وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

إبراهيم الصلحي، أيقونة الفن العربي الأفريقي الحديث

يُعد الفنان التشكيلي إبراهيم الصلحي أحد أهم رموز الفن التشكيلي العربي الأفريقي الحديث. فقد أهّلته سنوات عمره الثماني والثمانون، وما يزيد عن سبعين عاماً من ممارسة فنون الرسم والتلوين والكتابة عنها والتنظير لها، لنيل لقب “شيخ التشكيليين السودانيين”.

وُلد الصلحي بمدينة أم درمان في الخامس من سبتمبر 1930، وفي ذات المدينة تلقى تعليمه العام، ثم درس الرسم والتلوين في مدرسة التصميم بكلية غردون التذكارية التي أسسها المستعمرون الانجليز في العاصمة السودانية الخرطوم، كما درس في معهد الخرطوم الفني. وفي النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين تم ابتعاثه لبريطانيا حيث واصل دراسته لمدة ثلاث سنوات في مدرسة سليد للفنون بكلية لندن الجامعية. ثم درس التصوير الفوتوغرافي في جامعة كولومبيا في نيويورك (1964- 1965).

ويرى زميله التشكيلي والكاتب السوداني الدكتور حسن موسى أنه “من الصعب اختزال التدريب الفني للصلحي على التعليم النظامي وحده، كون الرجل يعتبر التعليم ممارسة حياتية تندمج في المسار الوجودي للشخص بشكل عضوي”، ويؤكد أن “الناظر في أعمال الصلحي القديمة والحديثة يلمس بسهولة أن الرجل لم ينقطع أبداً عن تعلّم التقنيات والأساليب الجديدة واستكشاف الرؤى الإبداعية المخالفة لكل ما عهد عنه في أوقات سابقة.”

قبضة من تراب

Sudan- Ibrahim El-Salahi
Photo SudaneseCulture / Twitter

يروي الصلحي في كتاب سيرته الذاتية الذي أسماه “قبضة من تراب،” والذي نُشر عام 2012، أنه، وعقب عودته من دراسته بكلية لندن، أصابته صدمة أثرت كثيراً على مجرى حياته كرسام عندما فوجئ بعزوف الجمهور عن تذوق أعماله الفنية. توصل حينها إلى أن ذلك ناتج من أن الأعمال المعروضة لم تكن تعبر عن الموروث التشكيلي للسودانيين، ما دفعه إلى الانتباه إلى القيم التصويرية في البيئة الثقافية السودانية، وقاده ذلك إلى توظيف فنون الخط العربي والرموز الإسلامية والزخارف الأفريقية في لوحاته مع توظيف تقنيات الفن الأوربي الحديث. ومن هنا بدأت مرحلة ما أطلق عليه منذ أوائل الستينات اسم “مدرسة الخرطوم التشكيلية” التي أُعتبر الصلحي أبرز مؤسسيها وروادها.

إضافة إلى القبول الشعبي، وجد تيار مدرسة الخرطوم قبولاً رسمياً في السودان، فسّره حسن موسى بأن عرض الصلحي لتأسيس “فن تشكيلي سوداني” “وجدت فيه السلطات نوعاً من محتوى ثقافي مفيد على صعيد مشروع بناء الوحدة الوطنية.” وقال “وهكذا تحول الصلحي مع بداية السبعينات (…) إلى نوع من أيقونة وطنية، حتى أن صورته كانت تزين بعض ملصقات وزارة السياحة بوصفه فنان السودان القومي.”

ويقول الكاتب البريطاني أدريان هاملتون إن الصلحي وعلى الرغم من أنه تأثر بالفن التشكيلي الغربي إلا أن الصور النابعة من وطنه هي التي تثير الدهشة والإعجاب في أعماله، ويصفه بأنه “فنان محدِّث ذو رؤية،” وأحد رواد نهضة الفن الأفريقي، ويلاحظ أن لوحاته “تتواتر فيها ألوان الأرض، والوجوه الشبيهة بالأقنعة،” وهو ما يصفه هاملتون بأنه “سمّة إفريقية للغاية.”

تجربة السجن

تعرض الصلحي للاعتقال السياسي لمدة ستة أشهر (من سبتمبر 1975م إلى مارس 1976) إبان عهد الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري بسبب مزاعم عن أنشطته المناهضة للحكومة. تركت هذه تجربة أثراً مهماً في ممارسته التشكيلية. ويحكي أنه وخلال أشهر السجن كان يقطّع الأوراق التي يُلف فيها الطعام المقدم إليهم إلى قصاصات صغيرة ويرسم عليها بقلم كان يحتفظ به سراً، ثم يجمع تلك القصاصات لتصير لوحة كبيرة تضم لوحات صغيرة مختلفة.

ويقول إن هذا الأسلوب “نال فيما بعد رضى الرسامين في الغرب، وكان أسلوباً مبتكراً وجديداً عليهم (…) وجاءت من خلال هذه الناحية عدة موضوعات أنجزت بها أعمالاً كثيرة يتم تركيبها بتكوينات مفصلة كانت في نظري على غرار نمو عضوي للصورة.”

