وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

محمد الفيتوري: شاعرٌ عالمي بقلبٍ عربي وإفريقي

محمد الفيتوري
محمد الفيتوري تناول في أشعاره إفريقيا والعالم العربي والكثير من القضايا الإنسانية. المصدر: صحيفة العرب.

يوسف شرقاوي

كان الخليط الإفريقي الذي يتشكّل منه الشاعر محمد الفيتوري شبيهاً بالنبوءة؛ نبوءةٌ تدلّ على أنّ هذا الشاعر المولود في الصحراء عند حدود تشاد من قرية غرب السودان لا سيحمل أوجاع إفريقيا وأغانيها وحريّتها فحسب، بل سيمتدّ ليصير مزيجاً عربياً: لبنان وفلسطين والعراق، وسيصير فيما بعد مزيجاً إنسانياً شمولياً، نداءً صارخاً من أجل حرية الإنسان أينما كان.

هاجر والد الشاعر ليبي الأصل وحمل عصا ترحاله من السودان إلى الإسكندرية في مصر، كما أنّ أم الشاعر كانت مصرية. وفي الإسكندرية مزيجٌ عجيب من البشر آنذاك: العربي المسلم والقبطي المسيحي والمهاجر الشامي أو النوبي من أعالي مصر، غير الايطاليين واليونانيين وبعض البلجيكيين والسويسريين والأتراك والشركس. كانت خيوط الحياة في ذلك الحين في يد العنصر الأجنبي الذي امتلك المدارس والفنادق والأبنية الفخمة.

دخل الفيتوري هذا المجتمع غريباً. فهو لم يكن مقبولاً قبولاً حسناً، لا هو ولا من قاربه اللون من النوبيين الذين لم يعملوا إلا كخدم في البيوت والفنادق. وفي المدرسة ازداد اغترابه، وتولّدت عنده عقدة الذنب والإحساس بالدونية.

كان الفيتوري الأسمر القصير، “الأسود” في معايير ذلك العصر، يحسّ بالحزن والانفراد في المجتمع الذي شبّ فيه ولم يشعر بالانتماء إليه. وهذا ما سوف يطبع حالته الوجودية، إذ كان يئن تحت وطأة الإحساس بالغربة. كما أنّ إحساسه بـ “الزنوجة” والدمامة كان مبالغاً فيه إلى حد العذاب.

المرآة

أزعجه لون بشرته، وملأه باليأس. وأحس كما لو أنّ عيناً كونية تسخر منه وتهزأ من لونه وقصره، فجعل ينشد اغترابه ذاك:

فقيرٌ أجل..

ودميمٌ دميم

بلون الشتاء، بلون الغيوم

يسير فتسخر منه الوجوه

فيحمل آلامه في جمود

ويحضن أحزانه في وجوم

فقيرٌ..

فوجهٌ كأني به دخانٌ تكثّف ثمّ التحم

وعينان فيه كأرجوحتين

مثقلتين بريح الألم

وأنفٌ تحدّر ثم ارتمى

فبان كمقبرةٍ لم تنم

ومن تحتها شفةٌ ضخمة

بدائيّة قلّما تبتسم“.

إنه وقوفٌ أمام المرآة، مرآة الشكل، ليصف مرارة ما يراه في الجوهر.

كانت هذه التصورات الكامنة في ضميره ورؤيته وإحساسه بمعاناة الإنسان الأسود تجعله ذا طابعٍ رومانسي حزين نابع عن أحلام وجوده. وكان يستشعر الكثير من المآزق حين ينظر في المرآة فلا يرى فيها غير وجهٍ أسود فقير دميم، كما يصفه.
وترسخ الاعتقاد عنده أنّ مأساة الإفريقي لا يصنعها غير وجهه. وطغت على حياته في البدء عقدة الذنب هذه، فأعمَت عنه رؤية قضايا كثيرة وأدخلته في انفصالٍ عن الواقع أخذه عليه المواطنون والمثقفون، ما لبث أن تخلّص منه بعد ذلك.

إفريقياً

قلها لا تجبن..

لا تجبن

قلها في وجه البشريّة

أنا زنجيّ وأبي زنجيّ وأمي زنجيّة

أنا أسود

أسود لكني حرٌّ أمتلك الحرية

أرضي إفريقيا

عاشت أرضي

عاشت إفريقيا“.

يصير في وسعنا الآن أن نسمع رنين جلجلة الإفريقيين يضربون في طبولهم لأجل الإنقاذ من الاستعباد.

