وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مسعود البارزاني: إيكاروس الكردي

Specials- Masoud Barzani
مسعود البارزاني. Photo AFP

تنحي مسعود البارزاني من منصبه كرئيسٍ لحكومة إقليم كردستان في 29 أكتوبر 2017، حيث أنهى فترة حكمه التي استمرت 12 عاماً في السلطة، بعد حملةٍ كارثية لاستقلال الأكراد. فقد جسد الزعيم الكردي، الأكثر شهرةً خارج السجن، النضال الكردي لإقامة دولةٍ خاصةٍ بهم، والأعمال غير المشروعة وعدم الكفاءة التي فرضت الحكم الذاتي الكردي في العراق.

لطالما كان مقدراً للبارزاني قيادة كردستان، قادماً من عشيرة البارزاني ذات الثقل والتي تولت السلطة في أوائل القرن التاسع عشر. ومنذ قرون، قادت العشائر المجتمع الكردستاني من خلال النظام الاقطاعي، وبصفته نجل الزعيم الكردي الأسطوري الملا مصطفى البارزاني، كانت الطريق ممهدة أمام مسعود لقيادة الإقليم يوماً ما.

لم تقتصر قيادة كردستان بالضرورة بالجزء من الإقليم المحصور في شمال العراق. وتعدّ أصوله علامة واضحة على ذلك، فقد ولد في مهاباد التي تتبع حالياً لجمهورية إيران. وكان والده مصطفى البارزاني قائد القوات العسكرية في جمهورية مهاباد الكردية التي لم تدم طويلاً، إذ كانت دُويلة قصيرة مدعومة سوفيتيياً كجمهورية كردية. ولد مسعود هناك في 16 أغسطس عام 1946، والذي يُصادف أيضاً ذات اليوم الذي تأسس فيه الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة عشيرة البارزاني. ولا يكشف التاريخ ما إذا رتب مصطفى لتزامن التواريخ أم أنّ الأمر مجرد مصادفة.

كان مصطفى زعيم ومحارب ألهم الأكراد في جميع أنحاء كردستان، واضطر إلى مغادرة مهاباد بعد انهيار الحزب الديمقراطي الكردستاني في أقل من سنة بعد تأسيسه. وجد له ملاذاً آمناً في الاتحاد السوفياتي بالرغم من عدم اصطحابه لزوجته وأطفاله الذين عادوا أدراجهم إلى العراق. تمكن مصطفى البارزاني من العودة إلى العراق بعد إثني عشر عاماً أي في عام 1958، بعد الإطاحة بالنظام الملكي العراقي وإعلان الجمهورية. ومع ذلك، استمر قمع الأكراد وبدأ مصطفى انتفاضةً ضد النظام في بغداد في عام 1961.

استمرت هذه الانتفاضة حتى عام 1975 عندما هزم الجيش العراقي مصطفى. كان مسعود آنذاك شاباً مقاتلاً في قوات البيشمركة الكردية التي انضم إلى صفوفها في سن السادسة عشرة، واضعاً حداً لمسيرته التعليمية. وفيما بعد، استقال مصطفى من رئاسة الحزب الديمقراطي الكردستاني ليحل مسعود محله بعمر الـ33. توفي مصطفى البارزاني في المنفي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1979.

شكلت هزيمة مصطفى نقطة تحوّل للأكراد. ولربما لا يُعتبر جميع الأكراد من أنصار الحزب الديمقراطي الكردستاني، إلا أنّ نهج المقاومة الذي اتبعه مصطفى طوال حياته والكفاح المسلح ضد العديد من الأنظمة القمعية يعدّ مصدر إلهامٍ كبير بالنسبة لهم. وبالمثل، كانت هزيمته بمثابة صدمة كبيرة، حيث خلقت فراغاً في قيادة الأكراد. لم يكن مسعود آنذاك معداً بعد ليصبح زعيماً، وبدأ الأكراد، وبخاصة في تركيا التشكيك في استراتيجيات عشيرة البارزاني والنظام الاقطاعي الذي انبثقت منه.

