وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

العودة الثالثة لرجل المخابرات القوي في السودان للبقاء في السلطة

Sudan- Salah Gosh
صلاح عبد الله قوش. Photo AFP

“اطلاق سراح بقية المعتقلين رهين بتحسن سلوك احزبهم،” هذا ما قاله الجنرال صلاح عبد الله قوش، 61 عاماً، رجل المخابرات السوداني القوي الذي أعيد تعيينه مديراً لجهاز الامن والوطني والمخابرات الوطني في الحادي عشر من فبراير 2018، تعليقاً على استمرار اعتقال عشرات القادة والناشطين السياسيين، في مهرجان إعلامي دعا له الصحف ومحطات التلفزيون في سجن كوبر في الخرطوم. وقد استقال قوش من منصبه في الثالث عشر من إبريل 2019.

لكن مئات من ذوي المعتقلين الذين احتشدوا في ساحة السجن أصيبوا بخيبة أمل كبيرة بعد اطلاق حوالى ثمانين معتقلا فقط، معظمهم من الطلاب والنساء فيما بقيت غالبية المعتقلين السياسيين الذين، لا يعرف عددهم بدقة، في زنزاناتهم الموحشة.

وأثارت العودة المباغتة للجنرال قوش لقيادة جهاز المخابرات دهشة وردود فعل وتكهنات واسعة ليس فقط حول سيرة ومسيرة الجنرال ذو السمعة المرعبة بل حول المستقبل السياسي للبلاد والكثير من التساؤلات حول دوافع الرئيس البشير للعودة للاستعانة بالحرس القديم المجرّب.

الصعود إلى القمة

صعد قوش سلم مخابرات حكومة الرئيس البشير بصبرٍ وحنكة منذ أن تخلي عن مهنته الاصلية كمهندس انشاءات مدنية والتحق بجهاز الامن الداخلي عام 1989، معولاً على خبرته كمسؤول أمني لتنظيم الاخوان المسلمين (الطلاب) في جامعة الخرطوم التي تخرج منها عام 1982.

تميزت الفترة التي فيها تولى فيها صلاح قوش إدارة الامن الداخلي في التسعينيات بإجراءات قمع قاسية للمعارضين الحقيقيين والمحتملين وتعذيب وحشي لآلاف المعتقلين السياسيين لم تعهده الخصومات السياسية السودانية من قبل، في سجونٍ سرية عرفت باسم “بيوت الاشباح” وقد وثقته المنظمات الحقوقية الدولية. واعترف الجنرال قوش في لقاءٍ صحفي لاحق أن قسوته البالغة طالت حتى شقيقه الأكبر الذي اعتقل وسجن لعام كامل في بيوت الاشباح أبان رئاسته للجهاز لأنه كان ينتمي للحزب الشيوعي.

ومع ذلك، واجهه الجنرال قوش عواصف عاتية خلال مسيرته الأمنية الطويلة في الحفاظ على أمن النظام في الخرطوم. القت به احدي تلك الموجات خارج جهاز المخابرات بعد مغامرة فاشلة ومكلفة سياسيا اتًهم فيها جهاز الامن والمخابرات السودانية بالتورط في مساعدة متطرفين اسلاميين مصريين في محاولة لاغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في العاصمة الاثيوبية أديس أبابا في يونيو 1995. لم يعرف حتى الآن دور محدد وواضح للسودان في هذه المغامرة الفاشلة التي ينفي قوش أي دور لبلاده فيها، لكنه على أي حال خسر إثرها منصبه كمديرٍ للعمليات في جهاز الامن مع عددٍ آخر من قيادات الجهاز في بداية عام 1996.

وبعد عدة أشهر، عين قوش مديراً لمصنع اليرموك للصناعات الحربية، حيث وضع انطلاقة التصنيع العسكري في السودان، كما ساهم في تشييد عدة مصانع لإنتاج الأسلحة التقليدية، ليعود لجهاز الأمن مجدداً عام 2002.

دماء دارفور

شكلت ازمة الحرب الاهلية الدامية والمأساة الإنسانية التي صحبتها بمقتل وتشريد مئات الالاف منذ عام 2003، علامة فارقة في التاريخ السياسي للجنرال قوش الذي كان قد عين مديراً عاماً لجهاز الامن والمخابرات عام 2004 بعد دمجهما واطلق يده في ادارتها. شارك صلاح قوش في تشكيل مليشيات الجنجويد التي ارتكبت انتهاكاتٍ مروعة ضد القبائل غير العربية الموالية والمتعاطفة مع حركات التمرد في دارفور، حيث قتل وشرد مئات الالاف من مواطني دارفور. ووفقاً لمقال في صحيفة نيويورك تايمز في 20 يونيو 2005، فإن اسم صلاح قوش كان ضمن لائحة قدمت إلى مجلس الأمن تضم 17 شخصاً متهماً بارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور، إلا أنه لم توجه إليه اتهاماتٌ رسمية من محكمة الجنايات الدولية مثل رئيسه المشير البشير.

