وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

عائشة الشنا: أم الأمهات المغربيات

عائشة الشنا
صورة تم التقاطها يوم ١١ يونيو ٢٠١٤ لعائشة الشنا أثناء تقديمها لكتابها الجديد “صوت عالي” في الدار البيضاء. المصدر: Fadel SENNA / AFP.

يوسف شرقاوي

بوجهها المدوّر وشعرها القصير وعينيها الصغيرتين، قد تبدو عائشة الشنا كأيّ أمٍّ مغربية. لكن الحقيقة ليست كذلك، لأنّ “ماما عائشة” كما نادينها نساءٌ كثيرات لجأن إليها، كانت أماً لكلّ أمٍّ مغربية. فمن خلال رحلة نضالٍ كرّست فيها ما يزيد عن أربعين عاماً من حياتها، دافعت عائشة الشنا عن حقوق الأمهات العازبات وأطفالهن. وهي بهذه المسيرة، فتحت أمام مئات من النساء وأطفالهن آفاقاً جديدة، بعد أن تنكّر لهم المجتمع المغربي.

رحلت الشنّا يوم 25 سبتمبر 2022 بعد أن نذرت حياتها للدفاع عن حقوق المرأة والأمهات في المغرب. وهو ما أتاح لها أن تصبح رمزاً لكفاح النساء من أجل النساء في المغرب.

سيرة الحياة

ولدت عائشة الشنا يوم 14 أغسطس 1941 في الدار البيضاء، أثناء الحماية الفرنسية. وأشعرتها وفاة والدها بعد ثلاث سنوات على ولادتها بقيمة التضامن الأسري.

الشنا خاضت أولى معاركها من أجل الحق في التعليم، حيث قالت عن في إحدى المقابلات:

“في الحقيقة، لم أكن أنا من خضت هذه المعركة، إنّما والدتي. تيتّمت وعمري لا يتجاوز ثلاث سنوات ونصف. حين وصلت إلى سن التعليم، أدخلتني والدتي إلى المدرسة المغربية، غير أن أصدقاء والدي من أعيان مراكش كانوا يعلّمون أبناءهم في المدارس الفرنسية. ولأنهم كانوا يعاملونني كما لو كنت ابنتهم، فقد أدخلوني إلى المدارس الفرنسية وتكفّلوا بكل حاجياتي. كنت وحيدة والدتي بعد وفاة أختي الصغرى. كان سن والدتي حين ترملَت لا يتجاوز ٢٠ عاماً، وقد تزوجت من أحد أعيان المدينة”.

بعد فترة، طلب زوج والدتها أن تتوقف عن الدراسة. كان مبرره في ذلك كما تقول عائشة “حالة الفوضى التي كانت تشهدها البلاد والمواجهات التي كانت تعرفها بين سلطات الاستعمار والوطنيين”. وتضيف: “والدتي لم تتقبل الأمر، وفي زمن كان مجرد خروج المرأة من البيت يتطلب إذناً من الزوج، هربتني دون علم زوجها من البيت وأخذتني إلى محطة الحافلات وأوصت السائق بي، فتوجهت إلى الدار البيضاء للاستقرار في بيت خالي ومتابعة دراستي”.

حصلت الشنا في السادسة عشر من عمرها على عمل في مستشفى، كسكرتيرة لبرامج أبحاث لمرضى الجذام والسل. وفي عام 1960، اجتازت امتحانات الالتحاق بمركز تكوين الممرضين. وبعد حصولها على دبلوم التمريض، عملت الشنا في وحدة التعليم بوزارة الصحة، ثمّ انتهى بها المطاف للعمل كمنسقة لبرامج التوعية الصحية. وفي السبعينيات، بدأت بإنتاج البرامج التلفزيونية والإذاعية المختصة بصحة المرأة ومن ضمنها أوّل عمل تلفزيوني يدور حول التعليم الصحي.

تفتّحت عينا ماما عائشة منذ كانت في السادسة عشر على الواقع المزري الذي يعيشه الأطفال المتخلّى عنهم. كما أنها عانت من قساوة المجتمع التي ترزح تحته الأم العازبة. وإثر ذلك، تطوعت في جمعية عصبة مكافحة داء السل، وعصبة حماية الطفل والتربية الصحية. هنا، بدأ احتكاكها بنساء بحاجة للمساعدة هُمّشن في مجتمع مُسيَّجٍ بالأعراف المتصلّبة. وتقول الشنّا عن هذه التجربة: “تعلّمت أن أستمع إلى مجتمعي، ويستمع مجتمعي إلى صوتي”.

