في عام 2017، ادعى رئيس وزراء تركيا آنذاك، بن علي يلدريم، أن ستة من “المشاريع العملاقة” العشرة التي كان من المقرر إنهاؤها في السنوات العشر الماضية جارٍ العمل عليها في تركيا. فقد وصف هذه المشاريع بأنها مقياسٌ لاستقرار تركيا، حيث تم بناء جميع هذه المشاريع باستثناء واحدٍ ضمن شراكة بين القطاعين العام والخاص والتي تتطلب ملايين الدولارات من الاستثمارات الأجنبية. بينما يجادل آخرون بأن المشاريع العملاقة في عهد أردوغان كانت في أحسن الأحوال استراتيجيةً سياسية خطرة؛ في حال نجحت، في حين أنها في أسوأ الأحوال قد تشكل فقط سلسلةً من المشاريع باهظة الثمن التي تغذي غروره.
إن العديد من هذه المشاريع مستمدةٌ من خططٍ نشرت عام 2011 لتعزيز الناتج المحلي الإجمالي لتركيا، الذي بلغ 851 مليار دولار في عام 2017، إلى 2 تريليون دولار بحلول عام 2023. فقد وصف الرئيس أردوغان بنفسه هذه المشاريع، بكلٍ فخرٍ، بأنها “مجنونة.” فالمشاريع ضخمةٌ في تنوعها، تماماً كما هو حال حجمها، إذ تتمركز الكثير منها حول اسطنبول، أكبر مدن تركيا، حيث شغل الرئيس أردوغان منصب رئيس البلدية خلال التسعينيات. وهي تشمل جسراً ثالثاً يمتد فوق مضيق البوسفور، ونفق من ثلاثة طوابق يتضمن ممرات للسيارات وسكك حديدية أسفل مضيق البوسفور، وهو ثلاثة أضعاف حجم نظام المترو في اسطنبول، وأكبر مطار في العالم وقناة لتنافس تلك الموجودة في السويس وبنما.
التكلفة الاقتصادية
عصف عدم الاستقرار في تركيا، حتى أثناء حكم الرئيس أردوغان، الذي وقف في وجه كل تحدٍ لسلطته منذ عام 2002، بالتوقعات الاقتصادية في تركيا في السنوات الأخيرة، وخاصة منذ محاولة الانقلاب في عام 2016. ردت أنقرة على الإرتياب الذي تلى ذلك بين المستثمرين الأجانب من خلال تنفيذ حزمةٍ من الحوافز. تم انتقاد هذه الحزمة، إلى جانب سلسلةٍ من مشاريع البنية التحتية الضخمة والهِبات السخية ما قبل الانتخابات، باعتبارها تقوّض ضبط الميزانية في تركيا فضلاً عن تغذية تضخم الليرة التركية.
يفتخر الرئيس أردوغان بتغييره البنية التحتية للبلاد بالكامل منذ توليه منصبه، وخلال حملته الانتخابية عام 2018، وعد بإدارة مجموعةٍ من مشاريع البنية التحتية للاحتفال بالذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية عام 2023، والتي تم تمويلها جميعها من خلال خطة استثمارية تبلغ قيمتها 200 مليار دولار. ومع ذلك، أعرب صندوق النقد الدولي عن قلقه من انتشار هذه المشاريع، وحث على “الاختيار الدقيق” لمثل هذه النفقات في عام 2018.
ومن بين المشاريع مشروع جسر السلطان سليم الأول بطول 1,4 كيلومتر في اسطنبول، وهو ثالث جسرٍ يمتد فوق ممر البوسفور المائي والأكبر في العالم في فئته. ويقدم هذا الجسر الذي تبلغ تكلفته ثلاثة مليارات دولار مساراً يتألف من ثماني مسارب للطريق السريع بين اسطنبول وأزمير لتجاوز أزمة حركة المرور في المدينة. وفي حين أن تكلفته الضخمة قد تثير بعض التساؤلات حول القيمة التي يجلبها أي معبرٍ جديد على مضيق البوسفور، فإن المنافع الاقتصادية، بالنسبة لمدينةٍ آخذة في النمو وتعاني من الازدحام المروري، يجعل الأموال التي تم إنفاقها تستحق.
ففي أواخر عام 2018، عندما عاني اقتصاد تركيا من العقوبات الأمريكية وتضخمٍ هائل، أشار الرئيس أردوغان إلى أن تركيا ستراجع خطط الاستثمار القائمة. وحتى مع ذلك، سيستمر العمل على المشاريع التي كانت توشك على الإنتهاء تقريباً وستظل تطلعاتها المستقبلية مضمونة. فعلى ما يبدو، لا توجد تكاليف باهظة لوحوش البنية التحتية الحديثة هذه.
التكلفة البشرية
يعتبر مطار اسطنبول الثالث أكثر هذه المشاريع تكلفةً، والذي افتتح رسمياً في 29 أكتوبر 2018. وبتكلفةٍ تصل إلى 12 مليار دولار، يتم وصفه باعتباره أكبر مطارٍ في العالم (بعد استكماله)، إذ يُقدر في نهاية المطاف عبور نحو 20 مليون مسافر عبر بواباته يومياً.
