أشعلت ثورة 25 يناير 2011 في مصر تتابعاً متسارعاً في القادة السياسيين، بدءاً من الرؤساء إلى مجلس الوزراء ووصولاً إلى القادة العسكريين. بيد أن شخصيةً قوية وذات تأثيرٍ كبير صمدت في وجه سنوات الإضطراب محافظاً على مكانته دون أي منازع: الدكتور أحمد محمد أحمد الطيب، الإمام الأكبر لأهم سلطةٍ دينية في مصر، الأزهر الشريف.
ولد الطيب في 6 يناير 1946 في قرية القرنة بالقرب من الأقصر في صعيد مصر، ودرس الفلسفة والعقيدة في جامعة الأزهر في القاهرة، ويحمل درجة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية، من الأزهر أيضاً، كما أمضى ستة أشهر في جامعة السوربون في باريس. وبعد عدة مناصب كأستاذ مساعد وعميد جامعات في وقتٍ لاحق في قنا وأسوان والقاهرة، تم تعيينه رئيساً لجامعة الأزهر عام 2003، ثم شيخاً للأزهر (الإمام الأكبر) في عام 2010.
تأسس الأزهر كمسجدٍ في عام 972 من قبل الفاطميين الشيعة وتوسع إلى جامعة عندما بدأ بجذب العلماء من جميع أنحاء العالم الإسلامي. ويعتبر الآن أرفع مقامٍ في العالم للتعاليم السُنية.
يُقال أن الطيب ينحدر من أسرةٍ صوفية، ولكن من غير الواضح كيف أثرت عليه الصوفية على وجه التحديد. وبالرغم من تواصلنا في فَنَك مع المتحدث باسم الأزهر للاستفسار حول الصوفية، إلا أننا لم نتلقى أي إجابة. ومن الجدير بالذكر أن شقيق الطيب، محمد الطيب، يقود جماعةً صوفية، إلا أنه أخبر الصحافة المحلية أن لا الإمام الأكبر ولا الأزهر على علاقةٍ بجماعته.
ودائماً ما يبقى أقارب الطيب خارج دائرة الضوء، وبالكاد يأتِ على ذكرهم علانية. وبحسب ما ورد، فهو متزوج من ابنة عمه، سكينة، من قريته في الأقصر، حيث لا تزال تعيش هناك، ولديهما ابن وابنة وحفيدين على الأقل. وفي إحدى المقابلات النادرة، تحدث الطيب بالتفصيل عن نشأته القاسية عندما كان طفلاً وكيف أثر هذا عليه كأب.
شخصية قوية
تكلم أسامة، وهو مهندس في مجال النفط في الستينات من عمره، بشكلٍ إيجابي عن الطيب: “يتمتع بشخصيةٍ قوية فضلاً عن كونه ذكي،” وأضاف لنا في فَنَك، “يختار كلماته بعناية.”
يقود الطيب جهود الأزهر لمواجهة الفكر المتطرف في الإسلام، كما قال الأستاذ المساعد في الأزهر، السيد زكريا، لفَنَك سابقاً. وتتضمن هذه الجهود قسم بث الرسائل المضادة، الذي أنشأه الطيب، والذي يدحض رواية جماعاتٍ مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وتنظيم القاعدة.
هذا وتتناسب مكافحة التطرف مع جدول أعمال الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي دعا مراراً إلى “تجديد الخطاب الديني” ويرى أن الأزهر أداةً هامة لهذا التجديد.
من ناحيةٍ تاريخية، لطالما كانت علاقة الأزهر بالدولة وثيقة، بل إن الطريقة التي يستوفي فيها الطيب هذا الدور- وبخاصة خلال السنوات المضطربة بعد ثورة 2011- أمرٌ يستحق إلقاء نظرةٍ عن قرب.
قُربه من الجيش
قبل توليه منصب الإمام الأكبر، كان الطيب عضواً في الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يتزعمه الرئيس السابق حسني مبارك، والذي تم حله بعد إسقاطه خلال الثورة.
وعندما أعلن الجنرال السيسي الإطاحة بمحمد مرسي رئيس الإخوان المسلمين في عام 2013، آنذاك، وقف الطيب مع البابا تاوضروس الثاني أثناء البث التلفزيوني المباشر. وخلال شهر رمضان في عام 2018، ظهر الطيب في إعلانٍ تلفزيوني قائلاً إن التبرع بالمال إلى صندوق الحكومة “تحيا مصر” من الطرق المشروعة لإخراج الزكاة (إعطاء المال للفقراء، وتعدّ أحد أركان الإسلام الخمسة). ويستخدم صندوق تحيا مصر بشكلٍ عام لتمويل المشاريع الضخمة الوطنية مثل توسعة قناة السويس في عام 2016 وبناء عاصمة إدارية جديدة.
