تعتبر نادين لبكي واحدةً من أنجح المخرجين العرب في الذاكرة الحديثة، فقد حازت الناشطة اللبنانية البالغة من العمر 45 عاماً على إشادةٍ من النقاد على أحدث أفلامها “كفرناحوم” الحائز على جوائز، والذي يحكي قصة فتى لبناني فقير يبلغ من العمر 11 عاماً يدعى زين، الذي يفر من والديه المسيئين له ومن ثم يقاضيهم بسبب جلبه إلى هذا العالم وفشلهم في الاعتناء به.
طاقم الممثلين بالكامل ظهروا لأول مرة على الشاشة، باستثناء لبكي نفسها، التي لعبت دور محامية زين. معظمهم كانوا من اللاجئين أو أشخاص لا يمتلكون وضعاً قانونياً. فزين، على سبيل المثال، هو في الواقع لاجىء سوري ارتاد المدرسة لفترةٍ قصيرة فقط وكان أمياً أثناء تصوير الفيلم. أما يوردانوس شيفيراو، التي لعبت دور رحيل، وهي والدة أحد الرضع، هي أيضاً لاجئة غير شرعية من إريتريا كانت تعمل بشكلٍ غير قانوني في مطعم قبل أن تلتقي بها لبكي.
الناقد السينمائي في صحيفة نيويورك تايمز أ. سكوت، وصف كفرناحوم بـ”الحكاية مترامية الأطراف المأخوذة من الحياة الواقعية،” وفيلم “يتجاوز تقاليد الأفلام الوثائقة أو الواقعية.” ففي نهاية المطاف، لا يناسب الفليم أي نوع تقليدي.
وقالت لبكي لصحيفة لوس أنجلوس تايمز داخل مقر الأمم المتحدة في نيويورك بعد عرض الفيلم: “لم يكن الممثلون يمثلون.” وأضافت “يأتي الممثل إلى موقع التصوير على أتم الاستعداد، ويعرف حواره، ويكون مستعداً لأن يكون شخصاً مختلفاً، ليكون مكان شخصٍ آخر. لم يكن هؤلاء الأشخاص يمثلون: فالأوضاع تشبه إلى حدٍ كبير ما عاشوه في حياتهم الحقيقية، ولم يشعروا أنهم أصبحوا شخصاً آخر.”
جزءٌ من عامل الجذب، وأيضاً إثارة الجدل، التي تحيط بفيلم كفرناحوم أنه يعرض وصفاً حقيقياً لبيروت. ففي حين يصف العديد من السياح بيروت بباريس الشرق الأوسط، إلا أن الحقيقة المجردة أقل جاذبية. أو بالأحرى، تحمل بيروت بعض التشابه مع العاصمة الفرنسية بكيفية تهميشها وإهمالها للفقراء على نحوٍ متزايد.
يتجلى ذلك من خلال أحد المشاهد الافتتاحية لكفرناحوم، التي تظهر الأطفال وهم يركضون ويلعبون بقطعٍ معدنية في أحد الأحياء الفقيرة في بيروت. تُشير لبكي إلى أن المشهد البائس، يُظهر المدينة كما هي ويعكس عنوان الفيلم.
فقد قالت للإذاعة الوطنية العامة “(كفرناحوم) تستخدم عادةً في الأدب الفرنسي للدلالة على الفوضى، للدلالة على الجحيم، وعدم النظام.”
ومع استضافة لبنان لأكثر من مليون لاجىء، قالت لبكي إن مشاهد التسول لأطفال الشوارع أجبرتها على إنتاج فيلمٍ عن واقعهم اليومي. تتذكر يوماً ما عندما كانت عائدة إلى المنزل من حفلةٍ في الصباح الباكر ومرت بجانب أم وطفلها اللذان كانا يغفوان إلا أنهما لم يتمكنا من النوم.
وقالت للإذاعة الوطنية العامة، “لم نمنحهم الحق في النوم. صدمني ذلك: كل ما سيعرفه هذا الطفل خلال السنتين أو الثلاث سنوات القادمة هو هذا الرصيف الذي يبلغ طوله نصف متر. إنه ملعبه الوحيد.”
