يتمتع محمد الباجي قائد السبسي بشرفٍ كبير لكونه أول رئيسٍ منتخب ديمقراطياً في تونس وديناصور سياسي. ولد في عام 1926، وتخرج بشهادة في القانون وأصبح مؤيداً مخلصاً للحبيب بورقيبة، زعيم استقلال تونس وأول ديكتاتور.
فقد خدم السبسي، بعد حصول البلاد على استقلالها عن فرنسا في عام 1956، في مناصب وزارية متعددة في ظل حكم بورقيبة، بما في ذلك مناصب الأمن والدفاع. وبعد الإطاحة ببورقيبة في عام 1987، تحالف السبسي بشكلٍ براغماتي مع الحاكم الأوتوقراطي الجديد في البلاد زين العابدين بن علي، حيث شغل منصب رئيس مجلس النواب ما بين عامي 1990 و1991.
وهي الفترة التي يُفضل السبسي وأنصاره نسيانها. وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة عقود، يعتقد السبسي أنه السياسي الوحيد الذي يتمتع بالخبرة الكافية للحفاظ على انتصارات ثورة الياسمين عام 2011، التي أجبرت بن علي على التنحي، بالرغم من أن المنتقدين يخالفونه الرأي.
فمنذ تأسيس حزب نداء تونس في عام 2012- وهو حزبٌ وحدّ اليساريين ونخب النظام القديم والعلمانيين المتشددين- حقق السبسي انتصاراتٍ سياسية كبيرة. فقد كان الدافع الرئيسي لنجاحه هو اغتيال السياسي القومي محمد براهمي في 25 يوليو 2013.
فقد كان براهمي ثاني سياسي يُقتل في غضون خمسة أشهر، مما أثار احتجاجاتٍ ضخمة مناهضة للحكومة. واتهم المتظاهرون حزب النهضة الإسلامي الحاكم بالفشل في اتخاذ إجراءاتٍ صارمة ضد المتطرفين الدينيين الذين كانوا مسؤولين عن ارتكاب هذه الجرائم. ومع تزايد الانقسامات، وتدهور الأوضاع بحيث باتت البلاد قاب قوسين أو أدنى من الفوضى، دعا المحتجون إلى تنحي حزب النهضة، وهو ما حصل بالفعل بعد المشاركة في حوارٍ وطني بوساطة رباعي منظمات المجتمع المدني.
وعليه، كان السبسي في موقعٍ ملائم للإرتقاء في السلطة في أعقاب خروج حزب النهضة من الصورة. ففي عام 2014، تم انتخابه رئيساً للبلاد بعمر الـ88، بعد أن فاز حزبه بأغلبية برلمانية. ومع ذلك، بإلقاء نظرةٍ فاحصة على حملته الإنتخابة، التي حملت مشاعر عداءٍ واضحة ومتشددة ضد الإسلاميين، كان هناك مخاوف بأن يُصبح شخصيةً خلافية بدلاً من كونه شخصيةً موحدة للبلاد.
ويبدو أن العمود الذي كتبه في ديسمبر 2014 لصالح صحيفة واشنطن بوست يؤكد هذا. فقد صوّغ السبسي فوزه الإنتخابي، مستغلاً أداة التحيز الغربي، باعتباره انتصاراً على أفكار النهضة الرجعية. بل ألمح أيضاً إلى أن الطبقة الوسطى الضخمة والعلمانية في تونس قد اختارت طريق “الحداثة” بانتخابه.
أنهى السبسي العمود الصحفي بالقول إن رئاسته ستركز على إصلاح المشاكل الاقتصادية في تونس، وتحسين الأمن وتعزيز الديمقراطية اليافعة والهشة في البلاد. وبعد أربع سنوات، فشل المخضرم السياسي في تحقيق أي نجاحٍ على جميع هذه الجبهات.
ففي عهده، شهدت البلاد هجومين إرهابيين. ففي مارس 2015، قام جهاديين بمهاجمة متحف باردو الوطني في العاصمة تونس، مما أسفر عن مقتل 22 شخصاً. وبعد ثلاثة أشهر، أدى إطلاق نارٍ في منتجعٍ سياحي في مدينة سوسة الساحلية إلى مقتل 37 شخصاً. وفي كلتا الحالتين، يعتقد أن المهاجمين حصلوا على التدريب في معسكرٍ لتدريب الجهاديين في ليبيا المجاورة.
