وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الحرب على لبنان ومصالح شركات السلاح

إن المكاسب المالية الناجمة عن صراعات مثل الحرب على لبنان تسلط الضوء على تأثير مصالح شركات السلاح على السياسة الخارجية والاستراتيجيات العسكرية على مستوى العالم.

الحرب على لبنان
طائرات مقاتلة إسرائيلية من طراز F35 I. جاك جيز / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

لطالما ارتبطت الحروب في جميع أنحاء العالم بمصالح كبرى شركات السلاح الغربيّة، وهو ما يفسّر اهتمام هذه الشركات بتكوين لوبيات مؤثّرة في مراكز القرار السياسي. الحرب، أو الإعداد لها، أو أدوات الردع العسكري، هي مصدر الطلب الأساس، الذي يستهلك إنتاج ومعروض هذه الشركات.

والحرب في الوقت عينه أداة تسويق، لاختبار واستعراض كفاءة الإنتاج العسكري وفعاليّته، وهو ما يزيد مجددًا الطلب على هذا الإنتاج. لذلك، يمكن دائمًا رصد التحوّلات السريعة في أرباح المستثمرين في شركات السلاح الكبرى، بالتوازي مع التطورات العسكريّة المتصلة بمنتوجاتها.

لم تكن الحرب الإسرائيليّة الراهنة على لبنان استثناءً. إذ فور ظهور أولى مؤشّرات توسّع هذه الحرب في شهر أيلول/سبتمبر 2024، شهدت العديد من شركات السلاح الغربيّة والإسرائيليّة قفزات سريعة في أسعار أسهمها. وهذا ما دلّ على هويّة أبرز الشركات المستفيدة من هذه الحرب، والمرتبطة بعقود تسليح مع الجيش الإسرائيلي.

وكان من الواضح أنّ هذه التحوّلات السريعة في أسواق الأسهم قد ارتبطت بحدثين كشفا النوايا التصعيديّة الإسرائيليّة: الغارة الإسرائيليّة التي قضت على قيادة قوّة الرضوان في حزب الله في 20 أيلول 2024، وعمليّة اغتيال أمين عام الحزب حسن نصر الله التي نفذتها إسرائيل بعد أسبوع، في 27 أيلول/سبتمبر 2024.

شركات السلاح الأميركيّة والإسرائيليّة

العودة إلى بيانات السوق، تُظهر أن أسهم شركة “لوكهيد مارتين” الأميركيّة قد شهدت ارتفاعات متتالية وسريعة في أسعارها، من 565.18 دولار أميركي قبل الغارة على قيادة قوّة الرضوان، إلى 605.86 دولار أميركي في مطلع شهر تشرين الأوّل/أكتوبر 2024، أي بعد اتساع رقعة الحرب على لبنان بشكلٍ واضحٍ.

وبهذا الشكل، حقّقت الشركة ارتفاعًا بنسبة 7.1% في سعر أسهمها، خلال فترة لم تتجاوز الأسبوعين من الزمن، في تطوّر لم يكن من الممكن ربطه إلا بالأحداث في لبنان.

ولفهم اتصال “لوكهيد مارتين” بالأحداث في لبنان، تكفي الإشارة إلى أنّ الشركة الأميركيّة تنتج طائرات “أف-16” و”أف-35″، التي تستخدمها الآن إسرائيل بشكلٍ مكثّفٍ في حربها على لبنان، بالإضافة إلى قطع غيار وأنظمة صواريخ هذه الطائرات. وبهذا المعنى، كان من المتوقّع أن يؤدّي توسّع الصراع إلى المزيد من الطلب على منتجات هذه الشركات، وخصوصًا الذخائر التي يطلقها بشكلٍ يومي سلاح الجو الإسرائيلي.

ومن الجدير التنويه إلى أنّ “لوكهيد مارتين” تنتج العديد من أصناف الأسلحة الأخرى التي يستعملها الجيش الإسرائيلي في حربه على لبنان، مثل صواريخ “هيلفاير” التي تُستخدم لتنفيذ الاغتيالات، وتقنيّات توجيه القذائف الذكيّة. مع الإشارة إلى أنّ الشركة رفعت تقديراتها لإيراداتها خلال العام 2024، إلى حدود الـ 71 مليار دولار، بفعل استمرار وتوسّع الحرب في الشرق الأوسط وأوكرانيا.

