وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مي زيادة: رائدة الكتابة والحركة النسوية

مي زيادة
صور لمي زيادة. المصدر: Adnan Masoud

يوسف شرقاوي

اتّخذت الأديبة والرائدة النهضوية النسوية مي زيادة مسافةً من العالم، أفردت من خلالها ذاتها عن ذلك العالم بكلّ ما فيه، وكانت لا تريد أن تنتمي إلى فكرة مجردة، أو فئة تدافع عنها، وإنما تريد أن تنتمي إلى نفسها.
ذلك ما عاد على الحركة النسوية بقوة، لا تنفصم عن واقعيتها، وعاد على الكتابة بالتأثير في المجتمع وجعلها أكثر إقناعاً. لم تكن مي زيادة تعني الكتابة المباشرة أو المنفعلة أو المستكينة، إنما المختلفة التي تمثل المرأة تمثيلاً لغوياً يناسب طبيعتها، ويؤدي غايتها الساعية إلى هدم الأوضاع الثقافية والكتابية التقليدية السائدة.

عملت مي على السخرية من تلك الأوضاع، لأنها أدركتها فلم تقبل أن تكون إحدى ضحاياها، ولم تتماهى معها، كما لم ترتد عنها ردة عاطفية بالكتابة الشاكية التي مركزها ذات الأنثى المهزومة، بل كانت تقول: “أكتب هذا وأنا أعض على سبابتي ضاحكة”.

بذلك ما يزال أثر مي إلى اليوم حاضراً، إذ جعلت الحركة النسوية تتميز وتؤدي غرضها في المجتمع من خلال ذلك النوع من الكتابة الذي اتّخذتْه لنفسها، بمناقشتها للمجتمع التقليدي الذي يستولي فيه القدم على الحداثة، وتتراجع الثقافة، ويضعف النقد والحس النقدي لصالح الإجماع العام الذي لا يتسم بأي ذكاء ولا يقود إلا إلى الانحطاط والتراجع. فالمرأة استسلمت، كما تقول زيادة، لجرحها ولوضعها، وحرصت على أن يظل على حاله، ليوفر لها ذلك ما صارت تستمتع به من شكوى تظن أنها تجلب لها الاهتمام والالتفات، وما هي بمفيدة لها، لأنها تبقي أوضاعها على حالها وتبقيها ضعيفة وغير فاعلة وتجعلها تستبدل الحركة بالكلام.

لذا، كانت مي واحدة من النادرات اللواتي استطعن دمج الحركة بالكتابة، الحركة الفاعلة التي تؤدي إلى تغيير واقع المرأة، وشخصيتها، وإمدادها بالقوة. كان ذلك حاضراً أيضاً في النمط الحياتي لمي، التي حضرت محاكماتِ سياسية لتنقلها إلى الرأي العام، وجمعت بين مثقفي ورواد النهضة المصرية وراسلتهم لتدعوهم إلى بذل جهودهم لرفع الظلم عن كاهل النساء، عدا عن المحاضرات والكلمات التي ألقتها في “النادي الشرقي” وجمعية “مصر الفتاة” والجامعة الأمريكية في القاهرة.

من طليعة الحركة النسوية

تُعد مي واحدة من أبرز رواد وأعلام النهضة الأدبية في تاريخ الأدب النسوي العربي، وُلِدت في الناصرة في فلسطين عام ١٨٨٢، من أبٍ لبناني وأم فلسطينية، ثم سافرت العائلة إلى مصر لتستقر.

هناك بدأت رحلة مي في زمنٍ كانت الكتابة النسائية فيه نادرة، فاستطاعت أن تقتحمها. شغلتها قضايا المرأة فتعرفت على رائدات الحركة النسوية في مصر، مثل هدى شعراوي. كما كانت أول من استخدم مصطلح القضية النسوية ومِن أوائل مَن كتب كتابة نقدية حقيقية عنها.

أدركت أنّ من يحرر المرأة هي المرأة نفسها، وإلّا وقعت في فخّ قمعٍ من نوع آخر. حيث قالت في محاضرة لها بعنوان “غاية الحياة” ألقتها في جمعية مصر الفتاة: “صاح قاسم أمين في القوم يهديهم، ولكنّه لم يفته أنّ تحرير المرأة في يدها أكثر منه في يد الرّجل”.

والحرية عند المرأة حسب مي تتكون من عنصرين أساسيين هما التعليم والعمل، أما “المرأة الغارقة في العبودية تربّي جيلاً من المستعبدين”. كانت تشير إلى مجتمعٍ بأكمله ما يزال متردداً في إفساح المجال أمام الأنثى كاتبة أو مفكرة أو مبدعة، أو لكونها امرأة فقط، فيضعها تحت أنظار الرقيب على نحو يتجاوز رقابته على الرجل.

