وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

قطاع الفضاء الإماراتي: مكاسب كبيرة على المدى البعيد

تمامًا كما حقّقت الإمارات في الماضي مكاسب ماليّة كبيرة، من تطوير قطاع الاتصالات الفضائيّة، تسعى الإمارات اليوم إلى تحقيق أهداف إستراتيجيّة جديدة من مشاريعها في قطاع الفضاء الإماراتي.

قطاع الفضاء الإماراتي
رائد الفضاء الإماراتي سلطان النيادي يعقد مؤتمرا صحفيا في متحف المستقبل بإمارة دبي في 2 فبراير 2023. كريم صاحب / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

في الثاني من شهر مارس/آذار 2023، انطلق طاقم مهمّة “كرو 6” (Crew 6) باتجاه محطّة الفضاء الدوليّة، على متن صاروخ وكبسولة أقلعا من مركز كنيدي للفضاء التابع لوكالة “ناسا” الأميركيّة. بالنسبة للعرب، اتسمت هذه الرحلة بأهميّة خاصّة. فأحد روّاد الفضاء الأربعة المشاركين في هذه المهمّة، هو الإماراتي سلطان النيادي، الذي تدرّج وتدرّب كجزء من “برنامج الإمارات ‏لرواد الفضاء” قبل المشاركة في هذه الرحلة.

ومن المقرر أن تضم هذه المهمّة، إلى جانب النيادي، رائد فضاء روسي، ورائدين آخرين من وكالة “ناسا”، ما يجعل منها تعاونًا عابرًا للدول. إلا أنّ مشاركة الإمارات بالتحديد، ستجعلها الدولة العربيّة الأولى التي تشارك في مهمّة طويلة الأمد في الفضاء، وهذا ما أعطى الرحلة رمزيّة استثنائيّة. كما ستصبح الإمارات، بعدها، الدولة ال11 في التاريخ، التي تشارك في مهمّة من هذا النوع.

وما إن وصلت الرحلة بأمان إلى محطّة الفضاء الدوليّة، حتّى بدأ الطاقم بتنفيذ أهداف برنامجه هناك، الذي يمتد على فترة ستقارب الستّة أشهر. وأهم هذه الأهداف، تتمثّل في إجراء 200 تجربة علميّة وتكنولوجيّة، من بينها تجارب بيولوجيّة تدرس نمو الخلايا البشريّة في الفضاء، وتجارب كيماويّة تُعنى بكيفيّة التحكّم بالمواد القابلة للاحتراق في الجاذبيّة المتناهية الصغر. وهكذا ستشارك الإمارات العربيّة المتحدة في سلسلة من الأبحاث والاكتشافات، التي ستمكّن نتائجها الجنس البشري من الذهاب في بعثات جديدة إلى الكواكب البعيدة.

هذا الإنجاز الكبير بالنسبة للإمارات، لم يكن سوى حصيلة مجموعة واسعة من الخطط والإستراتيجيّات، التي عملت عليها الإمارات على مرّ العقود الثلاثة الماضية لتطوير قطاع الفضاء لديها. وحصيلة هذا المسار، لن تقتصر اليوم على مشاركة الإمارات في الإنجازات العلميّة والبحثيّة، بل ستحقق لها أيضًا مجموعة من المكاسب الماليّة والإستراتيجيّة والسياسيّة التي ستستفيد منها الإمارات على المدى الطويل، وهذا ما أثار اهتمام الإمارات بقطاع الفضاء.

تطوّر قطاع الفضاء الإماراتي

بدأت الإمارات بتطوير قطاع الفضاء لديها منذ العام 1997، حين تم تأسيس شركة الثريا للاتصالات، التي تخصصت في مجال الاتصالات عبر الأقمار الصناعيّة. ومنذ ذلك الوقت، تطوّرت الحلول التي تقدّمها هذه الشركة تدريجيًا، لتشمل الخدمات الفضائيّة التي تستفيد منها قطاعات الإعلام المرئي والمسموع والعسكر والطاقة والإنترنت والاتصالات بمختلف أنواعها. ومع الوقت، اتسعت الرقعة الجغرافيّة التي يغطيها قمران صناعيّان تملكهما الشركة، لتشمل ثلثي الكرة الأرضيّة.

وبعد نحو 10 سنوات من تأسيس شركة الثريا للاتصالات، قامت شركة مبادلة للتنمية، الذراع الاستثماري لحكومة أبوظبي، بتأسيس شركة الياه للاتصالات الفضائيّة، والتي باتت معروفة اليوم بإسم الياه سات. وتمامًا كشركة الثريا للاتصالات، تخصصت الياه سات بخدمات الاتصال عبر الأقمار الصناعيّة، في مناطق الشرق الأوسط وإفريقيا ووسط وجنوب غرب آسيا. ولتحقيق ذلك، تعتمد الشركة اليوم على ثلاثة أقمار صناعيّة تملكها، بعدما جرى إطلاقها من فرنسا وكزخستان.