أمضت لبكي، التي حركتها الرغبة للكشف عن معاناتهم، أربع سنواتٍ في بناء علاقاتٍ مع أكثر الأسر المهمشة في بيروت. في رحلتها، رأت الظلام االذي يُطبق على اللاجئين والأشخاص غير المسجلين. فغالباً ما تكون هذه الأحياء غير معروفةٍ للمقيمين الذين يعيشون ويجتمعون في أحياء بيروت المعروفة والنابضة بالحياة.
وعلى الرغم من صدقه، يصف بعض النقاد كفرناحوم بـ” بورنوغرافيا الفقر،” وهو وصفٌ يزعج لبكي. من وجهة نظرها، إن البديل الوحيد لعدم إظهار الأحياء الفقيرة في بيروت- التي تشكل جزءاً كبيراً من المدينة- هو بعدم عرض أي صورٍ مزعجة على الإطلاق.
وبحسب ما قالته لصحيفة جلوب أند ميل، “أعترف أني لم أكن مكانهم. إلا أني أمضيت أربع سنواتٍ أتحدث إليهم، لأصبح صوتهم.”
في حين أن لبكي لم تعش أبداً في الشارع، إلا أنها عانت من مشقةٍ غير مسبوقة. نادين، التي ولدت عام 1974، أي قبل عامٍ فحسب من الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً، نشأت على صوت الرصاص والقنابل التي تردد صداها حولها. للتأقلم مع الحرب، كانت تستأجر في الغالب أشرطة فيديو من متجرٍ مجاور لبيتها، مما منحها مهرباً من الصراع.
في سن الـ12، أدركت لبكي أنها ترغب في أن تصبح مخرجة أفلام، ويعتبر كفرناحوم ثالث أفلامها الكبرى ولربما الأكثر إثارةً للجدل. وإذا ما وضعنا إتهامات كون الفيلم “بورنوغرافيا الفقر” جانباً، إلا أن النقد الأكثر صدقاً للفيلم يفترض ضمناً أن على الفقراء عدم إنجاب الأطفال، بدلاً من لعنهم فحسب العوامل الاجتماعية والسياسية التي توّلد وباء الفقر في بيروت.
لكن ما لا يمكن الاعتراض عليه هو أن كفرناحوم غيّر حياة الناس. وقالت لبكي إن الفيلم كان يتشاور مع الأمم المتحدة منذ البداية. ففي نهاية المطاف، يتطرق الفيلم إلى القضايا التي حاولت الأمم المتحدة التخفيف منها منذ أمدٍ طويل، بما في ذلك فقر الأطفال وإهمال الأطفال وعمل الأطفال وأزمة اللاجئين السوريين التي أدت إلى اجتثاث مئات الآلاف من الأطفال من بيئتهم وتعرضهم للصدمة.
وقال لبكي لصحيفة لوس أنجلوس تايمز: “ساعدت [وكالة الأمم المتحدة للاجئين] زين على الوصول إلى النرويج.” وأضافت “إنه هناك الآن، مع والديه، يطل على البحر. تشبه هذه قصةً خيالية.”
كما تساعد الأمم المتحدة أيضاً الأطفال الآخرين الذين ظهروا في الفيلم، مما يعطي لبكي الأمل في أن حياتهم يمكن أن تتغير للأفضل أيضاً. أما بالنسبة لبقية الأطفال المحرومين في لبنان، يمكن للفيلم تقديم الكثير لمساعدتهم في محنتهم.
هذا لا يعني أن لا قيمة لزيادة الوعي، فقد أعرب الناقد سكوت من صحيفة نيويورك تايمز عن أسفه من أن شراء وبيع الأطفال- وهو موضوع مهيمن جداً في الفيلم- يعكس الواقع البائس حيث الروابط البشرية لا تعدو أكثر من كونها مجرد صفقاتٍ بشرية.
وكما يقول، فإن الأسوأ من ذلك هو أن الفيلم يُبين كيف يتم الدفع بأطفال الشوارع ليصبحوا “ماديّين بارعين،” الأمر الذي يتجلى بمحاولات زين دائماً عقد صفقةٍ ما أو محاولته الوصول لشيء ما في كل مرة كان يتعامل فيها مع أحد البالغين أو أحد أقرانه.
ومع ذلك، يعتقد النقاد أن كفرناحوم نجاحٌ لا لُبس فيه. وكما يقول سكوت، هو ليس مجرد قصة خيالية أو عمل فني، بل هو أيضاً صيحات احتجاج ونشيدٌ للمقاومة.