وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

عثمان كفالا: المُحسن الصالح خلف القبضان في تركيا

Turkey- Osman Kavala
المصدر: www.osmankavala.org

في السنوات الأخيرة، واجه سجل تركيا في مجال حقوق الإنسان تدقيقاً متزايداً في ظل حملة التطهير الوطنية من أتباع غولن، الأتباع المزعومين لرجل الدين التركي المُقيم في الولايات المتحدة الأمريكية فتح الله غولن، بعد أن أدت محاولة الانقلاب في عام 2016 إلى احتجاز مئات الآلاف من الأتراك، والتي وصلت إلى حد عمليات التسليم الاستثنائي لأتباع غولن في الخارج. ولكن وسط هذا الغضب، تصدر احتجاز رجلٍ واحد، هو عثمان كفالا، عناوين الصحف بشكلٍ خاص وحظي باهتمامٍ دولي.

يُعرف كفالا، وهو رجل أعمالٍ ثري، باعتباره محباً للخير وقائداً في المجتمع المدني. وباعتباره رئيس معهد الأناضول الثقافي، كان حلقة وصلٍ رئيسية بين تركيا والمجتمع الدولي، حيث ساهم في تشكيل العلاقات وبناء الروابط الثقافية. ولكن في الوقت الذي تضاعفت به حملة التطهير التي شنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتتضمن حملةً أوسع نطاقاً على شخصيات المعارضة، فما سبب وقوع كفالا في هذه الشبكة وما هي أهميته؟

تولى كفالا، الذي تلقى تعليمه في كلية روبرت كوليدج، ذات الطراز الأمريكي، في اسطنبول (وهي موطن النخبة الليبرالية في تركيا)، والتحق بعدها بإحدى الجامعات في المملكة المتحدة، إدارة الإعمال التجارية للمجموعة التابعة لعائلته بعد وفاة والده. وفي حين كان الدعم المالي لإمبراطورية أعماله ما عزز كثيراً من أعماله الخيرية، إلا أن مساعيه الخيرة بحد ذاتها ما صنعت اسمه. فمن خلال عددٍ من المنظمات، بما فيها معهد الأناضول الثقافي، اكتسب سمعةً دولية بسبب عمله على محاولة مداواة المشهد المجزأ، بشكلٍ متزايد، للمجتمع التركي.

ألقي القبض عليه بتهمة دعم أربع “جماعاتٍ إرهابية” والسعي إلى الإطاحة بالنظام الدستوري والنظام التركي، رغم أنه في ذلك الوقت ، كان احتجازه سرياً ومحاطاً بالغموض. ومع ذلك، بعد مرور عامٍ على اعتقاله الأولي، لم يتم توجيه اتهامات إليه بشكلٍ رسمي. فقد احتُجز هذا الشخص البالغ من العمر 61 عاماً في الحبس الانفرادي دون أي إشارةٍ إلى لائحة اتهامٍ رسمية أو حتى الإدلاء بإفادته أمام المدعي العام.

إلا أن هذا لم يمنع القيادة التركية من الإفصاح عن وجهات نظرها حول براءته بكل وضوح. فبعد أقل من أسبوعٍ من اعتقاله، وقبل اتهامه رسمياً، اتهم الرئيس أردوغان كفالا علانية بالسلوك الإجرامي، واصفاً إياه بـ “ممثل سوروس في تركيا” وربطه باحتجاجات حديقة جيزي عام 2013.

ولتعزيز هذه المزاعم التي يبدو أن لا أساس لها من الصحة، اتهم الرئيس أردوغان أيضاً الملياردير الهنغاري (والهدف المتكرر لنظريات المؤامرة العالمية المعادية للسامية) جورج سوروس، بالوقوف وراء أنشطة كفالا التي يفترض أنها غير قانونية. ساهمت هجمات كهذه إلى إنهاء سوروس لعمل منظمته في تركيا (يعتبر كفالا أحد أعضاء المجلس الاستشاري للفرع التركي لصندوق المجتمع المفتوح، الذي يملكها سوروس، وهي منظمة تدعم الاضطرابات المدنية غير العنيفة، مثل احتجاجات جيزي).

كما كان ربط كفالا بـ”العقل المدبر” المفترض لمحاولة الانقلاب عام 2016، وهو هنري باركي- أستاذ جامعي أمريكي كان يعقد مؤتمراً في اسطنبول في ليلة محاولة الانقلاب، منعطفاً غريباً لتدويل قضيته. وتتمثل إحدى التهمتين الموجهتين لكفالا بتواصله مع باركي. وفي حين أن كفالا لم يحضر المؤتمر، إلا أن باركي أكدّ أنهما تحدثا بإيجازٍ في أحد مطاعم اسطنبول. وعلى الرغم من أن الأمر يبدو عرضياً، إلا أن هذا كان دليلاً كافياً لأنقرة لاحتجاز كفالا لفترةٍ طويلة مع استمرار التحقيق القضائي.