ظل صلاح غوش شبحاً غامضاً لا يعرفه أحدٌ من عموم الناس ولم تنشر له صورة واحدة، حتى اختار بنفسه موعدا صاخباً للظهور العلني وسمح بنشر صورته في الصحف. كان ذلك يوم اكتشاف المخبأ السري لمحمد إبراهيم نقد، زعيم الحزب الشيوعي السوداني في العاصمة الخرطوم في 7 أبريل 2005 بعد اختفائه الأسطوري عن الانظار لأحد عاشر عاماً. ذهب قوش بنفسه لمخبأ محمد نًقد السري بعد كشفه واقتحامه ليخبره بأنه ليس مطلوباً لدى جهاز الأمن، في انتصارٍ رمزي على خصومة التقليدين في السياسة المحلية والطلابية التي خرج من رحمها قوش.

كما لعب صلاح قوش دوراً مهماً في التخفيف من العزلة والضغوط الدولية وخاصة الامريكية على الخرطوم بتعاونه المثير للانتباه مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي أي ايه) في ملف مكافحة الإرهاب، حيث تعاون مع الأمريكيين لسنوات وسلمهم، حسب صحيفة لوس انجلوس تايمز، معلوماتٍ وملفاتٍ مفصلة عن المطلوبين لديها من الجهاديين العرب الذين كانت تستضيفهم الخرطوم طوال فترة ما قبل هجمات سبتمبر 2001 وبعدها بقليل، بمن فيهم أسامة محمد عوض بن لادن، الذي كان مقرباً من صلاح.

وأشارت تقارير أخرى أن قوش عرض على الأمريكيين آنذاك معلوماتٍ عن الجماعات الإسلامية المتشددة ليس في السودان فحسب بل وفي دول بعيدة مثل الصومال والعراق. وصل التعاون بين قوش والسي أي ايه حد أن الأخيرة قد بعثت له بطائرة خاصة نقلته من الخرطوم لواشنطن للقاء مدير السي أي ايه في مايو 2005، غير أن تسرب الخبر للصحافة سبب حرجاً بالغاً لإدارة الرئيس بوش. وقد ارسل 11 عضواً في الكونغرس رسالةً للرئيس بوش يتهمون فيها صلاح قوش بهندسة سياسات التطهير في دارفور وتنفيذ خطط الأرض المحروقة. كما تعاون قوش في نفس الاطار مع البريطانيين والتقى سراً بمسؤولين في أجهزة أمنها أكثر من مرة، وفقاً لصحيفة الإندبندنت.

وهكذا سيطر صلاح قوش ليس على الأمن الداخلي فحسب، بل أيضاً على ملفاتٍ مهمة في العلاقات الخارجية، وأصبح يبعث بالأوامر للسفارات السودانية في الخارج بشكلٍ مباشر أو عبر الخارجية السودانية. وقد جر عليه تغوله على سلطات الاخرين خصوماتٍ داخلية مريرة، عبر عن بعضها وزير الخارجية السابق علي كرتي الذي صرح إبان توليه الوزارة أن التعاون الاستخباراتي مع أمريكا تم من خلف ظهر وزارته.

وتمكن صلاح قوش خلال تلك الفترة من تحويل اخفاقٍ فادحٍ وفاضح لأجهزة الامن والاستخبارات العسكرية لمصلحته واضافته لرصيده في 10مايو 2008، عندما تمكن مئات من مقاتلي حركة العدل والمساواة في ذلك اليوم من دخول مدينة أم درمان، بعد أن قطعوا أكثر من ألف كيلومتر على سيارات الدفع الرباعي من الحدود التشادية حتى العاصمة دون أن ترصدها او تتصدي لهم أي قواتٍ حكومية. تم صد الهجوم بواسطة قوات الامن والجيش داخل الاحياء السكنية في المدنية في مدينة المحلة الكبرى على نهر النيل، على بعد أقل من ثلاثة كيلومترات من القصر الرئاسي. لكن قوش الذي سيطر على أجهزة الاعلام بيد خفية، قدم نفسه وجهازه بعد دحر الهجوم باعتباره حائط الصد الأخير الموثوق به ورّحل العجز الفاضح لدفاتر الجيش. في أغسطس 2009 فقد قوش منصبه في صراع القوى المستمر داخل أجنحة النظام، وعيّن مستشاراً امنياً للرئيس دون دور حقيقي مهم.