في الرابعة والعشرين من عمرها، كانت الشنّا أول ناشطة اجتماعية في المغرب تقترح على الحكومة المغربية الاهتمام بـ “التخطيط العائلي”. وبدأت على إثر ذلك التعامل مع حالات اجتماعية على أرض الواقع.

جمعية التضامن النسوي

في إحدى مقابلاتها، تقول الشنا إنّ ما دفعها لتأسيس جمعية التضامن النسوي مع سيدات أخريات، هي حادثة وقعت مع أم عازبة بدوية. وتقول الشنّا عن تلك الواقعة: “ذات مساءٍ من مساءات الشتاء الممطرة عام ١٩٨١، كنتُ عائدةً إلى العمل من عطلة الإنجاب. دخلتُ مكتب المساعِدة الاجتماعية، فوجدتُ أمّاً تحمل طفلها وترضعه من حليبها، وقد بدا على هيئتها أنها من البادية. كانت تخبر المساعِدة أن عائلتها طردتها لأن طفلها جاء ثمرة علاقةٍ من دون زواج، وقالوا لها بالحرف: هاد ولد الحرام بيعيه ولا رميه حنا ماشي سوقنا”.

تستذكر الشنا بمرارة أنّ الأم لم تكن تريد لطفلها التشرّد، فقرّرت التخلي عنه أملاً في أن تتولى الدولة رعايته. يومها، أمرَتها المساعِدة بالبَصم على وثيقةٍ تأكيداً لقرارها التخلّي عن الطفل. حينها، قامت الأم بسحب ثديها من فم ابنها الرضيع بطريقة عنيفة ما أدى إلى تطاير الحليب على وجهه، وهو ما دفع ذلك الرضيع إلى الصراخ.

عائشة قالت في المقابلة إن صرخته لا تزال في رأسها. وتقول: “أقسمت يميناً أن أقوم بمحاربة هذه الظاهرة، وأتكلم عنها. نسيت الخوف ونسيت الكثير من المشاكل ووضعتها ورائي وتوكلت على الله”. وتضيف الشنا: “عدتُ ليلتها إلى بيتي وحضنتُ ابني الذي كان في عمر ذلك الرضيع، وأقسمتُ أن أكرّس حياتي وعملي لخدمة هذه القضية كي لا تضطر الأمهات إلى التخلّي عن أطفالهنّ رغماً عنهنّ”.

بعد تلك الحادثة بأربع سنوات، أسست الشنا جمعية التضامن النسوي لتساعد النساء العازبات وضحايا الاغتصاب. وتقوم الجمعية بتدريب النساء على الطبخ والحياكة والمحاسبة وغيرها من المهارات بهدف إعادة إدماجهن وأطفالهن في المجتمع، ومنحهن الاستقلال الذاتي.

وتقدّم الجمعية المساعدة القانونية والاقتصادية والنفسية للنساء، فضلاً عن تسهيل الأطر القانونية والإدارية المرتبطة بتسجيل الأولاد في السجل المدني. كما تسعى الجمعية إلى توعية النساء بخطورة العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج في مجتمع محافظ مثل المجتمع المغربي. وتقوم الجمعية بإدماج الأمهات وأطفالهن في عائلاتهن. وتمكنت الجمعية من جعل بعض الآباء يعترفون بأولادهم، وبما أدى إلى تسجيل العديد من هؤلاء الأطفال في السجل المدني المغربي.

ماما عائشة حاولت تغيير الأطر الثقافية المرتبطة بكيفية التعامل مع هؤلاء الأطفال عبر استخدام مصطلحات لغوية أكثر تفهماً وتقبلاً لمثل هذا النوع من الحالات. وعلى سبيل المثال، فقد استخدمت مصطلحي “النساء المتخلى عنهن” أو “النساء في وضعية صعبة” بدل مصطلح “الأمهات العازبات”.