ومع ذلك، يُثير اعتقال كفالا واحتجاز عددٍ من الشخصيات الأخرى التي يفترض تورطهم في تنظيم احتجاجات حديقة جيزي- الذي يعتبر على الأرجح أكبر تحدٍ علني لحكم أردوغان الذي دام قرابة 17 عاماً – أسئلةً مثيرةً للقلق. لماذا قررت الحكومة إعادة إحياء تحقيقٍ مضى عليه خمسة أعوام، وبخاصة حول موضوعٍ يُشعل التوترات؟

لا توجد إجابةٌ واضحة، ولكن مع استمرار التحديات التي تواجه هيمنة حزب أردوغان، حزب العدالة والتنمية، يمكن لأردوغان الإعتماد على أتباعه للدفاع عنه. وعلى الرغم من أنه لا يواجه أي تحدٍ انتخابي في أي وقتٍ قريب، بعد أن فاز للتو بسباق رئاسي منحه تفويضاً ضخماً، إلا أنه لا بد أن هذا الخوف بين أنصار حزب العدالة والتنمية يشجع أردوغان بالتأكيد في حملته المستمرة لاجتثاث المعارضين الأتراك داخل تركيا وخارجها.

ومع ذلك، يمكن لأردوغان من خلال تأجيج التوتر وتغذية نار الشكوك في تركيا، أن يضمن دعماً ثابتاً من قاعدته الإسلامية السُنيّة المحافظة، إذ يعمل التقسيم السياسي في تركيا لصالح الرئيس أردوغان، طالما يستطيع الحفاظ على ولاء أنصاره. وعليه، فإن الخوف من الطابور الخامس في المجتمع التركي هو أداةٌ قوية للقيام بذلك.

تحقيقاً لتلك الغاية، وبما أن معهد الأناضول الثقافي عمل على نطاقٍ واسع نسبياً مع الأرمن والأكراد في تركيا، فإنه يمكن اعتبار احتجاز كفالا شكلاً من أشكال الترهيب ضد الأقليات في البلد. وهذا من شأنه بكل تأكيد أن يجعل المنظمات التركية التي تعمل حول حقوق الأقليات أكثر حرصاً على عملها.

إن المزيج الانتقائي للتهم الموجهة إلى كفالا في الصحافة التركية، من التعاون مع أتباع غولن والتجسس لصالح الغرب، إلى تنظيم احتجاجات جيزي وصلاته بالجريمة المنظمة، تعكس بشكلٍ أكبر جهود وسائل الإعلام (التي أصبحت اليوم موالية للحكومة بشكلٍ كبير تقريباً) لتشويه صورته بما يتجاوز أي دليلٍ كبيرٍ ضده.

لا شك أن مكانة كفالا وصلاته بالمجتمع الدولي ما عزز التغطية الإعلامية لاحتجازه المستمر. إلا أن هذا الإهتمام تُرجم أيضاً إلى عملٍ سياسي: فقد أشار مفوض الأمم المتحدة لشؤون الدول الطامحة بالإنضمام إلى التكتل (تركيا مرشحة للإنضمام إلى عضوية الإتحاد الأوروبي منذ الثمانينيات)، بكل صراحة إلى كفالا بالاسم في شهر نوفمبر من عام 2018 عندما هاجم تركيا لاحتجازها صحفيين وأعضاء في المجتمع المدني.

قد يشير استمرار احتجاز كفالا إلى خوف الرئيس أردوغان من شخصيات المجتمع المدني المترابطة بشكلٍ جيد والتي تملك أموالاً لإنفاقها. ولا تزال تركيا منقسمة إلى حدٍ كبير، حيث أن الانتخابات العامة الأخيرة كانت واضحة للغاية، وخلال فترةٍ يعاني فيها الاقتصاد التركي من صعوباتٍ وعدم القدرة على تحمّل النمو المستمر لحقبة حزب العدالة والتنمية، فإن أي نوعٍ من أنواع المعارضة قد يُشكل خطراً. وعلى الرغم من كون قضية كفالا بمزيدٍ من التسامح العرقي من القضايا المؤثرة غالباً في تركيا، إلا أن التوترات الحالية ليست متجذرةً على وجه الخصوص بمثل هذه القضايا. ومن المؤكد أن تهديد كفالا يأتي من رفضه الإنصياع لأوامر أردوغان، واحتماليه أن تُشعل ثروته شرارة المعارضة في خضم موجة التغيير.