرة الدولة على تأمين هذه المساعدات.

في ظل هذا الواقع، يستمر التخبّط الرسمي والحكومي في التعامل مع الأزمة، وخصوصاً من خلال تعثّر الحكومة الحاليّة وفشلها في عقد جلسات رسميّة منتظمة قادرة على التعامل مع الانهيار المالي. فبفعل الخلافات السياسيّة، توقّفت اجتماعات مجلس الوزراء منذ 12 تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي، وتوقّف بذلك العمل على عدد كبير من الملفات المعيشيّة التي كان يفترض أن تتعامل مع تفشّي الفقر، وأن تؤمّن للفئات الأكثر هشاشة الحد الأدنى من شبكات الحماية الاجتماعيّة. وهذا الواقع تحديداً هو ما يفاقم جميع آثار الانهيار على هذه الفئات.