خلال الفترة عينها، شهدت أسعار أسهم شركة “رافيال” الإسرائيليّة ارتفاعًا بنسبة أكبر، ناهزت الـ 12%، على الرغم من تعرّض مجمّعات الشركة في شمال مدينة حيفا لاستهدافات صاروخيّة متكرّرة من جانب حزب الله.

وهذا التطوّر، يرتبط بكون الشركة المنتج الأساس للعديد من أصناف الأسلحة المُستخدمة حاليًّا من قبل الجيش الإسرائيلي في حربه على لبنان، مثل قذائف “سبايس 2000” الذكيّة. ومن المعلوم أنّ هذه القذائف اكتسبت شهرة كبيرة بعد استخدامها في عمليّات القصف العنيفة على الضاحية الجنوبيّة لبيروت، بما في ذلك عمليّة اغتيال نصر الله نفسها.

في المقابل، حقّقت شركة “نورثروب غرومان” الأميركيّة زيادة أكثر تواضعًا في قيمة سهمها، بنسبة 4.2% خلال تلك الفترة.

وعلى الرغم من محدوديّة الزيادة في أسعار أسهمها، تُعتبر الشركة من أبرز المستفيدين من توسّع الحرب الدائرة في لبنان، بالنظر إلى تخصّصها في إنتاج الذخائر والمعدّات التي تستخدمها مروحيّات “أباتشي” ضمن سلاح الجو الإسرائيلي. كما تقدّم الشركة خدماتها لأنظمة الرادار والتجسّس عبر الأقمار الاصطناعيّة، المستخدمة من قبل الجيش الإسرائيلي في عمليّاته العسكريّة.

وعلى نحوٍ مماثلة، ارتفعت أسهم شركة “أر. تي أكس. كورب.” الأميركيّة بنسبة 5%، خلال الفترة الممتدة بين اغتيال قادة قوّة الرضوان وبداية شهر تشرين الأوّل/أكتوبر. وجاء هذا الارتفاع على خلفيّة توقّع المستثمرين المزيد من الأرباح التي ستحقّقها الشركة، بالنظر إلى تخصّصها في إنتاج ذخائر منظومة القبّة الحديديّة، التي يعتمد عليها الجيش الإسرائيلي حاليًا لاعتراض الصواريخ القصيرة المدى.

في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024، برزت شركة “بوينغ” الأميركيّة كأحد أبرز الشركات المستفيدة من تصاعد التوتّرات الجيوسياسيّة في منطقة الشرق الأوسط. إذ وقّعت الشركة عقدًا بقيمة 5.2 مليار دولار أميركي، لتزويد إسرائيل بـ 25 مقاتلة من نوع “أف-15″، مع منح إسرائيل خيار شراء 25 مقاتلة إضافيّة من النوع عينه.

ومن المعلوم أنّ هذا النوع من المقاتلات تختص بتوجيه الضربات البعيدة المدى، حيث يبلغ مدى تحليقها أكثر من 2,222 كليومتر. وهذا ما يوحي بارتباط الصفقة باستعداد إسرائيل للمواجهة مع إيران في المستقبل، بعدما تكرّرت خلال الفترة الماضية الضربات المباشرة المتبادلة بين الطرفين.

مصالح الحكومات وشركات السلاح الأوروبيّة

منذ بداية الحرب على قطاع غزّة في تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، حرصت معظم الحكومات الأوروبيّة على التنَصُّل إعلاميًا من تهمة تسليح الجيش الإسرائيلي.

وعلى هذا النحو مثلًا، أشارت وزير الخارجيّة الألمانيّة أنالينا بيربوك إلى أنّ بلادها “تواجه إشكاليّة” في تزويد إسرائيل بالأسلحة، في ظل المخاوف من انتهاك القانون الدولي. كما أعلنت وزارة الخارجيّة البريطانيّة تعليق بعض تراخيص تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، للسبب ذاته. أمّا فرنسا، فاختارت إثارة ضجّة كبيرة عبر منع الشركات الإسرائيليّة من المشاركة في معرض الأسلحة البحريّة “يورونيفال”، قبل أن يبطل القضاء الفرنسي هذا القرار.

ومع ذلك، لا يمكن التقليل من حجم المصالح المتشابكة ما بين إسرائيل من جهة، والحكومات وشركات السلاح الأوروبيّة من جهة أخرى، في مجال التسليح وسوق السلاح.