تجربة السجن هذه حيث لم يكن يستخدم سوى قلم رصاص أدت أيضاً إلى اهتمام الصلحي بالرسم باللونين الأبيض والأسود، الذي مثل نمطا بارزاً من أعماله منذ أواخر السبعينات وحتى منتصف التسعينات: “اتجهت إلى التركيز على اللونين الأسود والأبيض في معالجة الصورة بحثاً عن درجة رمادية (…) مع الإبقاء على كثافة الأسود ونقاء اللون الأبيض دون مزج.”

المساهمة في الفن الإفريقي الحديث

في إشارةٍ إلى الأثر الصوفي في أعمال الصلحي التشكيلية يقول التشكيلي السوداني حسين جمعان إن: “أعماله تُفسر بالإقناع والإيحاء والتأويل في كثير من الأطر الفلسفية والتأملية التي يتخيلها ويستلهمها في انفعالاته ويتحكم فيها ويظهر بأسلوبه المتمكن، الذي يتسم بقدر عالٍ من الصدق والإتقان والكمال.”

وبالنسبة لموسى، فإن “ممارسة الرسم عند الصلحي لا تقتصر على البعد الجمالي العملي وحده بل تتعداها نحو السعي الفكري لتأسيس إشكالية فلسفية حول دور الفنان في مجتمعه.”

كما وصفه صلاح حسن أستاذ الفن الأفريقي في جامعة كورنيل الأمريكية في تقديمه لكتاب السيرة الذاتية للفنان الصلحي: “تكمن مساهمته الجوهرية التأسيسية في حركة الحداثوية الأفريقية في الفنون المرئية والبصرية في استمرارية إنتاجه الفني، وفي اشتغاله المؤثر بفضاء الفكر والتنظير. كما يمكن أن نعزي ريادة مساهماته إلى إرثه العظيم ككاتب وناقد وأعماله الفنية التي نهضت بمهمة سبر أغوار كل ما يمكن استكشافه من استراتيجيات التلوين و الرسم”. وأضاف: لقد نجح الصلحي في خلق لغته وتطبيقاته الخاصة المتفردة في التلوين، مما ترك أثرا لا ينمحي على مشهد الفنون الراهن.”

مسيرته المهنية

شغل الصلحي عدداً من الوظائف، وتبوأ عدة مناصب، إذ بدأ مسيرته المهنية مدرساً بالمرحلة الثانوية، وعمل، عقب عودته من الدراسة في مدرسة سليد البريطانية، مدرساً في كلية الفنون الجميلة بالخرطوم في النصف الأول من ستينات القرن العشرين، ثم أبتعث للعمل في الملحقية الثقافية بالسفارة السودانية في لندن. وفي عام 1969 تم انتدابه لشغل وظيفة مدير مصلحة الثقافة بوزارة الإعلام السودانية إلى جانب القيام بإدارة المجلس القومي لرعاية الآداب والفنون، ثم تم تعيينه وكيلاً لوزارة الإعلام.

غادر الصلحي وطنه السودان عقب خروجه من السجن في 1976، فأختار دولة قطر مستقراً له، حيث عمل كخبير استشاري بوزارة الإعلام القطرية في السنوات من 1977 إلى 1982، واختارته منظمة اليونسكو في 1984 للقيام بإعادة تنظيم وزارة الإعلام بالصومال، ثم عاد إلى عمله بوزارة الإعلام القطرية، ثم بالديوان الأميري حتى عام 1998. وابتداءً من عام 1998 تفرغ الصلحي بشكلٍ تام للعمل التشكيلي واستقر بمدينة أكسفورد بالمملكة المتحدة ثم عاد للسودان عام 2015 حيث يعيش الآن.

المعارض والمؤلفات

عرض الصلحي أعماله التشكيلية في عشرات المعارض الفردية في مختلف أنحاء العالم. وحالياً، تقتني العديد من المتاحف أعماله، من بينها متحف الفن الحديث ومتحف الميتروبوليتان وغاليري الشيز مانهاتن في نيويورك، ومتحف الفن الأفريقي بواشنطن، ومتحف جوجنهايم أبوظبي، ومكتبة الكونغرس، والناشيونال غاليري بسيدني، وغاليري لامبير بباريس، والناشيونال غاليري في برلين، ومصلحة الثقافة بالخرطوم وفاز بجائرة الأمير كلاوس الهولندية المرموقة عام 2001.

والصلحي مبدعٌ متعدد القدرات والمواهب، فهو ليس رساماً فحسب، بل كاتب وناقد وشاعر أيضاً، ومعد ومقدم برامج إعلامية متميز، إذ حققت برامجه التلفزيونية في السبعينات، وخاصة منها برنامج “بيت الجاك،” شعبيه واسعة في السودان. وفي ذات الفترة خاض تجربة ناجحة في التمثيل عندما جسد شخصية “الحنين” في فيلم “عرس الزين” للمخرج الكويتي خالد الصديق والمأخوذ عن رواية بذات الاسم للروائي السوداني المعروف الطيب صالح.

بالإضافة إلى سيرته الذاتية، صدر في عام 2005 كتاب “بيت الجاك” الذي ضم حواراً طويلا أجراه المؤلف فتحي محمد عثمان مع الصلحي. وهناك مشروع تبنته جامعة كورنيل في نيويورك تم من خلاله توثيق شامل وكامل لكافة أعمال الصلحي منذ الخمسينات، وتضمن إصدار كتابين عن تجربته التشكيلية، إضافة إلى كتاب آخر يحتوي على حوار وسجال بينه وبين الفنان حسن موسى امتد لما يُقارب الـ13 عاماً تقريباً.