الفصائل المنافسة

طالباني البارزاني
جلال طالباني (يسار) ومسعود البارزاني بعد الانتخابات الرئاسية, صلاح الدين, 22 مايو/أيار 1992. Photo AFP

برز منافسٌ آخر لعشيرة البارزاني داخل العراق، عشيرة طالباني، بقيادة جلال طالباني. وسرعان ما نمى حزب طالباني، الاتحاد الوطني الكردستاني، ضارباً جذوره في الأرض، ليبدأ فصلاً جديداً من فصول التنافس بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني الذي سرعان ما تحول إلى صراعٍ عنيف تخلله مؤامرات وجرائم قتلٍ متبادلة بين الطرفين.

وفي نهاية المطاف، ساعدت التطورات الداخلية في العراق على رأب الصدع بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، وبالأخص، حرب الخليج الأولى (1991)، التي منحت الأكراد ما سعوا خلفه لعقود، وما حارب من أجله مصطفى البارزاني باستمرار: الحكم الذاتي الفعلي. ففي عام 1992، أجريت الانتخابات الرئاسية، إذ كانت نتائج السباق الرئاسي بين جلال طالباني ومسعود البارزاني متقاربة للغاية بحيث قرر الزعيمان تشكيل مجلسٍ رئاسي مشترك. بيد أن هذه الصداقة السياسية لم تدم طويلاً، واندلعت الحرب في عام 1994 بين الطرفين المتناحرين واستمرت حتى 1998.

فقد كان البارزاني بطل أحد أكثر اللحظات المُشينة في الحرب عندما دعا قوات صدام حسين لإخراج الاتحاد الوطني الكردستاني من إربيل، عاصمة كردستان العراق. أشعل هذا التوترات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والولايات المتحدة، التي أقامت منطقة حظرٍ جوي فوق المنطقة.

ومنذ ذلك الحين، تم تقسيم كردستان العراق بين منطقة يسيطرعليها الاتحاد الوطني الكردستاني في الجنوب، في جميع أنحاء السليمانية، في حين يُسيطر الحزب الديمقراطي الكردستاني على المنطقة الشمالية حول إربيل. كما يمتلك كل من الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني قواتٍ مقاتلة خاصة به، البيشمركة، على الرغم من أن المعركة الأخيرة ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش،” قد أقنعت وزارة الدفاع محاولة توحيد كلا القوتين من البيشمركة تحت قيادةٍ واحدة.

وبعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، منح الدستور العراقي الجديد لعام 2005 منطقة كردستان الحكم الذاتي رسمياً. عُقدت الانتخابات الرئاسية مجدداً، وهذه المرة، فاز مسعود البارزاني وهو بعمر الـ59. جاء انتخابه كجزءٍ من الاتفاق بين الاتحاد الوطني الكردستاني (الذي عيّن رئيسه جلال طالباني رئيساً للعراق عام 2005) والحزب الديمقراطي الكردستاني، حيث قرر الأخير الانضمام إلى القوات مرة أخرى عام 2002. وفي عام 2009، انتخب البارزاني لولايةٍ ثانية مدتها أربع سنوات، حيث حصد ما نسبته 70% من الأصوات.

تحت ولاية مسعود البارزاني بات إقليم كردستان مستقر سياسياً، سيما بالمقارنة مع الوضع المضطرب والعنيف في أرجاء العراق. فضلاً عن ذلك، ازدهر إقليم كردستان اقتصادياً، ويعود الفضل في ذلك إلى مسعود البارزاني الذي وجد حليفاً له في جارة العراق الشمالية، تركيا، حيث أصبح مسعود البارزاني صديقاً مقرّباً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

يعتبر التحالف الاستراتيجي بين تركيا وإقليم كردستان ذو أهمية سياسية واقتصادية على حد سواء بالنسبة لمسعود البارزاني. فمنذ الثمانينيات، هُز عرش مسعود من قِبل عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني التركي. تعتبر هذه المنافسة أيديولوجية أيضاً، إذ أنّ حزب العمال الكردستاني له جذور ماركسية ولا يحارب فقط نظام الدولة التركية وإنما الهياكل الإقطاعية في المجتمع الكردي، ومنها قيادة عشيرة البارزاني كمثالٍ بارز. ومع ذلك، ومع تنحي البارزاني، فمن غير الواضح بعد ما إذا كانت رئاسته ستنتهي بالفعل هذا العام.

