وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

صلاح الدين دميرتاش، نجم مُعتم للسياسة التركية

صلاح الدين دميرتاش
صلاح الدين دميرتاش. Photo Picasa

“لن نسمح لك أبداً بأن تصبح رئيسا تنفيذياً،” هذا ما قاله صلاح الدين دميرتاش في مارس 2015، في الفترة التي تسبق الانتخابات البرلمانية التي جرت في يونيو. كان هذا أقصر خطابٍ للرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، الحزب اليساري الذي يملك جذوراً في الحركة السياسية الكردية، والذي سبق وأن أدلى به أمام مجموعته البرلمانية، وحصل على حفاوة بالغة.

يُطلق العديد من محبي صلاح الدين دميرتاش (مواليد عام 1973) عليه لقب سيلوكان، “حبيبي سيلو،” حيث أن سيلو هو اختصارٌ لصلاح الدين. بالنسبة للكثير، يُعتبر معبود الجماهير، بمهاراته الخطابية ومظهره الشبابي الساحر، ودفاعه عن الحداثة والمساواة بين الجنسين، وموقفه الثابت حول العدالة وحقوق الإنسان. وعلى الرغم من الإثارة التي تُحيط بشخصه، وبخاصة قبل انتخابات يونيو، لا يزال دميرتاش مبغضاً للنزعة الشعبوية ويرفض إجراء تغييرات على المُثل العليا للحزب من أجل جذب المزيد من الناخبين.

كان موضوع خطابه القصير الشهير تعهده بألا يصبح رجب طيب أردوغان (الرجل الذي كان يخاطبه) رئيساً بصلاحيات تنفيذية. وقبل شهرين من خطابه، أعلن حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) انضمامه للانتخابات البرلمانية كحزب، وليس كما كان عليه الحال في الانتخابات السابقة، حيث تم الاستفادة من المرشحين المستقلين للالتفاف على عتبة العشرة في المائة. كانت هذه مخاطرة، ذلك أنّ أحزاب الحركة الكردية السياسية لطالما حصدوا سابقاً حوالي سبعة بالمائة فقط من الأصوات. ماذا سيحصل في حال لم يحصل حزب الشعوب الديمقراطي على العشرة في المائة ولم يعد الأكراد ممثلين في البرلمان التركي؟

وسرعان ما بدأت الشائعات تنتشر أنّ حزب الشعوب الديمقراطي يرغب في عقد صفقة مع حزب أردوغان- العدالة والتنمية مقابل الحصول على المزيد من الحقوق السياسية والثقافية للأكراد: سيدعم حزب الشعوب الديمقراطي محاولة حزب العدالة والتنمية ما بعد الانتخابات في البرلمان تغيير النظام السياسي التركي من برلماني إلى رئاسي، بوجود أردوغان رئيساً للبلاد. وبالتالي، فإن الناخبين المحتملين لحزب الشعوب الديمقراطي، وغالبيتهم من الشباب العلمانيين الذين اعتادوا التصويت لحزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري (CHP)، الذي يمقت أردوغان، لن يصوتوا قط لصالح حزب الشعوب الديمقراطي في حال تأكدوا من عقد مثل هذه الصفقة. لذا توجب على دميرتاش التعبير عن رأيه صراحةً ” لن نسمح لك أبداً بأن تصبح رئيسا تنفيذياً.”

خاطر حزب الشعوب الديمقراطي بالمشاركة بالانتخابات كحزب، إلا أنه تلقى الكثير من الثقة من الانتخابات الرئاسية التي جرت في أغسطس 2014. كان صلاح الدين دميرتاش أحد المرشحين الثلاثة؛ أردوغان يمثل حزب العدالة والتنمية وأكمل الدين إحسان أوغلو عن حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية القومي المتطرف. تمكن دميرتاش من الحصول على 9,5% من الأصوات.