وفي ذلك قالت في مقدمة كتابها “سوانح فتاة”: «لقد غالى بعض المفكرين، ولا سيما بعض الذين أقنعوا أنفسهم بأنهم مفكرون، لقد غالى هؤلاء في فصل المرأة عن النوع الإنساني الذي كادوا يحصرونه في الرجل»، كي تؤكد أنّ المرأة جزء من «النفس الإنسانية الشاملة، وكل نقص يشوبها إنما يرجع إلى العجز البشري الشائع، وكل أثر من آثار ذكائها إنما هو وجه من وجوه الفكر الإنساني العام”.

في كتابها “المساواة” قدّمت مي نقداً للخطاب الاشتراكي لأنه يبسّط مفهوم المساواة، وتناولت هذا المفهوم عبر مرورها على عدة مصطلحات، ومناهج حُكْمِيَّة وسُلطَويَّة، فبعد أن أشارت إلى الطبقات الاجتماعية انحدرت نحو الأرستقراطية مناقشةً فيما بعد ظاهرتَي العبودية والديمقراطية، كما فندت الاشتراكية بنوعيها السلمي والثوري، متطرقة إلى مصطلح الفوضوية وتاريخه الأوروبي.

وقدّمت مي ثلاثيتها النسوية الشهيرة “عائشة تيمور”، و”باحثة البادية” و”وردة اليازجي”، عن ثلاث نساء شهيرات، كنّ رائدات في النهضة أيضاً.

مي زيادة
صورة أخرى لتمثال مي زيادة في بلدة شاتول. المصدر: RAMZI HAIDAR / AFP.

الاسم العربي الجريح

يطلق عليها عزمي عبد الوهاب في مقدمته لكتاب “مي زيادة… مقالات الأهرام” لقباً هو “الاسم العربي الجريح”، “لأنها عربية بكل ما يحمله الماضي منذ ميلادها وحتى رحيلها، مِن إرث وتاريخ يقهران النساء لمجرد أنهن نساء”.

عاشت مي زيادة إذن باسم جريح وهوية مجروحة، وظلت حتى رحيلها تسأل: “أين وطني؟”، بين أناس قال لها بعضهم: أنتِ لستِ منا لأنك من طائفة أخرى”، فيما قال لها آخرون: “أنتِ لستِ منا لأنك من جنس آخر”… “ولدتُ في بلد، وأبي من بلد، وأمي من بلد، وسطي في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد، فلأي هذه البلدان أنتمي، وعن أي هذه البلدان أدافع؟”.

إنّ هذه الأزمات الوجودية التي عانتها، أوصلتها فيما بعد إلى مصيرٍ جائر، “إنسانة وحيدة، تعاني في صمت من دون أن تمتد إليها يدٌ من غابة الأيادي، التي كانت تسهر في ضوء القمر، لتكتب إليها رسائل الغرام على “أوراق الورد”، أو تكتب القصائد والمقالات تغزلاً في رجاحة عقلها ونبوغها”.

فقد تم اختصار أدوار مي كلها بصورة المرأة التي أحبّها الرجال، وكان أولئك هم أنفسهم روّاد النهضة المصرية الذين ترددوا على صالونها الأدبي كل ثلاثاء، بل وحُصِرَت أهمية مي حتى يومنا هذا بعلاقتها مع الأديب اللبناني جبران خليل جبران، وذلك نوعٌ من أنواع الحصار التي يفرضها المجتمع على المرأة، وعلى رأسه وسطه الثقافي، الذي يرى أهميتها الحقيقية من خلال علاقتها بالرجل.

فبعض الذين رحبوا بها وأعجبوا بأدبها من كتاب مصر في عصر النهضة، من أمثال طه حسين والعقاد والرافعي وغيرهم، كانوا يعجبون بها لأنها “امرأة” مثقفة وتجيد الكتابة، وليس لأنها كاتبة في المقام الأول، بمعنى أن إعجابهم كان أقرب إلى التربيت على الكتف والتشجيع منه إلى الإقرار بتميزها ومنافستها لهم. وقالت غادة السمان عن ذلك التشجيع الملتبس:
“فالزحام المتملق حضور موحش، ومي كامرأة ذكية ومرهفة كانت بالتأكيد تعي وخز الاستهانة بإبداعها ككاتبة، ومعظم الذين حولها يمطرونها بزبد الإعجاب الملتبس بشخصها الناعم قبل إبداعها. وهو إعجاب متنصل منها إبداعياً، ويتجلى ذلك التنصل المتملص في لحظات الصدق النقدية المكتوبة لا المدائح الشفهية المجانية”.