ويعتقد أسامة أن الطيب يحافظ على علاقةٍ وثيقة بالدولة لكنه لا يمثل صوت الحكومة بشكلٍ كامل. وقال أسامة “في هذا الصدد، هو أفضل بكثير من سلفه [محمد سيد] طنطاوي، الذي كان موالٍ للدولة 100%.” فعلى سبيل المثال، نادراً ما يتحدث الطيب عن جماعة الإخوان المسلمين المحظورة في العلن، في حين أن شيوخ آخرين يتبعون خط الحكومة المعادي للإخوان بشكلٍ عنيفٍ أكثر، بحسب أسامة.
من جهته، يعتقد عمرو عزت، الباحث في المعهد المصري للحقوق الشخصية، خلاف ذلك، إذ كتب لنا في بريدٍ إلكتروني “لا أعتقد أن أداء أحمد الطيب يمكن وصفه بأنه مستقل أو أكثر استقلالية،” وأضاف ” على العكس من ذلك، من بين جميع الشيوخ الآخرين، هو الأكثر مشاركةً في السياسة، ويدعم السلطة في توجهها العام ومواقفها السياسية الحاسمة.”
بعيداً عن الإخوان
فقد قال عزت أن الطيب خلال الثورة، دعم نظام مبارك وعارض الثورة، وأضاف أنه بعد سقوط مبارك، دعم الطيب المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي كان يحكم في وقتٍ سابق، مما عزز منصبه في الأزهر.
وفي الفترة الأولى ما بعد الثورة (2011-2012)، صدر قانونٌ جديد لتغيير طريقة اختيار شيخ الأزهر. ووفقاً للقانون الجديد، يقوم مجلس كبار العلماء في الأزهر بدلاً من الرئيس بتعيين الإمام الأكبر. من هنا، تأكد الطيب من أن رئيس الإخوان المسلمين لن يتمكن من استبداله. وقال عزت: “بعد الثورة، منع التغييرات الجذرية في الأزهر وتأكد من أنه لن يخضع لسيطرة الإخوان المسلمين.”
وعلاوة على ذلك، يعتقد عزت أن الطيب عمل مع الجيش لمنع التغيير الفعلي في البلاد كما طالبت به القوى الثورية، وذلك على على سبيل المثال بتعيين كبار العلماء المقربين من الدولة، والحفاظ على علاقاتٍ قوية مع أجهزة المخابرات وإقالة العلماء الذين تربطهم علاقاتٌ مع الإخوان المسلمين أو غيرهم ممن يملكون وجهات نظر معارضة بشدة للدولة.
الوصي على الإسلام
ومع ذلك، يبدو أن الطيب اتخذ، فيما يخص بعض القضايا، موقفاً أكثر استقلالية. فقد نأى بنفسه عن الفض العنيف لاعتصام رابعة عام 2013، إذ قال إنه لم يعلم عن الأمر سوى “من وسائل الإعلام.”
وفي وقتٍ لاحق، في عام 2017، رفض الأزهر دعوة السيسي تعديل مفهوم “الطلاق الشفوي” في الإسلام. فقد سبق وقال الباحث إتش إيه هيلير في هذا الصدد لفَنَك، “لن يدعم الأزهر ذلك لأنه يرى في اقتراح السيسي تدخلاً في مجاله.” رد السيسي علانيةً على الطيب إذ قال له بالعامية “تعبتني يا فضيلة الإمام.”
وعلاوة على ذلك، قاوم الأزهر برنامج الدولة لتوحيد خطبة الجمعة في المساجد في جميع أنحاء مصر، على النحو المنصوص عليه من قِبل وزارة الأوقاف.
يعترف عزت بأن الطيب استغل فتح باب النقاش العام لمعارضة المجلس العسكري حول بعض القضايا، إذ قال “الطيب ليس مطيعاً مثل وزير الأوقاف، على سبيل المثال.” وأضاف بهذه الطريقة، “حافظ الطيب على صورته كوصي على الإسلام، وفي رأيي، الوصاية على الإسلام تطغى على السياسات الرسمية.” وكما كتبت فَنَك في وقتٍ سابق، لم تصبح سياسات الدولة في مصر أكثر علمانية منذ الإطاحة بالإخوان المسلمين، بل على العكس من ذلك، تتزايد قضايا التكفير في المحاكم ويتواصل العنف ضد الطوائف المسيحية في صعيد مصر.