وفي عام 2013، مدد الاتحاد الوطني الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي فترة ولايته لمدة عامين ومرةً أخرى في عام 2015، متجاوزاً الدستور العراقي. وقد شكل تهديد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” سبباً لعدم الإخلال بالوضع السياسي الواقع. بيد أن النقاد يُشيرون إلى أن هذا مجرد مثالٍ آخر على انعدام الديمقراطية في ظل تحالف الاتحاد الوطني الكردستاني – وحزب الاتحاد الديمقراطي والسلالات الحاكمة الأسرية التي تحكم المنطقة.

وفي حين استحوذت المعركة ضد تنظيم الدولة “داعش” على الاهتمام الدولي، نال البارزاني والبيشمركة الاستحسان من الغرب، بالرغم من تنامي التوترات داخل حكومة إقليم كردستان. وعندما تدخلت قوات البيشمركة للدفاع عن إربيل من تنظيم الدولة في عام 2014، بعد فرار القوات العراقية، وضعوا حدوداً لدولةٍ كردية جديدة، لتمتد الأراضي الكردية إلى مناطق مثل كركوك الغنية بالنفط التي لطالما كانت أعين الأكراد تتجه إليها. وبعيداً عن بغداد، تمكن القادة الأكراد من التمتع بحكمٍ ذاتي حقيقي، بل قاموا بتصدير نفطهم الخاص والتفاوض على المساعدات العسكرية من الخارج. وأثناء أوج الحكم الكردي الذاتي، تم الإحتفال ببارزاني على مستوى العالم، بالرغم من أن سوء إدارته في دياره باتت أكثر وضوحاً.

طموحٌ قاتل

في عام 2016، أعلن البارزاني أنه سيتنحى بمجرد حصول الأكراد على دولةٍ خاصةٍ بهم. وبعد النجاح الباهر الذي حققه في أعقاب هزيمة تنظيم الدولة “داعش” في المدن العراقية، اتخذ أولى الخطوات في عام 2017. فقد دعا إلى إجراء الاستفتاء الذي كان يأمل بأن يمهد الطريق أمام إقامة دولةٍ مستقلة، حيث عمد إلى تعزيز الخطاب المؤيد للأكراد في الداخل، مما أثار غضب جيرانه القلقين بالإضافة إلى حلفائه منذ فترةٍ طويلة. ومع مواصلته التصويت ونيله فوزاً ساحقاً في استطلاعات الرأي، سرعان ما جاء القصاص. فقد أدى طموحه بالنيابة عن الشعب الكردي في نهاية المطاف إلى سقوطه، حيث بات المشروع الكردي في أسوأ حالته منذ سنوات.

وفي خطاب استقالته، وجه انتقاداتٍ لكلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية وخصومه الأكراد الذين ألقى باللائمة عليهم لخسارتهم مدينة كركوك الاستراتيجية لصالح العراق في أكتوبر 2017. ومع ذلك، سيُلقي التاريخ بالمسؤولية، بكل تأكيد، لمثل هذه الاضطرابات التي ألمت بالحظوظ الكردية على البارزاني نفسه.

ففي مغامرةٍ تراجعت بشكلٍ كبير، أعاد التصويت على استقلال كردستان، على الرغم من شعبيته الكبيرة في المناطق التي يُسيطر عليها حزب البارزاني- الحزب الديمقراطي الكردستاني ومعظم الأراضي العرقية الكردية، حكومة إقليم كردستان إلى عام 2011. ومع تقليص أراضيهم ومكانتهم الدولية بشكلٍ صريح، يواجه الأكراد اليوم معركةً عسيرة في سعيهم لإقامة دولتهم. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال مؤيدوا الرجل الذي يبلغ من العمر 71 عاماً يميلون إلى التحدي. فأثناء مناقشة البرلمان قراره بالتنحي، اقتحم مسلحون موالون للبارزاني المبنى عنوةً للاحتجاج على قراره.

واليوم، يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا تسعيان نحو تنصيب ابن أخيه، نيجيرفان بارزاني، لتولي المسؤولية خلفاً له. ففي نهاية المطاف، لربما لم تنجح مغامرة البارزاني من أجل الاستقلال، ولكن مع قرار بقاء القيادة الكردية في أيدي أسرته، سيكون اسم البارزاني في قلب السياسة الكردية لسنواتٍ قادمة.

user placeholder
written by
veronica
المزيد veronica articles