واعتبرت تلك النساء ضحايا المجتمع والقانون. وبصورةٍ مماثلة، فضلت استخدام مصطلحي “أطفال متخلى عنهم” أو “الأطفال في وضعية صعبة”، بدل مصطلحات “اللقطاء” أو “أولاد الزنا” أو “أطفال الشوارع”. وكانت ماما عائشة تشدد على حسن التعامل مع هؤلاء الأطفال، سيّما وأنهم لم يختاروا المجيء إلى الدنيا بمحض إرادتهم، إنما جاؤوا إليها نتيجة علاقات عابرة، وغير شرعية، أو اغتصاب، أو وعود كاذبة بالزواج.

تختصر الشنا ما تقدمه الجمعية بقولها: “تدخل الأم منهن إلى الجمعية وهي مطأطأة الرأس، وتخرج منها بهامة مرفوعة وهي حاملة ابنها بيديها، ومتعلّمة حِرفة، والأهم من ذلك تعلمت أن تقول بكل إباء أنا أم”. ومع ذلك، فقد اعتبر كثيرون عمل الشنا ثورة على التقاليد، وهو ما عرّضها لتهديدات وتجييش وهجمات كثيرة.

وفي الوقت الذي كانت تدور فيه الصراعات السياسية بين التيارين المحافظ والتقدمي حول إدماج المرأة في خطط التنمية المغربية، عملت الشنا للحيلولة دون استخدام النساء كورقة بيد أي تيار سياسي. وبحسب الصحفي رشيد عفيف، فإن الشنّا كانت تقوم بذلك لضمان عدم تضييع حقوق النساء وما قمن بتحقيقه من مكتسبات على الأرض. وكانت الشنا ترفض أن تنتظر النساء المهمشات والمحرومات حتى يتصالح الفرقاء السياسيون لكي يلتفتوا إليهن وإلى حقوقهن، وهذا ما دفعها إلى الميدان بدلاً من اعتلاء منابر الخطابة والدعاية.

البؤس ومنوعات من القصص الحزينة

نشرت الشنا كتابين خلال حياتها. وتروي الشنا في كتابها الأول “البؤس: شهادات” عشرين قصة مؤثرة للنساء اللاتي عملت معهن. وتقول الناشطة المغربية الراحلة فاطمة المرنيسي حول هذا الكتاب: “أخاف عائشة الشنا لأنني وأنا أقرأ كتابها انتبهت إلى أن انشغالي الأهم وأنا أكتب هو كيف أغوي قارئي وأنال إعجابه، فيما الشنا تكتب لتزعج وتثير الأعصاب، ولتزجّ بنا وسط مغرب الحقائق المريعة التي لا تُحتَمل”. ووُصف هذا الكتاب على أنه “إعلان للعمل النسائي”. ونشرت الشنا بعد ذلك كتاباً بعنوان “منوعات من القصص الحزينة”.

الجوائز والأوسمة

حازت الشنا على العديد من الجوائز والأوسمة اعترافاً بعملها الإنساني. ومن الجوائز التي حصلت عليها جائزة حقوق الإنسان من الجمهورية الفرنسية عام 1995، وجائزة إليزابيت نوركال من نادي النساء العالمي بفرانكفورت عام 2005، وجائزة أوبيس للأعمال الإنسانية الأكثر تميزاً، وهي أول امرأة عربية تنالها.
كما قلّد العاهل المغربي محمد السادس وسام الشرف للشنا عام 2000. وحصلت الشنا أيضاً على وسام جوقة الشرف من درجة فارس من قبل الجمهورية الفرنسية عام 2013.

رحلت الشنا عن عالمنا كأيقونة للعمل الإنساني في المغرب. برحيل “ماما عيشة”، فقد المغرب أحد أبرز الضالعين في الدفاع عن حقوق النساء، خصوصاً الضحايا منهن، اللواتي تنكّر لهن المجتمع والقانون، ووجدن مع الشنا حمايةً وملجأ على مدى أربعين سنة. فهل تنتقل تجربة ماما عيشة إلى بلدان عربية أخرى، وهل تُفتح آفاق لجمعيات تضامن نسوي مختلفة في العالم العربي؟

user placeholder
written by
Kawthar Metwalli
المزيد Kawthar Metwalli articles