بالإضافة إلى ذلك، لم يتبع الأزهر دعوة السيسي لتجديد الخطاب الديني دون قيدٍ أو شرط. فبالنسبة للطيب، يبدو أن الخطاب الإسلامي لا يحتاج إلى التجديد، بل أن يتم تعليمه على نحوٍ أفضل لمنع الناس من استخدام الدين لتبرير العنف والتطرف. وفي مؤتمر عقد في مكة في فبراير 2015، شدد الطيب على أهمية إصلاح التعليم، لأن التطرف هو نتيجة “تفسيرٍ خاطىء للقرآن والسنة.”
وفي ردٍ مباشر على رواية الجماعات المتطرفة، قال الطيب: “ما لم نحكم السيطرة التعليمية والتربوية في مدارسنا وجامعاتنا على فوضى اللجوء إلى الحكم بالكفر والفسق على المسلمين، فإنه لا أمل في أن تستعيد هذه الأمة قوتها ووحدتها وأخوتها وقدرتها على التحضير ومواكبة الأمم المتقدمة”.
وفي الوقت نفسه، فإن علاقته الوثيقة بالدولة تضر بسمعة الأزهر باعتباره سلطة دينية بين الحركات الإسلامية، كما قال الباحث زياد عقل لفَنَك سابقاً. وبحسب عقل، ترى جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية أن الأزهر هو الهيئة الدينية للدولة ورجال الأزهر مسؤولين في الدولة بدلاً من كونهم علماء دين.
كما يعارض الأزهر وصف جماعاتٍ أو أفراد معينين بالمرتدين، حتى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش،” ويمارس في هذا الصدد ما يعظ به. ففي مايو 2018، تمت إقالة رئيس جامعة الأزهر، أحمد حسني، الذي وصف المذيع التلفزيوني إسلام البحيري، الذي غالباً ما يعبر عن انتقاده لبعض التعاليم الإسلامية والأزهر كمؤسسة، بالمرتد.
أدوار غامضة
في تفاعلاته مع ممثلين آخرين، يبدو أن الطيب يختار كلماته بعناية، ويعدلها بما يتناسب مع الجمهور. ففي مناسباتٍ عدة، ألقى باللوم في مشاكل الشرق الأوسط على “الاستعمار الجديد” والصهيونية، التي يتردد صداها في أجزاء كبيرة بين السكان العرب، في حين أنه عندما تحدث مع قادةٍ في الغرب، سلط الضوء على الحاجة إلى فتح أبواب الحوار والتعايش السلمي.
كما انتقد القرار الأمريكي بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، قائلاً إن هذا يُغذي الإرهاب، وألغى على نحوٍ مفاجىء اجتماعاً مع نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس رداً على نقل السفارة.
كما أن علاقة الطيب مع المملكة العربية السعودية غامضةٌ بعض الشيء، فقد التقى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مارس 2018 للحديث عن التعاون بين الأزهر والمملكة فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب.
ومع ذلك، وخلال مؤتمرٍ دولي لعلماء السُنة عقد في الشيشان- روسيا في عام 2016، استبعد الطيب الوهابية، وهي النسخة السعودية المتشددة من السلفية، من الإسلام السني السائد، مما أثار غضب رجال الدين السعوديين. قد لا يكون هذا مفاجئاً نظراً لخلفية الطيب الصوفية المفترضة. وكما ورد في صحيفة ذا أتلانتك، فإن الوهابية والصوفية تتعارضان مع بعضهما البعض، حيث أن الوهابية لا تتسامح مع الصوفية الأكثر شمولية.
كما أن نهج الطيب تجاه المسيحيين في مصر يظهر لنا جانبين كذلك. فقد بدأ الطيب مبادرة بيت العائلة، وهي اجتماعٌ دوري بينه وبين قادة الكنائس المختلفة في البلاد، وتتضمن أنشطةً لتعزيز الحوار بين الأديان، وتركز على الوحدة و”المصرية” المشتركة لجميع الأديان.
من ناحيةٍ أخرى، اعترض الطيب على قانونٍ موحد جديد لأماكن العبادة و”رفض المساواة تماماً بين الكنيسة والمسجد،” بحسب عزت. فقد كان اعتراضه ناجحاً، ففي عام 2016، أصدرت مصر قانون بناء الكنائس المستقل الذي يضمن بالاسم الحق في بناء كنيسة، إلا أنه من الناحية العملية يفرض قيوداً عليها تحت سلطة الأجهزة الأمنية.
نجح الطيب، خلال الاضطرابات السياسية في السنوات السبع الماضية، في الحفاظ على دورٍ رئيسي للأزهر في ديناميكيات السلطة المصرية، من خلال دعم النظام والجيش بقوة، ومنع التغييرات الداخلية الكبرى في الأزهر، وضمان احتفاظ الإسلام بدورٍ مركزي في السياسات العامة.