وفي العام 2006، تم تأسيس مركز محمد بن راشد للفضاء من قبل حكومة دبي، حيث ساهم المركز منذ ذلك الوقت في إطلاق أربعة أقمار صناعيّة مختلفة المهام والأحجام. ومن بين الأقمار الصناعيّة التي أطلقها المركز، كان “خليفة سات” قمر صناعيّ عالي التقنيّة، تم تصميمه وتصنيعه على أيدي مهندسين إماراتيين بشكل كامل. وبخلاف الأقمار الصناعيّة المملوكة من شركتي الثريا والياه، لم تقتصر أهداف مشاريع المركز على الجانب المتصل بالاتصالات، بل شملت أهداف أقماره الصناعيّة مهامًا أخرى كرصد الأرض والأبحاث والتصوير والاستشعار والتعليم.

بالنتيجة، باتت دولة الإمارات تشغّل اليوم 14 قمرًا صناعيًا، ما جعلها تحتلّ المرتبة الثانية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هذا المجال. ولضبط هذا القطاع وتنظيمه، تم تأسيس وكالة الإمارات للفضاء، وهي الجهة الرسميّة التي تملك صلاحيّة تنظيم وتطوير هذا القطاع، وتحديد معايير العمل التي تخضع لها سائر الشركات العاملة فيه.

مكاسب اقتصاديّة كبيرة في مجال الاتصالات الفضائيّة

بفضل دخولها في وقت مبكر إلى القطاع، باتت الشركات الإماراتيّة منافسًا جديًّا على المستوى العالمي في مجال خدمات الاتصالات الفضائيّة، حيث تقدّم هذه الشركات خدماتها حاليًّا للقطاعين العام والخاص في أكثر من 140 دولة. كما تتعاون الشركات الإماراتيّة مع الغالبيّة الساحقة من الشركات العالميّة في قطاعات الطيران والشحن البحري والإعلام والاتصالات، لتأمين خدمات التواصل عبر الأقمار الصناعيّة، في مجالات ومناطق تغطي 80% من سكّان العالم.

في الوقت نفسه، استفادت الإمارات من تطوير قطاع الاتصالات الفضائيّة، لتعزيز البنية التحتيّة لقطاع الاتصالات المحلّي لديها، الذي يعتمد على الأقمار الصناعيّة للتواصل مع العالم. وهذا ما جعل الإمارات تحتل المرتبة الثالثة عالميًا في سرعة الإنترنت، وفقًا لمؤشّر جودة الحياة الرقميّة. مع الإشارة إلى أنّ سرعة الإنترنت بلغت في الإمارات خلال العام 2022 نحو 4.3 أضعاف المعدّل العالمي، و1.4 مرّات معدّل السرعة في دولة متقدمة اقتصاديًّا كالنرويج.

على مستوى النتائج الماليّة، ارتفع مجموع الاستثمارات التجاريّة في قطاع الاتصالات الفضائي إلى 10.9 مليار درهم إماراتي، بين عامي 2015 و2020، أي ما يقارب الثلاثة مليارات دولار أميركي. أمّا استثمارات الدولة الإماراتيّة في هذا القطاع، فقارب حجمها ال22 مليار درهم إماراتي، أي نحو 6 مليار دولار أميركي. وجميع هذه الاستثمارات، دخلت ضمن إستراتيجيّة الإمارات الطويلة الأمد، الهادفة إلى تنويع الاقتصاد الإماراتي وتقليص اعتماده على النفط.

ولزيادة حجم استثمارات الدولة في هذا المجال، أطلقت الإمارات خلال العام 2022 “صندوق الفضاء الوطني”، برأسمال تبلغ قيمته الثلاثة مليارات درهم إماراتي (بحدود ال817 مليون دولار أميركي). ومن المفترض أن يسهم هذا الصندوق في تأسيس شركات وطنيّة جديدة تعمل في هذا القطاع، بهدف زيادة العوائد التي تجنيها الإمارات من أنشطة الاتصالات الفضائيّة. كما يستهدف الصندوق تمويل الأنشطة البحثيّة والدراسات الفضائيّة، وتأهيل كوادر بشريّة إماراتيّة تملك القدرة على قيادة القطاع في المستقبل.

وفي الوقت الراهن، يعمل المشروع على مبادرات متعدّدة، من قبيل تطوير أكاديميّة متخصّصة بتعزيز إمكانات المهندسين في مجال الأقمار الصناعيّة، وتأسيس مجمّع للبيانات والمعلومات الفضائيّة. كما يستهدف المشروع إنشاء حاضنة للشركات الصغيرة، لضمان انطلاقتها وعملها لمصلحة المشاريع التي يموّلها الصندوق.

برنامج الإمارات الوطني للفضاء

في أبريل/نيسان 2017، أرادت الإمارات وضع خطط هادفة جديدة بالنسبة لقطاع الفضاء لديها، بما يتخطّى بأشواط حدود الاستثمارات السابقة في مجال الاتصالات الفضائيّة. ولذلك، تم إطلاق “برنامج الإمارات الوطني للفضاء”، الذي وضع خطّة لمئة عام، يفترض أن تتوّج ببناء أوّل مستوطنة بشريّة على كوكب المرّيخ بحلول العام 2117.