كان لشخصية دميرتاش الفضل الكبير في حصد حزبه للنجاح، ولكن لا ينبغي التقليل من شأن فحوى الرسالة. كانت هذه رسالة حزب الشعوب الديمقراطي، الذي تم تأسيسه في عام 2012 خلفاً لحزب السلام والديمقراطية (BDP). لم يتم تأسيس حزب الشعوب الديمقراطي بشكلٍ أساسي كمؤيدٍ لحقوق الأكراد، كما فعل حزب السلام والديمقراطية وسابقاته، بل سعى لتوحيد العديد من الأحزاب اليسارية والمنظمات غير الحكومية. وهكذا، خلق حركة سياسية تنادي بالديمقراطية والحرية للجميع في تركيا، وخاصة الفئات المهمشة مثل الأكراد والعلويين والمثليين، وأنصار البيئة، على أساس المبادئ الديمقراطية الشعبية والنسوية، والمساواة.

كما يتماشى اختيار فيغين يوكسيكداغ  كرئيس مشارك مع دميرتاش مع هدف حزب الشعوب الديمقراطي توحيد اليسار التركي والكردي: يوكسيكداغ  التي تنحدر من أسرة سُنية تركية، كانت أحد مؤسسي وقيادي الحزب الاشتراكي للمضطهدين (ESP)، الذي ظهر إلى جانب حزب الشعوب الديمقراطي عام 2014. تم اختيارها كرئيس مشارك لحزب الشعوب الديمقراطي بعد الانتخابات المحلية في مارس 2014، وذلك بعد أن تم انتخاب الرئيس المشارك السابق لحزب الشعوب الديمقراطي، جولتان كيشاناك، عمدة لمدينة ديار بكر، الجنوبية الشرقية التي تُعتبَر إلى حدّ كبير العاصمة غير الرسميّة لأكراد تركيا.

أصبح دميرتاش تجسيداً لهذا الحزب الجديد النابض بالحياة الذي يتطلع إلى المستقبل، وبالتالي أكبر كوابيس طيب أردوغان. وإذا ما تمكن حزب الشعوب الديمقراطي من تخطي عتبة العشرة بالمائة، سيفقد أردوغان أغلبيته في البرلمان، وستعني الحكومة الائتلافية بكل تأكيد نهاية خطة إقامة نظام رئاسي تنفيذي، لأن جميع أحزاب المعارضة عارضت الفكرة بشدة.

فقد بدى أن الرسالة الشاملة لحزب الشعوب الديمقراطي وأسلوب دميرتاش الحيوي بنشرها، ناجحة للغاية: فاز حزب الشعوب الديمقراطي بـ13% من الأصوات في انتخابات 7 يونيو، أي بما يكفي للحصول على 80 مقعداً في البرلمان. وحاز حزب العدالة والتنمية على 258 مقعداً فقط، أي أقل من الـ276 مقعداً اللازمة للتمتع بالأغلبية. وفي مساء 7 يونيو، أعلن دميرتاش، في احتفالاته بالفوز في اسطنبول، “من الآن فصاعداً، حزب الشعوب الديمقراطي حزب تركيا، حزب الشعوب الديمقراطي هو تركيا، وتركيا هي حزب الشعوب الديمقراطي.”

ولكن بحلول نهاية عام 2015، انقلبت الصورة بشكلٍ دراماتيكي. فقد أجريت بعض المحاولات الفاترة لتشكيل حكومة ائتلافية في فصل الصيف، إلا أنه حُكم عليها بالفشل: أدار الرئيس أردوغان الدفة صوب انتخابات جديدة. تم إجراؤها في الأول من نوفمبر، ولكن في ظل ظروفٍ مختلفة تماماً: فسرعان ما انهار وقف إطلاق النار بين الدولة وحزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي تم التوصل إليه في أوائل عام 2013، بعد الانتخابات، والذي أحدثه، كما يعتقد الكثيرون، أردوغان من أجل الفوز مجدداً بأصوات الناخبين القوميين الذين تركوا حزب العدالة والتنمية من أجل حزب الحركة القومية (MHP).