عندما تم اعتقال صلاح قوش من منزله في نوفمبر 2012 بتهمة التآمر لقلب النظام وزج به في السجن، لم يصدق الكثيرون التهم الموجهة اليه واعتبروه ضحية طموحاته المتضخمة والصراع الداخلي بين أجنحة الحكومة. وذلك على وجه الخصوص لأن قوش تخلى دون ترددٍ عن عرابهم الكبير الدكتور حسن الترابي وانحاز للرئيس البشير حين أطاح بشيخه واعتقله عام 1999. آنذاك، لعب قوش دوراً مهماً في تطهير أجهزة الدولة من مؤيدي الترابي.

عاد الرئيس البشير ليلعب أوراقه القديمة ويعيد صلاح قوش في فبراير 2018، لصدارة السياسة السودانية التي يهيمن عليها جهاز الامن. يواجه الرئيس تحدياتٍ صعبة، بما في ذلك الازمة الاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها البلاد، والبقاء في سدة الرئاسة نفسها، الذي تولاها منذ عان 1989، حيث أن الدستور لا يجيز للرئيس البشير ولاية ثالثة جديدة. وقد امتنع مجلس شورى الحزب الحاكم عن ادراج موضوع ترشيح البشير لولاية ثالثة في اجتماعه الأخير في يناير الماضي وسط تقارير صحفية تشير لخلافات وسط قياداته بهذا الشأن ورغبة بعضهم في تنحي الرئيس البشير.

ويقود هذا الاتجاه القيادي الإسلامي البارز نافع على نافع، وهو أحد المديرين الأوائل لجهاز الأمني الوطني ويحتفظ بنفوذ مقدر فيه ويشاع انه من الذين اسهموا في القاء الجنرال قوش خارج الجهاز عام 2009.

وقد يستدعي الحد من معارضة إعادة ترشيح البشير رئيساً واجراء تعديلٍ دستوري يسمح بولايةٍ ثالثة للبشير وتمريره في الحزب الحاكم والبرلمان، جراحة قاسية تحد من نفوذ تنظيم الحركة الإسلامية الموازي والمتداخل بالحزب الحاكم والتخلص من قياداتها أو على الأقل الحد من نفوذهم في الحكومة والحزب وتقليم اظفارهم، ولا أحد بوسعه إنجاز هذه المهمة أفضل من الجنرال صلاح قوش الذي لم يعرف عنه رأفة ببعيد او قريب.

رجل المرحلة

يبدو أن صلاح غوش تحسب لمثل هذا اليوم، ولم يبدِ مرارةً واضحة من مما لحق به من سجنٍ وإهانة، بل شكر الرئيس البشير وقتها على إطلاق سراحه بعفوٍ برئاسي عام 2013، مشدداً على أنه سيبقى مخلصاً للحزب الحاكم.

نفض صلاح قوش يديه سريعاً من تجارة النفط التي امتهنها، إضافةً لعضوية البرلمان عن دائرةٍ انتخابية في مسقط رأسه شمال السودان في السنوات التسعة ليعود إلى عمله في جهاز الأمن، حيث بدأ عمله في جهاز الامن بإعفاء أكبر أربعة ضباط في الجهاز عرفوا بولائهم للدكتور نافع علي نافع. وفي الوقت نفسه، أعاد للخدمة أربعة ضباط كبار من الموالين له كانوا قد استبعدوا من الخدمة معه ومنهم اللواء جلال الدين الشيخ الذي عينه قوش نائباً له.

وإضافةً لحسم ملف تعديل الدستور وإعادة ترشيح البشير رئيساً عام 2020، يمكن للرئيس أيضاً الانتفاع من علاقة صلاح قوش القوية بأجهزة المخابرات الامريكية في محاولةٍ لتحسين صورته وعلاقاته الدولية. وعلاوة على ذلك، تبرز الحاجة أيضاً لقبضة قوش الغليظة في التعامل مع النقمة الشعبية المتصاعدة على التردي الاقتصادي وارتفاع تكاليف المعيشة لحدود غير محتملة، الأمر الذي استغلته أحزاب المعارضة لإطلاق تظاهرات ضد الحكومة في الأشهر الأخيرة.