فعلى سبيل المثال، ومع استمرار الحرب الإسرائيليّة على لبنان في أواخر تشرين الأوّل/أكتوبر 2024، دشّنت وزارة الدفاع الألمانيّة أوّل دبابة “ليوبارد 2” يتم تزويدها بنظام الحماية “تروفي”، المطوّر والمصنّع من قبل شركة “رفايال” الإسرائيليّة. وبذلك، أطلقت ألمانيا عمليّة تزويد أسطول دباباتها بهذا النظام، بعد تعليق هذا المشروع لأكثر من أربع سنوات.

بهذا الشكل، ستساهم ألمانيا بشكلٍ مباشرٍ بدرّ الأرباح على أهم شركات السلاح الإسرائيليّة، وهو ما سيسمح للشركة بتطوير مشاريعها خلال فترة الحرب.

وفي مقابل هذه العقد، أظهرت بيانات وزارة الخارجيّة الألمانيّة أنّ برلين وافقت على صادرات عسكريّة لإسرائيل بقيمة 100 مليون دولار، خلال الأشهر الثلاث التي سبقت التوسّع على لبنان. ومن المعلوم أنّ أبرز الصادرات العسكريّة الألمانيّة إلى إسرائيل ترتبط بمنتجات شركة “راينميتال”، التي تشمل قطع غيار دبابات “ميركافا” الإسرائيليّة، وذخائر مدافع “هاوزير”.

وبمعزل عن التوتّرات الدبلوماسيّة التي شهدتها العلاقات الإسرائيليّة الفرنسيّة مؤخرًا، ظلّت الشركات الفرنسيّة تلعب دورًا رئيسًا في سلاسل توريد السلاح الإسرائيلي.

فعلى سبيل المثال، تُعتبر شركة “سافران” الفرنسيّة مورّدًا جوهريًّا لقطع تصنيع مسيّرات “هيرميز”، التي تُنتجها شركة “إلبيت” الإسرائيليّة، فيما تشاركت الشركتان معًا عمليّة تطوير هذه المسيّرة. وفي الوقت الراهن، تلعب هذه المسيّرات دورًا رئيسًا في عمليّات المراقبة الدائمة، التي تقوم بها إسرائيل في أجواء جميع المناطق اللّبنانيّة على مدار الساعة.

على هذا الأساس، كان مفهومًا أن يسجّل سعر أسهم “سفران” ارتفاعًا كبيرًا بنسبة 8%، خلال الفترة الممتدة بين بداية شهر أيلول/سبتمبر 2024، ويوم اغتيال نصر الله في 27 أيلول/سبتمبر 2024.

وفضلًا عن هذه الشركة، ترتبط شركات فرنسيّة أخرى بعقود مهمّة مع الجيش الإسرائيلي. ومنها شركة “داسو” الفرنسيّة التي تزوّد إسرائيل بالمسيّرات العسكريّة وأنظمة المراقبة الجويّة ومعدات توجيه الصواريخ.

على المقلب الآخر، تنخرط أكثر من 500 شركة بريطانيّة في صناعة مكوّنات طائرة “أف 35″، التي تستخدمها إسرائيل اليوم في حربها على لبنان، وهو ما يؤمّن 15% من مكوّنات الطائرة. وخلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024، رُفعت السريّة عن وثائق شحن، بيّنت أنّ بريطانيا لم تكتفِ بالموافقة على تصدير قطع غيار هذه الطائرات من قبل شركاتها، بل سهّلت عمليّة نقلها عبر القواعد العسكريّة التابعة للجيش البريطاني.

في النتيجة، باتت المصالح المرتبطة بشركات وصناعة الأسلحة جزءًا من العوامل التي تحرّك سياسة الدول الغربيّة الخارجيّة، بما في ذلك موقفها من الحرب عينها. ومن هذه الزاوية، يمكن فهم تكرار الحديث عن لوبيات شركات الأسلحة، وتأثيرها على الحكومات وتوجّهاتها. أمّا إسرائيل نفسها، فباتت اليوم بالنسبة لهذه الشركات مستهلكًا رئيسًا للإنتاج العسكري، بالنظر إلى توسّع الحروب التي تخوضها على جبهات متعدّدة.