تلفت الكاتبة سعاد العنزي إلى أن طبيعة التنميط للدراسات التي تناولت مي زيادة، واختزالها بشكل انطباعي مبتسر لجهودها تثير الاستغراب والذهول، على الرغم من تأثر النقد الأدبي العربي في عصر زيادة وما بعده بتيارات ومناهج نقدية أدبية متقدمة. فالمسكوت عنه في حالة مي يعري ويفضح هذا التجاهل النقدي الذي عوملت به كتبها وجهودها الفكرية، فلم تقارب نقدياً بما يليق بمنجزها الفكري والنقدي قط عن قصد وعن غير قصد.

فرجينيا وولف ومي زيادة

عاشت مي زيادة وفرجينيا وولف في نفس الفترة الزمنية، بكل ظروفها السياسية وحروبها العالمية، والتغييرات الاجتماعية والاقتصادية المهمة آنذاك، سواءً في المملكة المتحدة، أو في مصر.

تشير سعاد العنزي في كتابها “نساء في غرفة فرجينيا وولف “إلى أن كلاً من الكاتبة الإنجليزية والكاتبة اللبنانية – المصرية بحثتا في تناقضات الثقافة الذكورية، ونقدتاها نقداً عقلانياً، موضحة التحيزات الذكورية ضد المرأة، ووضع المقارنات والمفارقات الحادة التي أنتجتها أفكار الفلاسفة”.

ومثلما انتقدت فرجينيا وولف الثقافة الأبوية، التي كانت مهيمنة في القرن الثامن عشر، من خلال بعض العادات، كمنع المرأة من التحصيل الجامعي، أو المشاركة في الاجتماعات العامة بالمقاهي والنقاشات الفكرية التي كانت تحدث آنذاك، كانت مي شعلة من النشاط، سواء في الكتابة أو في الترجمة ونشر المقالات، والمشاركة في المحاضرات، إضافة إلى صالونها الأدبي في القاهرة، والذي كان ظاهرة ثقافية لافتة في ذلك الزمن. فإلى جانب التزامها النسوي، كانت مي أيضاً ملتزمة التزاماً اجتماعياً وسياسياً، وتأخذ مواقف الالتزام، والذي تمثل وقتها بمقاطعة المنتجات الفنية، وغيرها، للدول المعادية للسامية والقيم الإنسانية”.

و”بإمكان المرء، أن يقابل بين صورة فرجينيا وولف، التي وصل بها الحال إلى أن تكون مريضة عقلياً بشكل رسمي، فصبر عليها مجتمعها وزوجها وأسرتها، وتحسنت حالتها، لتنتج روائعها الأدبية، وبين الوضع الذي اقتيدت إليه مي زيادة، وهي في أربعينياتها، وفي كامل قواها العقلية، وذروة إنتاجها الأدبي، مع أثقال روحها المحملة بالحزن والفقد إلى المصح العقلي لإعلان جنونها، والحجر عليها من ذويها، وقتل ما تبقى لها من مشاعر وأحاسيس الكرامة والإباء، التي عاشتها كل عمرها، وهي تدافع عنها وتحافظ عليها. مفارقة، تكشف أزمة عالمين، عالم متطور ومتقدم، يحترم نساءه، وعالم آخر يقتاد نساءه إلى قاع البؤس، ومتاهات الجنون، ومهالك القسوة والظلم والاستبداد”.

بعد وفاة والدَي مي والرجل الذي تحبه، عادت إلى لبنان، فأدخلها أهلها مستشفى الأمراض العقلية، ولم يهتم أحد لغيابها حتى تدخلت الصحافة فخرجت وعادت إلى مصر، لكن الناس انصرفوا عنها، وحين ماتت سنة ١٩٤١ لم يخرج في جنازتها سوى ثلاثة أشخاص، هم أحمد لطفي السيد وخليل مطران وأنطوان الجميل.

وتركت مي في مذكراتها أمنيتها: “أتمنى أن يأتي بعد موتي من ينصفني ويستخرج من كتاباتي الصغيرة ما فيها من صدق وإخلاص”، لكن، هل تحققت أمنيتها ككاتبة ومفكرة ما يزال أثرها حاضراً اليوم لو بحثنا عنه؟ لا يبدو ذلك، إذ تم اختزال صورتها إلى “المرأة التي أحبّها الرجال”، وهذا ما كانت تهاجمه طوال حياتها، لأنّ “الامرأة امرأة قبل أن تكون حسناء”.

 

المصادر:

البازعي، سعد. مي زيادة ومواجهة الكتابات النسوية. الشرق الأوسط. المصدر:
https://aawsat.com/home/article/785471/%D9%85%D9%8A-%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D9%88%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B3%D9%88%D9%8A%D8%A9

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.