تطورت حياة الفيتوري في الإسكندرية. وانتقل إلى المرحلة الواقعية، حيث تكرّس الحقد ضد تسلّط الرجل الأبيض وإذلاله للآخرين. ومن هذا الاستعباد، سافر الفيتوري في أشعاره إلى إفريقيا كلّها، أرض الأجداد الذين يجتمعون معه في تراجيديا الحزن والذل.

انتقل الفيتوري من عقدة الذنب والانتفاء إلى مواجهة قضايا الصراعات الإنسانية والاجتماعية وحقائق الفن والموت والنضال والحياة، وإثارة قضايا الإنسان الإفريقي وعذابه ووقوعه فريسةً للنهب الاستعماري والتفرقة والعنصرية والعبودية والرق. في هذه الحالة، لا يهم ماضي الشاعر ولا كيف بدأ، “فليس المهم أن يكون للكاتب أو الشاعر ماضٍ يجلس عليه، بل المهم أن يكون له مستقبل يرتقي إليه” كما يقول ميشال جحا.

صار الفيتوري رائداً للاتجاه الواقعي في السودان، الذي بدأ في أربعينات القرن العشرين. أما ماضيه، فلم يكن سوى عقدة شخصية تجاه اللون الذي يعذّب الكثير من الإفريقيين حين يحتكون بالعالم الخارجي، وتُسمّى هذه القضية عند البعض “الرؤية الإفريقية”. صارت إذن قارة إفريقيا قضية الفيتوري ورؤياه التحررية. وأصبحت عنده معادلاً لمعاناته وقناعاً يستطيع من ورائه أن يصرخ ويثور، بل وأن يحقد ويتحدى.

لقد أصبح شاعراً نضالياً لا يهمه اللون ولا يفكر إلا بالجماهير. أصبح من الذين يعتقدون أنّ “العامل الأسود والعامل الأبيض يرزحان تحت نير تاريخي واجتماعي واحد وهو نير الرأسمالي الأبيض والرأسمالي الأسود، نير الاستعمار والاستغلال. فالقضية إذن ليست قضية أسود وأبيض. إنها قضية مستغَل ومستغِل. قضية الكادحين وأصحاب رؤوس الأموال”.

في جميع دواوينه، يتراءى لنا حرمان الإنسان داكن البشرة ومعاناته وعذاباته، وأيضاً: حثّه على النهضة والوقوف بكرامته في وجه الاستبداد الأبيض الذي استعبد إنسان إفريقيا وعبث بتاريخها وخنق حريتها واستغل ثروتها.

إفريقيا هي الأرض المحبوبة، تمثّلها الفيتوري على هيئة امرأة يعشقها ويتّحد بها ويفنى فيها، كما يفنى الصوفيّ في ذات الإله، وقد أنشدها:

 

كنتُ أعرف..

وأنا أحتضن الراية من منفى لمنفى

إنهم قتلوني مرةً واحدة

أولَدُ في عينيكِ ألفا“.

 

ويقول: “جبهة العبد ونعل السيد

وأنين الأسود المضطهَد

تلك مأساةُ قرونٍ غبرَت

لم أعد أقبلها، لم أعدِ

كيف يستعبد أرضي أبيض؟

كيف يستعبد أمسي وغدي؟

كيف يخبو عمري في سجنه

وجدار السجن من صنع يدي؟

أنا زنجيٌّ

وإفريقيتي لي لا للأجنبي المعتدي

أنا فلاحٌ ولي أرضي التي شربت تربتها من جسدي

أنا إنسانٌ ولي حريتي

وهي أغلى ثروةً من ولدي

أنا حرٌّ ومستقبل البلدِ

وسأبقى مستقبل البلدِ“.

لقد استطاع، من لون بشرته ومن إحساسه العميق بالمرارة والحقد، أن يصيغ له وطناً بعيداً نائياً هو إفريقيا.

عربياً

لم يحس الفيتوري مشاكل إفريقيا فقط، بل ومشاكل العرب. وقوميته تتلخّص في إحساسه الخالص بالعروبة. في هذه المرحلة، أصبحت الحرية الهدف الأول والأسمى لنتاجاته الشعرية. وتجاوز عن تخوم إفريقيا فلم تعد قضيته محصورة فيها، بل شملت الأمة العربية. والعروبة رافدٌ أساسي من روافد إنتاجه الشعري. ونجد النزعة القومية حاضرة في ديوانيه “البطل والثورة والمشنقة” – وهو الديوان الذي أهداه لجمال عبد الناصر – و”ابتسمي حتى تمر الخيل“. كما أنه كتب للمسرح “عمر المختار“، البطل الليبي.