سيحل المطار الجديد محل مطار أتاتورك بإسطنبول، الذي يعدّ بوابةً محببة إلى العالم في المدينة. ومع ذلك، قد لا يكون المطار مجرد تحديثٍ لوسيلة النقل. ومن المستبعد أن يحمل المطار الجديد، الذي يهدف إلى التخلص من أحد أبرز المعالم في البلاد لمؤسس الجمهورية، مصطفى كمال أتاتورك، اسمه مجدداً. وبدلاً من ذلك، يقدم المشروع لحزب أردوغان الإسلامي الفرصة لتكريس الموقع لبطلٍ آخر يخصهم من العهد العثماني، وإعادة رسم خريطة الهوية التركية بمهارة. فقد تم بالفعل تسمية الجسر الثالث للمدينة باسم “سليم العابس،” وهو سلطان عثماني سيء السمعة بسبب حملاته القاتلة. وفي الوقت الذي لم تتم فيه بعد تسمية المطار، يعتبر عبد الحميد الثاني – السلطان العثماني الذي يحظى بالاحترام باعتباره سلف الإسلام السياسي في تركيا- المرشح الأوفر حظاً.
ومن المتوقع أن يعزز المطار اقتصاد تركيا بنسبة 5%، مما يعزز من مكانة اسطنبول- وتركيا بالمجمل- كمركزٍ للاقتصاد العالمي. ومن الواضح أن بناء المشروع كان بمثابة تعزيزٍ لاقتصاد المدينة، حيث قدم دفعةً اقتصادية حيوية في فترةٍ شهدت تدابير تقشف تجارية وضغطاً اقتصادي واضح. ولكن في نفس الوقت، اكتنفت هذه الطفرة الاقتصادية سحابة سوداء حول ظروف العمل أثناء بناء المطار، فقد مات العشرات من الموظفين خلال عملية البناء، وخرجوا في احتجاجاتٍ مراراً وتكراراً للتعبير عن غضبهم من ظروف العمل، وتأخر دفع الرواتب، وحتى جودة الطعام المقدم للعمّال. وفي حين كان المطار الجديد محور هذه المجموعة الجديدة من مشاريع البنية التحتية العملاقة في تركيا، إلا أنه كان أيضاً رمزاً للمشاكل التي طاردت معظم، إن لم يكن جميع، المشاريع الأخرى.
التكلفة البيئية
لم تقتصر انتقادات فورة بناء البنية التحتية على التكلفة البشرية. فلربما كان المشروع الأكثر إثارةً للجدل الذي قررته الحكومة التركية هو بناء قناة اسطنبول التي يبلغ طولها 45 كم.
فعندما ارتطمت سفينة شحنٍ في بأحد ضفاف البوسفور في عام 2018، كانت الحاجة إلى إيجاد طريق شحنٍ بديل واضحة للغاية بالنسبة للبعض. ومع ذلك، فإن مثل هذه الأحداث نادرة، فحتى مع اكتظاظ حركة المرور في مضيق البوسفور- فقد مرت في عام 2017، 53000 سفينة عبر المضائق، مما يجعلها واحدة من الممرات المائية الأكثر ازدحاماً في العالم. وفي نفس العام، مرت 18000 سفينة فقط من قناة السويس.
وفي محاولةٍ لتسريع وتيرة تطوير هذه المشاريع، باتت المخاوف البيئية خارج المعادلة؛ وتعدّ القناة أفضل مثالٍ على ذلك. فقد قال خبراء البيئة إن القناة ستدمر الأحواض المائية والمساحات الخضراء الآخذة بالتقلص باستمرار حول اسطنبول، إضافةً إلى تغيير مستويات الأكسجين في البحر، الأمر الذي يمكن أن يكون له عواقب وخيمة على الحياة البحرية. ستعبر قناة اسطنبول ما مساحته 350 هكتاراً من الغابات الرئيسية، التي أدى دورها في التخفيف من تلوث الهواء في المدينة إلى اكتسابها لقب “رئتي اسطنبول،” وستشرد أكثر من مليون شخص. ومع ذلك، تعتبر أنقرة أن هذه تكلفةً تستحق الدفع.
ويبدو أن المطار والقناة يعطلان أحواض المياه التي تغذي صنابير المياه في اسطنبول، بما في ذلك أنظمة قنوات المياه التي وضعها المعماري العثماني في القرن السابع عشر معمار سنان. كما أثيرت أسئلةٌ حول جدوى مشروع القناة، حيث تضمن معاهدة 1936 مجانية مرور السفن عبر مضيق البوسفور. ولا يزال يتعين على الحكومة التركية أن تعلن عن الكيفية التي ستقنع بها شركات الشحن بالدفع مقابل المرور عبر القناة الجديدة.
ومع ذلك، ليست جميع المشاريع، بالضرورة، مضرةً بالبيئة، إذ توشك تركيا على تدشين سلسلةٍ من محطات الطاقة الشمسية الكبرى، والتي تعدّ الأكبر من نوعها في البلاد. واعتباراً من عام 2018، أكملت البلاد أولى خطواتها لتحقيق هدفها المتمثل في أن تستمد 30% من طاقتها من الطاقة الشمسية بحلول عام 2023 كجزءٍ من مبادرة إعمار البلاد في الذكرى المئوية للجمهورية التركية. وحتى مع ذلك، فإن مبادرات الطاقة المتجددة، رغم أنها ضرورية لرفاهية الكوكب، لن تعالج الضرر الذي تسببه علاقة حب تركيا الجديدة للمد الخرساني.
مستقبل مبطن بالخرسانة
قال الرئيس أردوغان لآلاف الأتراك الذين جاءوا لرؤية افتتاح الجسر: “عندما يموت الرجل يترك وراءه نصباً تذكارياً.” وعلى الرغم من التكاليف، ولربما بسببها، فإن هذه السلسلة من المشاريع العملاقة عززت مكانته في تاريخ تركيا وفي أفق تركيا على حد سواء.