كجزء من هذا المشروع، تم وضع برنامج خاص بتأهيل روّاد الفضاء الإماراتيين، ما سمح لرائد الفضاء سلطان النيادي بالمشاركة في الرحلة الأخيرة باتجاه محطة الفضاء الدوليّة. كما تم إنشاء أوّل مدينة علميّة لمحاكاة الحياة على كوكب المرّيخ، بالإضافة إلى مختبرات متخصّصة ومنشآت تحاكي وضعيّة انعدام الجاذبيّة. وضمن إطار البرنامج أيضًا، تم إنشاء المجلس العالمي لاستيطان الفضاء، حيث يسعى المجلس إلى ربط بيانات وأبحاث وأنشطة أبرز الخبراء والعلماء في هذا المجال، بالتعاون مع جامعات ومراكز أبحاث في جميع أنحاء العالم.

هكذا، وبفضل هذا البرنامج، باتت الإمارات لاعبًا دوليًا على مستوى إرسال الرحلات المأهولة إلى الفضاء، بهدف القيام بتجارب علمية واستكشاف أنماط العيش هناك. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ الإمارات كانت أوّل دولة على مستوى العالم العربي تقوم بإنشاء مركز متخصص بتأهيل روّاد الفضاء، ما أعطاها الأسبقيّة اليوم في المشاركة برحلات فضائيّة مأهولة طويلة الأمد.

وفي الوقت الراهن، يستمر هذا المركز بتلقّي تمويل سخي من صندوق تطوير قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات (ICTFund)، ما سيسمح له في المستقبل بتأهيل المزيد من روّاد الفضاء الإماراتيين القادرين على المشاركة في بعثات ومهام خارج كوكب الأرض.

أهداف إستراتيجيّة لمشاريع الفضاء الطموحة الجديدة

تمامًا كما حقّقت الإمارات في الماضي مكاسب ماليّة كبيرة، من تطوير قطاع الاتصالات الفضائيّة، تسعى الإمارات اليوم إلى تحقيق أهداف إستراتيجيّة جديدة من مشاريعها الفضائيّة الجديدة.

فمؤسسة مورغان ستانلي Morgan Stanley تقدّر أن تتجاوز إيرادات قطاع الفضاء حدود التريليون دولار عام 2040، وهو ما يشمل أنشطة الفضاء المرتبطة بالأمن ومراقبة الأرض وتتبّع الأحوال الجويّة والاتصالات والإنترنت وغيرها. وكما هو واضح، تستهدف الإمارات، من خلال مشاريعها الطموحة، زيادة حصّتها من هذه الإيرادات.

كما تسعى الإمارات من خلال مشاريع الفضاء إلى دعم مكانتها العالميّة، وتعزيز صورتها وسمعتها، كونها إحدى الدول الرائدة في هذا النوع من الأبحاث المفيدة للبشريّة. وهذا العامل، سيسهم بدوره في تعزيز هيبة الدولة أمام المجتمع الدولي، ما يمكن ترجمته على مستوى السياسة الدوليّة والعلاقات الخارجيّة لاحقًا. وهذا الجهد، يتكامل مع سائر خطط الإمارات لتسويق نفسها كدولة متطوّرة أمام العالم، كما فعلت مثلًا من خلال استضافة فعاليّات “إكسبو دبي 2020”.

ووفقًا للعديد من الدراسات، فإنّه من المتوقع توفير موارد قابلة للاستثمار وذات قيمة اقتصاديّة في الفضاء الخارجي، تحاول الإمارات من خلال أبحاثها إيجاد طرق يمكن من خلالها الاستفادة من هذه الموارد. كما تحرص الإمارات على الاستفادة من المردود المالي الذي يمكن أن تحققه الأبحاث وبراءات الاختراع والاكتشافات، وتوسّع التخصصات الأكاديميّة في الجامعات الإماراتيّة، في مجال دراسة الفضاء واستكشافه.

وفي الوقت عينه، سيساهم نمو قطاع الفضاء في تنمية قطاعات أخرى مرتبطة به، كقطاع اقتصاد المعرفة مثلًا، كما سيسهم في تعزيز ثقافة وقدرات الاكتشاف والبحث محليًا. أمّا الوصول إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، وتصنيع الأقمار الصناعيّة وسائر تجهيزات رحلات الفضاء محليًا، فسيساعد الاقتصاد الإماراتي على خلق فرص عمل جديدة، وإنعاش الشركات التي تورّد السلع والخدمات لشركات قطاع الفضاء. وكل هذه التطوّرات، ستساهم في تنويع الاقتصاد الإماراتي أكثر.

في المحصّلة، أمام الإمارات واقتصادها الكثير من المكاسب التي تنتظرها، جرّاء ريادتها في مجال استكشاف الفضاء وإطلاق الأقمار الصناعيّة. وجميع هذه الأنشطة، قد تبدو مكلفة على الأمد القصير، نظرًا للإنفاق الاستثماري الكبير الذي تحتاجه، إلا أنّها ستؤمّن في الوقت عينه مكاسب بالغة الأهميّة على المدى الطويل.