كتب في تجزئة لبنان وتحوّله إلى ألعوبة في يد الحكام:

“هناك لبنان والأرض التي غضبت

لوقع أقدام من خانوك يا جبلُ

صرختُ والدمُ في راحات من شربوا

ولحمُ لبنان في أشداق من أكلوا

لبنان لا ليس لبنان الذي صنعوا

بالأمس أو قسموه اليوم واحتفلوا”.

واختص الفيتوري قسماً كبيراً من أشعاره لقضية فلسطين، منها قصيدته “مقاطع فلسطينية”. ويختصر موقفه من القضية بجملةٍ واحدة اكتسبت خلودها، تقول: “إنّ جرحَ فلسطين ليس تضمّده الكلمات”.

وكتب عن العراق:

“الأيادي التي غسلت جبهةَ الشرق بالدم حتى أفاق العراق

جزؤوه واستبيح التراب الذي كان من قبلُ فوقَ التراب عزيز النطاق

يا بلادي التي حملتني بعيداً إلى عرسها يا بلادي العراق”.

يقول الفيتوري عن قوميته بنفسه: “ثم رأيتني وقد أخرجت رأسي من تلك الشرنقة، ألمح وجهاً آخر للعالم من حولي وهو وجه واقعي العربي الذي أنا جزء منه. إن مجتمعي العربي يحاول أن يتخلص من أغلاله التاريخية، العدوان الثلاثي على مصر، الثورات المتلاحقة، الانتفاضات الكثيرة، دوى صوت الحياة من حولي أنّ فكراً جديداً يولد في ذاتي، وأنا أحاول التعبير عنه”.

هكذا، كان الفيتوري يقيم على تخوم الخريطة العربية والإفريقية، وعلى تخوم العروبة والزنوجة أيضاً، وكذلك على تخوم الغناء والالتزام والكلاسيكية والرومنطيقية والحداثة، فيُقال في شأنه: يجب أن يكون الفيتوري كشاعر، سفير النوايا الحسنة إلى جميع الدول العربية، كما يقول الكاتب اللبناني عبده وازن.

مواطناً عالمياً

إنّ شعر الفيتوري نسخة توافق الأصل لمشاكل الإنسان المضطهَد ومعاناته أينما حل. وهو لا ينتمي إلى وطنٍ نهائي، بل إلى كلّ مكانٍ في العالم. لقد سخّر شعره كوسيلة للدفاع عن إنسانية الإنسان وحفظ كرامته، وهو ينادي:

“يا أخي في الأرض

في كلّ وطن

أنا أدعوك فهل تعرفني؟

يا أخاً أعرفه رغم المحن

فاستمع لي

فاستمع لي”.

 

النزعة الإنسانية بارزة في أشعاره، وهو صديق الأطفال والتعساء والمحرومين ومناصر للثوار والأبرار. يأخذ دور ناسكٍ حكيم يخاطب الروح ويستبطن العقل. وبشكلٍ عام، يمكن القول إنّ شعره كان في خدمة الإنسانية كلّها. يقول:

“يا خالقَ الإنسانِ من طينه وخالقَ الفنّانِ من طينه

عذّبتَني بالفن

عذّبتني بهذه النار السماوية

أدعوك لا تشقّ بها كائناً بعدي

فهذه النار من قسمتي

رضيت أن أفنى على وهجها

لكي يعيش الفنّ في مهجتي”.

 

يقول ميشال جحا: “إنّ الفيتوري شاعرٌ له شخصيته المميزة وطابعه الخاص وأسلوبه الذي يتفرد به. له رؤياه السياسية وصوته الرافض ومناصرته لقضايا جماهير الشعب العربي. لا يتعمّد الغموض والإبهام ولا يدّعي الحداثة الزائفة، بل إنه يرى أنّ الشعر ليس هدفه أن يصوّر الأشياء أو ينقل الطبيعة، بل عليه إن يكون أداة فضح وتحريض وثورة وتحدٍّ”.

وشعر الفيتوري حالةٌ إنسانية شاملة، عامّة، تخاطب أي إنسان، في أي مكان، وأي زمان. كما أنّ الحب الخام الإنساني الخالص أحد أهم مرتكزات شعره.

 

المصادر: