وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

جابر عصفور: الأستاذ والمثقف التنويري والمسؤول

جابر عصفور
الدكتور جابر عصفور يجلس إلى جانب الدكتور عوني عبد الرؤوف، عميد كلية الألسن بجامعة عين شمس. المصدر: Nan Deko, Wikimedia Commons.

يوسف شرقاوي

ترك جابر عصفور إرثاً كبيراً في مصر والعالم العربي اشتغل به طوال سنين عمره. فعلى مدى ثلاثة عقود من عمله الثقافي والتنويري، استطاع عصفور أن يحظى باهتمام شريحة واسعة من الناس، سواء أكان ذلك عبر كتاباته، أو إلقائه المحاضرات ومشاركته في الندوات والمؤتمرات. ولا يتوقف إرث عصفور عند هذا الحد، إذ يمتد دوره ليصل إلى الإدارة والاستشارة والإشراف على مؤسسات ثقافية فاعلة، سيّما وأن بعض هذه المؤسسات قد تحوّل على يديه إلى مراكز إشعاع ثقافية على امتداد العالم العربي.

أستاذ أكاديمي ومثقف عام ومسؤول ثقافي

ولد جابر عصفور بمدينة المحلة الكبرى عام ١٩٤٤. وهناك تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي، ثم التحق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة عام ١٩٦٢، وتخرج عام ١٩٦٥ بتقدير ممتاز، وكان الأول على دفعته. ثم قدّم رسالتي الماجستير والدكتوراه تحت إشراف تلميذة عميد الأدب العربي طه حسين، وهي سهير القلماوي. وكانت دراسة الدكتوراه التي قدمها بعنوان «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب» فاتحةً أكاديمية حقيقية، وبوابة عبور علمية ومنهجية، أمام جيل مثقف واع من الباحثين النابهين في درس التراث العربي والإسلامي، ونقده نقداً منهجياً.

يقول جابر عصفور عن دور طه حسين في حياته: “حين قرأت كتاب «الأيام» فتنني إلى أقصى حد، حتى أنه حدد لي مسار حياتي. «قرأت الأيام» فقررت أن أكون كطه حسين. وحين وجدت أنه يكتب الروايات بالإضافة إلى الدراسات، قلدته”.

بدأ جابر عصفور بعدها مشواره الأكاديمي والبحثي والنقدي التنويري قرابة نصف قرن.

يلخص وزير الثقافة المصري الأسبق حلمي النمنم، مسيرة جابر عصفور في ثلاثة ملامح أساسية: الأستاذ الجامعي، المثقف العام، المسؤول في المؤسسات الثقافية.

في الجانب الأول، ترك عصفور مجموعة كبيرة من التلاميذ، حيث درّس الأدب العربي في كثير من الجامعات. وتضم قائمة الجامعات التي درّس عصفور فيها كلاً من جامعة القاهرة، وجامعة وسكنسون، وجامعة هارفارد في أمريكا، بالإضافة إلى جامعة الكويت، وجامعة أوبسالا في السويد. كما ترك مجموعة من الكتب الأكاديمية المتميزة، سواء في التراث العربي النقدي، أو عن الدكتور طه حسين في رسالته للدكتوراه.

أما كمثقف، فلم تكن كتابات عصفور في كبرى المجلات والصحف المصرية والعربية مجرد تعبئة أوراق، لكنه كان يشتبك مع الواقع الثقافي، وخاض خلالها معارك ضارية مع قوى الظلام في المنطقة العربية، منها معركته مع مشروع الإخوان. وقد ساهم موقفه النقدي الفكري المعارض إلى جانب مواقف المثقفين في إفشال المشروع.

أما عن دوره كمسؤول ثقافي، فيمكن اختصاره بالقول إنه: “لولا جابر عصفور لما كان المركز القومي للترجمة، فعندما كان أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، قدّم بمبادرة شخصية منه المشروع القومي للترجمة، إلى أن تحول للمركز القومي للترجمة”. كما أنه “حوّل المجلس الأعلى للثقافة من مجرد مؤسسة لا تفعل شيئا غير منح جوائز الدولة التقديرية التشجيعية إلى مؤسسة ثقافية بالمعنى الكامل للكلمة، واستقبل المجلس عددا من كبار مثقفي العالم، ومعظم مثقفي العرب”.

التنوير

احتلّ الهمّ والاهتمام التنويري محوراً مركزياً في نشاط جابر عصفور الكتابي والإداري المؤسساتي. يبدأ ذلك منذ قدم دراسته في طه حسين بداية الثمانينات، ويمتد ذلك إلى أغلب كتبه التي نقرأ في عناوينها: “محنة التنوير”، “دفاعاً عن التنوير”، “هوامش على دفاتر التنوير”، “أنوار العقل”، “ضد التعصب”، “نقد ثقافة التخلف”، “الرواية والاستنارة”، “للتنوير والدولة المدنية”، “الرهان على المستقل”، “نحو ثقافة مغايرة”، “مواجهة الإرهاب”.

وهو، حتى عندما كتب عن الأدب والأدباء، كان يستحضر الهم التنويري كمسار عام للاشتغال. إنّ إلحاح هذه المسألة التنويرية، كما يقول محمد المحمود، جعله مثقفاً تنويرياً موسوعياً قبل أن يكون ناقداً أدبياً.

آمن جابر عصفور بالانفتاح الثقافي إلى أقصى مدى. وكان قادراً على التواصل مع كل أطياف الثقافة، لا في مصر وحدها، بل في العالم العربي من محيطه إلى خليجه.

ولأنه “كان مثقفاً متعدد الأبعاد، ومتنوع الاهتمامات، استطاع استقطاب أهم الفاعلين الثقافيين في العالم العربي للمشاركة في المؤتمرات والندوات والإصدارات المطبوعة في مصر، كما كان قادراً على الاستجابة للدعوات التي تطلب منه المشاركة في كل أقطار العالم العربي. وكل ذلك التفاعل الحيوي، استضافة وضيافة، نابع من إيمانه بأن الثقافة العربية مهما تنوعت ثقافياً وتباينت جغرافياً، فهي ـ بحكم وحدة اللغة ووحدة المرجعية التراثية ـ ذات قَدَر واحد/ مصير واحد”.

من الضرورة إلى الحرية

حمل جابر عصفور هذا الشعار طوال حياته، وأدخلها في خطابه النقدي، وعن هذا يقول: “قد لا يكون التاريخ خطاً صاعداً متجانساً لكن في آخر هذا الخط، تقوم تراكمات الماضي وخبراته، بدفعه إلى عدم تكرار نفسه، ومن ثم فالتاريخ لا يعود إلى الوراء، بل يحمل وعداً ما”.

يتمثل هذا الوعد عند عصفور في نوع من “الاشتراكية الديموقراطية، حيث ثمة قدر كبير من الحرية والديموقراطية، قدر كبير من الإنصاف، أي دولة رعاية، فيها نظام ضرائب صارم ومتصاعد يمكّنها من تقديم خدمات ورعاية اجتماعية للفقراء. لكن هذه الرعاية ليس ثمنها سلب الناس حرياتهم، بحيث تكون الديموقراطية والمواطنة، وانفصال السلطات، في أهمية العدالة الاجتماعية”.

عُرِف جابر عصفور ناقداً للشعر والنثر، وأستاذاً أكاديمياً متخصصاً في النظرية الأدبية في الموروث النقدي والبلاغي. وقد قاده العمل الطويل في المفاهيم والأفكار والمقولات إلى منطقة «الخطاب» الفكري المحتفل بقضايا من قبيل «التقدم» و«الحداثة»، و«معوقات التقدم» فضلاً عن قضايا «الأيديولوجيا» و«التأويل». وتكاملت فيه أدوار المفكّر والمعلّم والمخطِّط ومدير المشروع الثقافي الرفيع.

الإرث

ترك جابر عصفور أكثر من ستين كتاباً، وعشرات الدراسات والأبحاث والترجمات، توزعت ما بين مجالات دراسة علوم البلاغة التقليدية، والنقد العربي القديم، ومذاهب وتيارت النقد الحديث، ونقد الأنواع الأدبية الحديثة؛ فضلاً على كتبه التي عالجت إشكاليات النهضة والتحديث والتنوير، وهي التي تشكل ما يزيد على نصف هذه الكتب.
وقد نال عبر رحلة حياته العلمية والفكرية والثقافي والعديد من الجوائز والأوسمة، والتكريمات الرسمية والدولية، ثم رحل عن عالمنا في ٣١ ديسمبر ٢٠٢١.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.