ألحقت الهجمات ضرراً شديداً بالاقتصاد وأجبرت السبسي على اقتراح قانونٍ جديد لمكافحة الإرهاب، الذي أقره البرلمان في نفس العام. وعليه، يمنح القانون قوات الأمن صلاحية احتجاز الأشخاص لمدة تصل إلى 15 يوماً، مع السماح للشهود في جرائم الإرهاب المزعومة بالبقاء مجهولين. انتقدت جماعات حقوق الإنسان القانون، بحجة أنه لا يحمي الحقوق الأساسية للمتهم.
وكما بات جلياً، لم يُقدم القانون أي شيءٍ يُذكر لتحسين الأمن. ففي مارس 2016، حاول عشرات المسلحين الذين يزعم أنهم تابعون لتنظيم الدولة الإسلامية “تحرير” بلدة بنقردان الحدودية من الجيش التونسي. صد الجيش الهجوم وقتل 43 متشدداً، ومع ذلك، كشف الحادث أن الجهاديين المحليين كانوا يشكلون تهديداً للديمقراطية التونسية تماماً كحال الجهاديين من ليبيا أو أي مكانٍ آخر.
وفي نفس العام، طاردت الإنقسامات حزب نداء تونس بسبب الخلافات التي لم تجد لها حلاً بين أعضاء الحزب البارزين. فقد ظن البعض أن على الحزب الإمتناع عن التعاون مع حزب النهضة، في حين يعتقد السبسي وأنصاره أنه أمرٌ ضروري.
كما ظهر خلافٌ أيضاً بين محسن مرزوق، الذي لعب دوراً أساسياً في النصر الإنتخابي لنداء تونس، ونجل الرئيس، حافظ قائد السبسي. وفي يناير 2016، استقال مرزوق وأتباعه من نداء تونس بعد اتهامهم للرئيس بمحاولة الصعود بمكانه ابنه حافظ في الحزب. تولى حافظ منذ ذلك الحين قيادة نداء تونس.
ومع ذلك، لا يزال والده رئيس البلاد، وفي عام 2017، اتخذ السبسي سلسلةً من الخطوات الجريئة. أولاً، تبنى تشريعاً يسمح للمرأة المسلمة بالزواج من غير المسلم، الأمر الذي اعتبرته جماعات حقوق الإنسان نصراً للمرأة. كما قام أيضاً بتجريم العنف ضد المرأة، مما أكسبه المزيد من الثناء.
بيد أن خطوته التالية كانت أقل شعبية، فقد أقر قانوناً يمنح العفو عن المسؤولين وأباطرة الأعمال في عهد بن علي، الذين يخضعون للمحاكمة بسبب الفساد الإداري. وقالت مونيكا ماركس، المحللة المختصة بالشأن التونسي، إن القانون بمثابة “نصرٍ رمزي ضخم للإفلات من العقاب.” غير أن السبسي دافع عن القانون، قائلاً إنه ضروري لتعزيز الاقتصاد.
وفي الوقت الذي بدا فيه أن الديمقراطية الهشة في تونس تتآكل تدريجياً، كان التونسيون الفقراء أكثر اهتماماً بالاقتصاد المتدهور. فقد تنامت المظالم بعد إعلان الحكومة عن إجراءات تقشفٍ جديدة في الأول من يناير 2018. ومع توقع ارتفاع أسعار السلع الأساسية، اندلعت مظاهراتٌ في جميع أنحاء البلاد.
لم يكن أمام الحكومة خيارٌ آخر سوى فرض سياسات التقشف بعد قبول قرضٍ بقيمة 2,8 مليار دولار من صندوق النقد الدولي في عام 2016. ومع ذلك، كان رد الحكومة على المظاهرات متهوراً، فبعد أسبوعين من اندلاع الاحتجاجات، اعتقلت قوات الأمن أكثر من 800 متظاهر.
وتماماً كحال حزب النهضة في عام 2013، يفشل نداء تونس اليوم في حل الأزمة السياسية الحالية. واليوم أيضاً، يواجه السبسي موقفاً حرجاً، حيث بات الخلاف بين ابنه حافظ ورئيس الوزراء، يوسف الشاهد، واضحاً. فالأول يقود حملةً لمكافحة الفساد، التي يعتقد الأخير أنها تستهدف رجال أعمالٍ تربطهم علاقاتٍ فحسب مع حزب نداء تونس.
على الرغم من إخفاقاته، يستحق السبسي الفضل في السيطرة على البلاد بعد عدة هجمات إرهابية. ولكن، خلافاً لمعتقداته، فإن الفساد المتنامي والمحسوبية وثقافة الإفلات من العقاب قد تشكل تهديداً أكبر للديمقراطية التونسية من التهديد الذي يشكله الجهاديون. ولمعالجة هذه القضايا، ينبغي على السبسي أولاً محاسبة نفسه، وابنه، وحلفائه السياسيين.