ولم يعد بمقدور صلاح الدين دميرتاش، المتزوج وله ابنتان، من أن يلمع نجمه مجدداً. أولاً، زاد العنف الذي رافق نهاية وقف إطلاق النار من صعوبة تنظيم حملة ذات أجندة إيجابية كما في السابق، وبخاصة لأن الحكومة أطرّت حزب الشعوب الديمقراطي كناطق باسم حزب العمالي الكردستاني. وبعد ذلك، في العاشر من أكتوبر، تعرضت مسيرة سلمية للنقابات والأحزاب اليسارية الصغيرة وحزب الشعوب الديمقراطي في أنقرة لهجومٍ من قبل انتحاريين، مما أسفر عن مقتل أكثر من مائة شخص. اضطر حزب الشعوب الديمقراطي إلى إلغاء جميع التجمعات الانتخابية بسبب المخاوف الأمنية. وأيضاً، أصبح القيام بالحملات عبر الطرق التقليدية مثل التلفزيون أمراً مستحيلاً بسبب الضغوطات من الحكومة: لم تستطع القنوات التلفزيونية من دعوة دميرتاش إلى برامجها الحوارية، ونادراً ما بثت أي قناة إعلامية لجأ إليها حزب الشعوب الديمقراطي أنشطة حملاته ضيقة النطاق. ونجح دميرتاش ويوكسيكداغ  مرة أخرى بتخطي عتبة الانتخابات، ولكن بشق الأنفس، فقد حصل حزب الشعوب الديمقراطي على 10,7% من الأصوات. وبالتالي، استعاد حزب العدالة والتنمية الأغلبية، وذلك بشكلٍ أساسي على حساب حزب الحركة القومية.

من قائدٍ مشارك يجسد مستقبلاً تعددياً حراً لتركيا، أصبح صلاح الدين دميرتاش قائداً مشاركاً لحزبٍ أضطر مرة أخرى إلى التركيز بشكلٍ أكبر على القضية الكردية، والدفاع عن حقوق الشعب في جنوب شرق البلاد، الذين يعانون تنامي القمع من قِبل قوات أمن الدولة، مع حظرٍ للتجول واحدٍ تلو الآخر وعمليات مكافحة الإرهاب الواحدة تلو الأخرى، ففي المدن الكردية يتم الاعتداء على الشباب في دفاعهم ضد الدولة.
ولكن أياً كان ما سيحصل، يلتزم دميرتاش برسالته، المتجذرة في حياته ومسيرته قبل أن يصبح زعيم المعارضة الأكثر أهمية في تركيا. دميرتاش الذي ولد في محافظة الازيغ من الزازا الأكراد، كان قد تحدث في إحدى المقابلات له عن نقطة التحول في حياته عندما تعرض للقمع باعتباره كردي أثناء مشاركته في جنازة السياسي الكردي فيدات أيدين، الذي اغتيل في ديار بكر في عام 1990.

قرر دراسة القانون، وعندما افتتح مكتبه الخاص في ديار بكر، ركز بشكلٍ أساسي على ما يُسمى جرائم القتل التي لم تحل منذ التسعينيات، عندما قُتل العديد من النشطاء الأكراد بحصانة من قِبل الدولة. وفي عام 2004، أصبح الرئيس المحلي لجمعية حقوق الإنسان، لينتقل إلى الحياة السياسية عام 2007، عندما انتخب لأول مرة في البرلمان عن حزب المجتمع الديمقراطي (DTP)، سلف حزب السلام والديمقراطية (BDP)، سلف حزب الشعوب الديمقراطي (HDP).

ولا تزال الرسالة هي ذاتها: لا صفقاتٍ مع أيٍ كان للمساومة على ما تحتاج إليه تركيا: الديمقراطية التعددية، والسلام والعدالة للجميع. وفي وقتٍ سابق، عبر عن نفسه موجهاً الحديث إلى أردوغان بأن حزب الشعوب الديمقراطي لن يسمح له أبداً بأن يصبح رئيساً تنفيذياً. والآن، في هذه الأوقات التي تتسم بالعنف، يعتبر السياسي الوحيد الذي يدعو دون هوادة الأحزاب المتحاربة بالعودة إلى طاولة المفاوضات.